استأثر الصراع السعودي – الإيراني بكثير من الاهتمام خلال السنوات التي أعقبت الغزو الأميركي للعراق، وفي أثناء ثورات الربيع العربي، خصوصا في سورية واليمن، مغيبًا صراعًا لا يقل أهميةً بين القوتين الإقليميتين الأكبر في المنطقة: تركيا وإيران. والواقع أن التنافس التركي الإيراني بدأ مباشرةً بعد غزو العراق، والذي صادف وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في أنقرة عام 2002، وعودة تركيا إلى تركيز أنظارها على المنطقة العربية. وفي غياب دور عربي، تركّز التنافس التركي الإيراني في العراق، لكن بشكل أكبر في سورية. وفيما أقرّت تركيا بنفوذ إيران في العراق لأسباب جغرافية وتاريخية ومذهبية، رفضت إيران الإقرار بنفوذ تركيا في سورية، بل دخلت معها صراعًا صفريا حوَّلَ، بعنفه، ثورة 2011 إلى صراع وكالة، أودى بسورية تقريبًا.
مع ذلك، وعلى الرغم من الانقسام الحادّ والدموي الذي خلّفه هذا الصراع في سورية، حيث تمايز السوريون في ولاءاتهم بين الطرفين، وقاتلوا بضراوة تحت رايتهما، أبدت تركيا وإيران حرصًا شديدًا على منع تحوّل حرب الوكالة السورية إلى صدام مباشر بينهما. الأهم من ذلك، أن العلاقات التجارية بين الطرفين لم تتأثر، ففيما كان السوريون يتناحرون وينتحرون، كانت خطوط التجارة التركية – الإيرانية تزدهر وتتطوّر. وفي عز أيام الحرب السورية، تضاعف حجم التبادل التجاري بين البلدين، ليصل الى 22 مليار دولار سنويًا. وفي ذروة العقوبات الأميركية (2012 – 2013) مثلت تركيا نافذة إيران الاقتصادية ورئتها المالية الرئيسة، فساعدتها في الالتفاف عليها، وهي القضية التي تورّط فيها بنك “خلق” التركي، وقد دانته محكمة أميركية الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول) بتحويل ما قيمته 20 مليار دولار من الذهب إلى إيران، في إطار ما عرفت بصفقة “الذهب مقابل النفط”، حيث كانت إيران محجوبةً عن النظام المصرفي العالمي وتحويلات الدولار. وفي 2015، وقع الطرفان اتفاقية للمعاملات التجارية التفضيلية، أزالا بموجبها الرسوم الجمركية عن نحو 300 سلعة تجارية في محاولة لرفع حجم التجارة بينهما إلى 35 مليار دولار. وفي 2017، وقع البلدان اتفاقيةً لاستخدام العملة الوطنية في التبادل التجاري بينهما.
وخلال السنوات الخمس الأخيرة، شهدت الاستثمارات الإيرانية في تركيا نموا غير مسبوق، إذ يعدّ الإيرانيون اليوم ثاني أكبر مشتر للعقارات في تركيا، بعد العراقيين، واحتلوا المرتبة الأولى في تأسيس الشركات فيها (أسّسوا 1019 شركة عام 2018 و978 شركة عام 2019). ويعتقد مهتمون أن جزءا من هذه الشركات يمثل واجهة للنظام الإيراني لتجاوز العقوبات الأميركية، ويتوقعون أن تصبح تركيا أكبر مُستقطبٍ لشركات “الأوفشور” الإيرانية، إذ تعمد إيران إلى نقل جزء كبير من نشاط واجهاتها التجارية من دبي، بسبب مخاوفها من تطور الشراكة الإماراتية -الإسرائيلية. وتعد تركيا فوق ذلك وجهةً مفضّلة للسياح الإيرانيين، وقد فاق عدد هؤلاء في تركيا عام 2019 عدد زوار العتبات المقدسة في النجف وكربلاء. سياسيا، كان لافتا معارضة إيران القوية للمحاولة الانقلابية التي وقعت في تركيا عام 2016، وتضامن تركيا مع الحكومة الإيرانية في مواجهة الاحتجاجات التي شهدتها إيران عام 2018، وتضامنها أيضا مع حكومة عادل عبد المهدي في مواجهة انتفاضة تشرين الأول في العراق عام 2019.
ويتوقع أن تشهد الفترة المقبلة تقاربا أكبر بين البلدين نتيجة تدهور علاقاتهما بالولايات المتحدة وتراجع الوضع الاقتصادي في كليهما، على الرغم من أن التنافس بينهما انتقل إلى ساحات أخرى (أفغانستان وأذربيجان). وتمثل زيارة وزير الخارجية التركي، مولود جاووش أوغلو، إلى طهران يوم أول من أمس (الاثنين) تطورا لافتا بهذا الخصوص، وهو يمهد بذلك لزيارة يقوم بها قريبا إلى طهران الرئيس أردوغان، ويتوقع أن تسفر عن تحولات مهمة في العلاقات بين البلدين.
هل يسوؤنا أن نعرف أن هذا حال العلاقات الايرانية – التركية فيما كان السوريون يقتتلون؟ بالتأكيد، نعم. أما الآن، وقد صرنا إلى ما صرنا إليه، فتقتضي مصلحة السوريين، خصوصا بعد أن صار قرارهم، نظاما ومعارضة، في يد غيرهم، تشجيع كل تقارب بين رعاتهم، يفيد في حقن دمائهم، ويوقف تشريد مزيد من أبنائهم، وتدمير ما تبقى من بلادهم، وأن يتخلّوا عن وهم أن استمرار هذا الصراع سوف يمنحهم فرصة أفضل لتحقيق نتائج مغايرة.
مروان قبلان
العربي الجديد