أظهرت قضية المفتي العام للجمهورية العربية السورية والذي تم انتخابه من قبل المجلس الإسلامي السوري رداً على إلغاء مقام الإفتاء من قبل رئيس النظام السوري مؤخراً مؤشراً لافتاً يحدث للمرة الأولى خلال العقد السوري الماضي من الزمان. فالأمر لم يكن بإرادة رجال الدين والشارع السني وحسب، إنما تضافرت فيه جهود عديدة أبرز ما فيها هو الدفع الكبير باتجاه انتخاب المفتي العلامة أسامة الرفاعي والذي تم في بُعد من أبعاده، من قبل نخب سورية “غير متدينة”، تجسّد في تواصل تلك النخب والعديد من المثقفين والتيارات الفكرية مع المجلس الإسلامي لتشجيعه على اتخاذ هذه الخطوة التي بدت لهم ضرورية.
والهدف وفقاً لهؤلاء، ليس تنصيب رجل دين يهيمن على الحياة العامة، بل استرداد الرمزية التي يمثلها مقام المفتي العام، الأمر الذي من شأنه أن يستحضر معه العديد من الرمزيات مثل هوية الدولة وعروبتها واتجاهها ورسالة من عموم الشعب، الذي يمثّل المسلمون السنة الغالبية فيه، بأنهم متمسكون بكل تلك القيم الهامة في أي معادلة وطنية مستقبلية.
ما يحدث في سوريا والعراق أشد تأثيراً مما يجري في غيرهما، بحكم كونهما وريثتي الإشعاع الحضاري، وتمتلكان القدرة على الإقناع والتحول إلى أمثولة
الذين يعيشون في زمن الحرب الباردة، من متدينين وغير متدينين، ما زالوا بعيدين كل البعد عن التحولات التي طرأت على العالم منذ ذلك العهد وحتى اليوم، لاسيما الفكري منها. تحولات قادت إلى تشاركية تفرضها الحياة الجديدة في المجتمعات بعد ثورة الاتصالات الأخيرة وشيوع المعلومة وتفتت معنى الرقابة والحدود الفاصلة، إذ أن الفاعل في التغيير لم يعد من الضروري أن يكون مرتدياً للقميص المشابه لمن يعمل على التأثير فيهم، فكل دفقة وعي جديدة ستصبّ في صالح الجميع، بينما سيعمل الصراخ الغوغائي الذي ساد في الزمن الماضي على تشويش رسالة أصحابه وعزلهم بالتدريج عن مجتمعاتهم ونطاقات تأثيرهم، حتى تتقلص تلك النطاقات وتصبح بحدود زبائنية مقتصرة على المنفعة المتبادلة بين صناع الفكر، منتجيه ومروجيه، وبين دوائر ضيقة تستهكله وتستثمر فيه.
الإسلام السياسي لم يدرك هذه المعادلة، ومثله لم يفعل اليسار، فكلما ازدادت حدّة الاستقطاب كلما ابتعد الهدف من العمل السياسي الوطني المشترك، هذا ما دمّر غير مجتمع في العالم العربي، وما فتح الباب واسعاً أمام التكفير السياسي، والتكفير القومي ومزّق الهوية.
وليست كل الحروب تخاض في وقت واحد، ففي ظل الخطر الداهم بزوال الهوية والكيان، توضع الخلافات الفكرية جانباً، ويجري العمل وفق التوافقات الممكنة، لا الإصرار على طرح الاختلافات الجذرية، ما عدا ذلك يصبح الأمر مراهقة سياسية مرّت وتمرّ بها بلدان المشرق العربي في دوامة تتكرّر باستمرار.
وقد يسأل سائل؛ ما علاقة الكتاب والفنانين والروائيين والموسيقيين بمقام الإفتاء؟ وهل يعني هذا اصطفافاً مذهبياً من نوع ما؟ القصة في إدراك حاجات المجتمع والتقاط لحظته المواتية التي لا يحق لنخبته التي تشعر بالانتماء إليه تركه حائراً فيها.
وكثيراً ما تقدّمت الأنظمة التي تدور في فلك إيران اليوم خطوات على شعوبها في فهم وتطبيق آليات معقدة، معتمدة على سيكولوجيا الصراع والحاجة النهمة إليه لدى مكونات المجتمعات العربية، غير أن تلك الخطوات تبقى رهناً باستجابة الناس وكيفية تفاعلهم معها، وتبدو تلك الحكومات مرتاحة لاستنادها إلى مقدّرات دولة، فيما يعتمد المجتمع على حفنة من الباحثين والمفكرين الذين لا يجدون من يدعمهم وإن وجدوا ذلك فسيحصدون منه الفتات، ولذلك يبدو إنتاجهم خليطاً من نزعات شخصية متوترة بسبب ظروفهم الذاتية والموضوعية.
قدر سقف العالم العربي ممثلاً بسوريا والعراق أن تبدأ منه التحولات، وكما بدأت فيهما الدولة العربية الأولى ذات يوم، وبعد ثلاثة عشر قرناً انطلق من إحداهما مشروع التحرر العربي مجددا ممثلاً بميثاق دمشق الذي طالب باستقلال الدول العربية ونيل الشعوب لحرياتها، تعاد الكرة من جديد، ويبدأ طور مختلف من إعادة صياغة علاقة المجتمع مع الدين، علاقة لا تقوم على صبغ الدولة المستقبلية بطلاء ديني ولا على خلع الرموز الدينية من الحياة العامة، بل على بث الطمأنينة بين أطياف المجتمع في مواجهة التجريف الفكري وتذويب الهوية. وما يحدث في هاتين البقعتين من العالم العربي أشد تأثيراً مما يجري في غيرهما، بحكم كونهما وريثتي الإشعاع الحضاري، وتمتلكان القدرة على الإقناع والتحول إلى أمثولة، ما سينعكس على بقية القطع من الصورة المفككة في لحظتها الراهنة.
الذين يعيشون في زمن الحرب الباردة، من متدينين وغير متدينين، ما زالوا بعيدين كل البعد عن التحولات التي طرأت على العالم منذ ذلك العهد وحتى اليوم
وكما لا يمكن تغيير النظرة إلى التيارات الدينية واتصالها مع السياسة من أفغانستان، بل من مرتكز حضاري صلب، وكما لا يمكن الحفاظ على الدولة العربية من التفكك بالنظر إلى تفكك السودان إلى سودانين، بل من بلد مثل العراق تم العمل وعلى مدى عقود على تفتيته ليلاً ونهاراً وما يزال متماسكاً في الوجدان الجماعي، وكما لا يمكن لأي تطبيع مع الإسرائيليين أن يكون فاعلاً حقاً إلا بحضور دمشق وبغداد، فإن أي تغيير قادم نحو سلم عام وتنمية نهضوية في المنطقة لا بد وأن تشخص الأنظار فيه أولاً نحو المشرق العربي، فهناك تدور القصة كلها.
التفكير خارج الصندوق يبدو ضرورة في هذه المرحلة، ولم يعد لقطة في مشهد، بل حاجة ماسة تدعو إليها الظروف التي ارتطمت بجدران ليس فقط من العصي على السوريين تجاوزها، بل على دول مستقرة ذات ثقل في العالم، وتكفي حادثة تهريب رفعت الأسد التي ما زالت الصحافة الفرنسية تتهم فيها الحكومة والمخابرات الفرنسية بقبض الثمن من مجرم مدان والسماح له بالعودة إلى أحضان ابن شقيقه في دمشق. ادعاء العجز عن معاقبة من ارتكب جرائم السلاح الكيمياوي واعتقل وقتل مئات الآلاف من المدنيين الذين تسببت صورهم بسن قانون “قيصر”، قانون لا يعمل المسؤولون الأميركيون على تفعيله، بل تركوه بيد السياسيين “البراغماتيين”، فيما هو واجب التنفيذ والامتناع عن تنفيذه جريمة بحد ذاتها، ولا نهاية للنماذج التي تبرهن على أن الحالة السورية ليست حصة حساب بسيطة في مدرسة ابتدائية، بل غاية في التعقيد والتشابك مع قضايا المنطقة والعالم التي تبرز فوق السطح والتي تعشش تحت الطاولات.
العرب