في كتابه الجديد “بورقيبة والقضية الفلسطينية وامتداداتها العربية- واقعية ريادية أم تنكّر للقضية؟”، يحاول الباحث والمؤرخ التونسي د. عبد اللطيف الحنّاشي تسليط الضوء على “الموقف الإشكالي” للزعيم التونسي الراحل الحبيب بورقيبة من القضية الفلسطينية، والذي لخّصه في خطاب أريحا الشهير عام 1965، ويتعلق أساسا بقبول مبدأ التقسيم ورفض سياسة “الكل أو لا شيء”.
ويحاول المؤلف التزام الحياد تجاه “الحل” الذي قدمه بورقيبة إزاء قضية العرب المركزية، رغم أنه يقر “ضمنيا” بأن العرب (والفلسطينيون خصوصا) ربما أضاعوا فرصة ثمينة بعدما رفضوا تبني مقترح بورقيبة.
وكتب الحناشي، في مقدمة كتابه (292 صفحة) الصادر أخيرا عن “الدار التونسية للكتاب”: “كان اهتمام الحبيب بورقيبة من مواقعه المختلفة بصفته مناضلا سياسيا في إطار حركة التحرر الوطني وبصفته رجل دولة، بالقضية الفلسطينية والقضايا المرتبطة بها، دقيقا وشاملا. اذ نظر إلى القضية وعالجها من جذورها التاريخية وتطورها عبر الزمان ارتباطا بطبيعة الحركة الصهيونية ومؤسساتها ونشاطها في فلسطين وخارجها وتحالفاتها الدولية منذ بروز الفكرة إلى الاعتراف بـ”اسرائيل” مرورا بالحروب العربية الإسرائيلية”.
وأضاف بقوله “على خلفية كل ذلك حاول بورقيبة أن يقدم رؤيته الخاصة اعتمادا كذلك على تجربته في النضال الوطني التونسي ضد الاستعمار الفرنسي بتونس واستئناسا أيضا بتجارب حركات التحرر الوطني في العالم وخاصة تجربة الثورة الجزائرية وكانت مقاربته حول ضرورة الاعتراف بـ”إسرائيل” اعتمادا على القرار الأممي محلّ نقد ورفض من أغلب الدول العربية بل الشعوب العربية استنادا إلى مبررات مختلفة”.
غير أن تشبيه بورقيبة للحركة الصهيونية وكيانها بالظاهرة الاستعمارية الأوروبية المعاصرة (قد تشبه الظاهرة الاستعمارية الحديثة في القارة الأمريكية) يبدو متناقضا مع طبيعة الأيديولوجية الصهيونية وحركتها الإحلالية المستندة على اعتبارات دينية وتاريخية…من ناحية، وتطابقها الموضوعي من ناحية ثانية مع أهداف الرأسمالية الأوربية الحديثة التي سعت إلى تخليص أوروبا من أحد أبرز مشاكلها الداخلية وهو مشكل اللاسامية وذلك عبر تصديرها إلى فلسطين على حساب سكانها الأصليين، وفق ما يؤكد الحناشي.
ويضيف بقوله “ومهما كان الأمر فقد اِستذكر باحثون وصحافيّون وسياسيّون فاعلون بالبلاد العربية، بعد إمضاء اتفاقيّة أوسلو عام 1993 وبعد ما آلت إليه أمور القضيّة الفلسطينية، ببعض من الحسرة المبادرة التي كان طرحها سنة 1965 الرّئيس الأسبق للجمهوريّة التونسيّة الحبيب بورقيبة لحلّ القضيّة الفلسطينيّة. وذهبت أغلب التحاليل آنذاك إلى القول بأن مبادرة بورقيبة كانت بدفع من أوساط غربيّة وصهيونيّة وبدعمها. ولقد كان ذلك أحد أهمّ الأسباب التي دفعت باتّهامه بالعمالة ونعته بأقذع النّعوت”.
ويرى أن “أغلب الكتابات والمواقف، آنذاك، قد اختزلت المبادرة في مقولة واحدة وهي دعوة بورقيبة العرب والفلسطينيين تحديدا الى الاعتراف بـ”إسرائيل”، دون اهتمامها بالقضايا الأخرى التي كان قد طرحها بورقيبة في خطابه وفي الندوات الصحافيّة التي عقدها في القدس وبيروت وتونس. كما أن ّأغلب من عالجوا موقف الحبيب بورقيبة من القضيّة الفلسطينيّة توقّفوا عند خطاب أريحا، دون الاهتمام بمواقفه من القضيّة الفلسطينيّة والقضايا المرتبطة بها، وكذا الأمر بالنسبة إلى مواقفه من الصهيونية فكرا وممارسة وكيانا ما قبل خطاب أريحا، سواء في مرحلة التحرّر الوطني التونسي أو بعد الاستقلال (1956)، أو موقفه من التطوّرات التي عرفتها القضيّة الفلسطينيّة ومواقف الدّول العربيّة وذلك في إطار الصّراع العربيّ الإسرائيليّ العامّ”.
وفي تقديمه للكتاب، يرى المؤرخ د. الهادي التيمومي أن تمسّك بورقيبة بموقفه من القضية الفلسطينية (الذي أعلن عنه في خطاب أريحا)، يعود إلى أنه “كان مقتنعا بأنه يستحيل على العرب هزم إسرائيل لأنها تحظى بدعم الولايات المتحدة الأمريكية وكل العالم الغربي، وكذلك العالم الاشتراكي (سابقا) .حيث دعا الفلسطينيين إلى التكفل بقضيتهم وعدم التعويل على العرب، وإلى تطبيق سياسة المراحل في مقاومة إسرائيل، والنظر إلى موازين القوى في العالم بكل واقعية، وقبول الحلول الوسطى، والشرعية الدولية التي بعثت إسرائيل للوجود رغم انها شرعية ظالمة (القرار 181 الصادر في عام 1947 والقرار 194 الصادر عام 1948 حول تقسيم فلسطين بين الفلسطينيين واليهود ،وحول حقّ اللاجئين الفلسطينيين العودة إلى ديارهم التي طردتهم منها العصابات الصهيونية)”.
ويتابع التيمومي “وبعد عقود من هذا الخطاب الذي استفظعه كل العرب الذين كانوا آنذاك تحت سطوة مصر الناصرية، عاد العرب وأغلب الفلسطينيين للإفصاح عن اعجابهم بحنكة بورقيبة السياسيّة السابقة لعصرها، وبالتحسّر على عدم قبولهم موقفه عام 1965. وليس صدفة أن يختار الفلسطينيون الاستقرار مؤقّتا بتونس بعد ان هجّرتهم إسرائيل بالقوة من لبنان (سبتمبر 1982)، كما انه ليس صدفة كذلك أن يقبل العرب أن تكون تونس عاصمة لجامعة الدول العربية منذ أبريل 1979، وذلك بعد توقيع الرئيس المصري أنور السادات الصلح المنفرد مع إسرائيل (اتفاقية كامب ديفيد) وقد عيّن كذلك التونسي الشاذلي القليبي أمينا عاما لجامعة الدول العربية”.
ويأتي المنتج الجديد، بعد سلسلة من الكتب للحناشي، من بينها “السياسة العقابية الاستعمارية الفرنسية بالبلاد التونسية”، الذي يسلط الضوء على الانتهاكات والمجازر التي ارتكبها الفرنسيون ضد التونسيين، و” السلفية التكفيرية في تونس: من شبكات الدعوة إلى تفجير العقول”، الذي يؤكد أن العنف هو ظاهرة اجتماعية وسياسية في تونس.
القدس العربي