شكّل فهم بلفور العنصري للنظام العالمي العمود الفقري لـ”وعد بلفور” الذي صدر في العام 1917، الذي أنشأ إطارًا قانونيًا إمبريالياً جديدًا في الشرق الأوسط. وقد صادق الإعلان، الصادر في 2 تشرين الثاني (نوفمبر) من ذلك العام، على إنشاء وطن قومي استيطاني على أساس الأرض للشعب اليهودي في فلسطين، مع حرمان الفلسطينيين من حقوقهم الوطنية ومنحهم حقوقهم المدنية والدينية فقط. ففي نهاية المطاف، وتماشياً مع كتاباته، كان الفلسطينيون شرقيين Orientals غير قادرين على حكم أنفسهم أو تحقيق تقرير مصيرهم.
* * *
في 8 تموز (يوليو) 1903، عُقد أول مؤتمر لـ”جامعة الحلفاء الكولنياليين” في “فندق سيسيل” على نهر التايمز إمبانكمنت بلندن. وكان الهدف من تطوير إنتاج المعرفة والشبكات الجامعية هو تعزيز الحكم الإمبريالي البريطاني. وكان آرثر جيمس بلفور، رئيس وزراء المملكة المتحدة في ذلك الوقت، وكذلك مستشار جامعة إدنبرة، أحد المهندسين الرئيسيين لهذا التحول الإمبريالي إلى الأكاديميا. وكان قد تم تعيين بلفور في منصب مستشار إدنبرة في العام 1891، وشغل في النهاية هذا المنصب حتى العام 1930 -وهي أطول فترة يقضيها أحد في منصب المستشارية في تاريخ الجامعة الأبرز في اسكتلندا.
في فندق سيسيل، ترأس بلفور عشاء المؤتمر الذي حضره مندوبو الجامعات ورؤساء الكليات و”رجال بارزون في العمل التربوي والعلمي”. وبعد تبادل شرب الأنخاب المعتاد، ألقى بلفور كلمة احتفى فيها بتأسيس التحالف الأكاديمي البريطاني الاستعماري الجديد، وشرح لماذا كان هذا إنجازًا سياسيًا رائعًا: “ليس الأمر مجرد، أو ببساطة، أو بشكل رئيس، أن هنا في هذه الغرفة ممثلون عن الفكر، والعلوم، وجميع مجالات النشاط العظيمة التي يغمس فيها الفكر الحديث نفسه. إنه أننا هنا نمثل ما سيصبح، كما أعتقد، تحالفًا كبيرًا لأعظم الأدوات التعليمية في الإمبراطورية -تحالفاً لجميع الجامعات التي تشعر، بوتيرة متزايدة، بمسؤولياتها، ليس فقط تجاه تدريب الشباب الذي من المقدر أن يستمروا في حمل ومواصلة تقاليد الإمبراطورية البريطانية، ولكن أيضًا لتعزيز تلك الاهتمامات العظيمة للمعرفة والبحث العلمي والثقافة التي من دونها لا يمكن لأي إمبراطورية، مهما كانت رائعة ماديًا، أن تقول حقًا إنها تقوم بها من أجل المشاركة في تقدم العالم”.
في ذهن بلفور، كان التحالف الأكاديمي الجديد أداة حاسمة لترسيخ هيمنة بريطانيا العالمية. لكنها كانت أيضًا أداة رئيسية لتأكيد شعور بالوحدة الأنجلوسكسونية المصطبغة بالعنصرية. وصرخ المستشار/ رئيس الوزراء المنتشي في عشاء المؤتمر: “نحن نفتخر بمجتمع يجمعه الدم، واللغة، والقوانين والأدب”.
بعد إنهاء ولايته كرئيس للوزراء في العام 1905، انسحب بلفور لما يقرب من عقد من الزمن من مركز الصدارة في السياسة الخارجية الإمبراطورية، قبل أن يعود في العام 1916 كوزير للخارجية. ولكن، في تلك الأعوام العشرة، استمرّ مستشارُ جامعة إدنبرة في بناء مساحة أكاديمية بريطانية كمشروع إمبريالي.
في العام 1912، ربما أيضًا بسبب اهتمامه المتزايد بـ”الشرق” the Orient، طُلب من بلفور أن يترأس جلسة المؤتمر الثاني لجامعات الإمبراطورية حول “مشكلة الجامعات في الشرق فيما يتعلق بتأثيرها على الشخصية والمثل الأخلاقية”. وفي كلمته الافتتاحية، شدد على أنه في الجامعات الغربية كان هناك “تكيف متبادل” بين المعرفة العلمية والتقاليد الاجتماعية والثقافية، في حين أنه في الجامعات الشرقية كان العلم والعادات الاجتماعية يسيران في مسار “تصادمي”. وتتأسس هذه الفكرة عن وجود عدم توافق متأصل بين التقاليد الشرقية والعلم في مفهوم عن وجود تفاوتات عرقية طبيعية، والذي كان بلفور قد طرحه بوضوح قبل بضع سنوات في كتابه المعنون، “عن الانحطاط” On Decadence.
في هذا الكتاب، قالت النظرية التي اقترحها بلفور إن التاريخ الشرقي تهيمن عليه رتابة الاستبداد وعدم القدرة على الحكم الذاتي، وكيف أن “أي محاولة لتزويد أجناس مختلفة تمامًا ببيئة تعليمية (…) مماثلة لا يمكن أن تجعلها متشابهة أبدًا. لقد كان أفراد هذه الأجناس مختلفين وغير متكافئين منذ أن بدأ التاريخ؛ ومقدر لهم أن يظلوا مختلفين وغير متكافئين”.
أرشد هذا النوع من التفكير العنصري تشكيل بلفور الإمبريالي للعالم، سواء كرجل دولة أو كرجل علم وأكاديميا. وشكّل هذا الفهم العنصري للنظام العالمي العمود الفقري لوعد بلفور الذي صدر في العام 1917، الذي أنشأ إطارًا قانونيًا إمبريالياً جديدًا في الشرق الأوسط. وقد صادق الإعلان، الصادر في 2 تشرين الثاني (نوفمبر) من ذلك العام، على إنشاء وطن قومي استيطاني على أساس الأرض للشعب اليهودي في فلسطين، مع حرمان الفلسطينيين من حقوقهم الوطنية ومنحهم حقوقهم المدنية والدينية فقط. في نهاية المطاف، وتماشياً مع كتاباته، كان الفلسطينيون شرقيين Orientals غير قادرين على حكم أنفسهم أو تحقيق تقرير مصيرهم.
كان بلفور قد كتب الإعلان ووقعه قبل زيارته لفلسطين. وفي الواقع، تمت زيارته الأولى في العام 1925، عندما افتتح الجامعة العبرية في القدس مرتديًا أردية جامعتي إدنبرة، وكامبريدج (حيث أصبح مستشارًا في العام 1919). وكضيف على الحركة الصهيونية، قام بجولة في “المستعمرات اليهودية” الأولى التي أقيمت في فلسطين، بما في ذلك “بلفورية”، وهي مستوطنة كانت قد كرستها له القيادة الصهيونية.
في خطابه الافتتاحي على جبل المشارف (المشهد)، احتفل بلفور بالجامعة العبرية باعتبارها تجربة لتكييف “الأساليب الغربية” (العلوم والنظريات اليهودية) مع موقع آسيوي وكمؤسسة قادرة على إعادة إحياء فلسطين راكدة. وتبنى بلفور- رجل- الدولة السرد الصهيوني حول الحاجة إلى إعادة إحياء فلسطين القاحلة أيضًا عندما ارتدى رداء بلفور- مستشار- إدنبرة. وكما أوضح حاييم وايزمان -الذي لعب دورًا حاسمًا في إقناع بلفور بإصدار إعلان العام 1917 ودعاه لإلقاء خطاب افتتاح الجامعة العبرية في العام 1925- في كتابه “التجربة والخطأ”، فإن الجامعة العبرية كانت “تحقيق حلمي الخاص في وقت مبكر من أيام الحركة”، وأداة حاسمة للتكريس الصهيوني في فلسطين. وعلى نحو جدير بالملاحظة، بعد الافتتاح، تم تضمين الجامعة العبرية في شبكة الجامعات الإمبريالية المتحالفة التي ساعد بلفور على تشكيلها في بداية القرن.
تم محو الصلة بين مساهمة بلفور في الحكم الإمبريالي ومساهمته في تطوير الأوساط الأكاديمية الإمبريالية البريطانية تماماً، لسبب ما، وهي لا تظهر في الكم الهائل من الأدبيات والمناقشات المعاصرة حول مشاركته في الشؤون الإمبريالية العالمية وإعلانه السيئ السمعة حول فلسطين.
هذا هو السبب في أننا يمكن أن نستغل الذكرى السنوية لوعد بلفور هذا العام لإعادة اكتشاف هذا الرابط وإثارة بعض الأسئلة الأساسية حول التاريخ الإمبريالي لجامعة إدنبرة، وكذلك الأكاديميا الاسكتلندية والبريطانية، وصلتهما بالحاضر. فكجامعات تتبنى رسميًا وعلنيًا أجندة إنهاء الاستعمار وتحاول إنهاء استعمار المناهج والمجالات الأكاديمية: كيف يمكننا إنهاء تداخل استعمارنا التاريخي مع الظلم الذي تعرض له الفلسطينيون نتيجة للإعلان الإمبريالي الصادر عن أحد مستشارينا؟
لماذا لا نعترف علنًا بأن الرجل الذي تم تعيينه لتعزيز سمعتنا الأكاديمية العالمية لمدة أربعين عامًا، كان أيضًا فاعلًا سياسيًا وفكريًا رئيسيًا في إنتاج نظام إمبريالي عنصري شرد وصادر ممتلكات العديد من الشعوب؟ ماذا ستكون الآثار المترتبة على مثل هذا الاعتراف؟ وبما أن قضية فلسطين ما تزال حية كقضية كولنيالية تستمر في توليد العنف والتشريد، كما رأينا مؤخرًا أيضًا: كيف يمكننا المساهمة، من خلال إجراءات مؤسسية حقيقية وملموسة، في إنهاء استعمار فلسطين وإصلاح تشابكنا المؤسسي مع مشروع استعماري استيطاني يستمر في حرمان الفلسطينيين من حق تقرير المصير واجتثاثهم من أرضهم؟
بعد كل شيء، كان وعد بلفور أيضًا إعلان مستشارنا نحن.
الغد