منافسة التيار السلفي للإخوان المسلمين لم تبق عند حدود المواجهة الفكرية أو بناء علاقات مع الأنظمة لقطع الطريق أمامهم وملء الفراغ الذي يتركونه، ويبدو أنها تتطور لأجل بناء تنظيم دولي للسلفيين لمزاحمة غريمهم التاريخي الناشط بقوة في الغرب، وخاصة في أوروبا. فهل يمتلكون مقومات ذلك؟
القاهرة – كُشف لأول مرة في سنة 2015 عن مُسمَى لكيان غير معروف في الساحة وهو ما أُطلق عليه التنظيم العالمي للسلفيين، عندما زعم وجوده محمد الأباصيري وهو أحد ناشطي السلفية المدخلية بمصر نكاية في منافستها الدعوة السلفية على إحدى الفضائيات المصرية.
وعلى عكس التنظيم الدولي للإخوان المعروف لدى الباحثين من حيث إرهاصات تشكله على يد سعيد رمضان صهر مؤسس الجماعة حسن البنا منذ ستينات القرن الماضي وسنة تأسيسه الفعلية في العام 1928 فضلًا عن أهدافه ومموليه ورعاته ورموزه وأجنحته الفاعلة ودوره في الأحداث الإقليمية والدولية خاصة خلال عقد ما بعد انطلاق الربيع العربي، لم يقدم أحد دليلًا على وجود تنظيم دولي للسلفيين على غرار تنظيم الإخوان.
وهم أم حقيقة
ليس هناك شك في أن انعكاسات عولمة تيار الإسلام السياسي بزعامة الإخوان فضلًا عن توجهات السلفية الجهادية الأممية مثل داعش والقاعدة قد طالت التيار السلفي
أثار مؤخرًا بعض الباحثين والمختصين في شؤون الجماعات الإسلامية قضية وجود تنظيم عالمي للسلفيين، مستعينين ببعض الشواهد والاجتهادات الداعمة لما قدمه الأباصيري في العام 2015 والذي من أجل أن يبرهن على وجود هذا الكيان لم يزد عن ذكر أسماء بعض الكيانات الدعوية الناشطة في أوروبا زاعمًا أنها تابعة لإدارة سلفية مركزية يشرف عليها الداعية السلفي الكويتي عبدالرحمن عبدالخالق.
واستعان هؤلاء المراقبون بشهادات بعض ناشطي التيار السلفي مثل محمد علي إبراهيم نائب رئيس حزب النور السلفي في مصر الذي علل تأسيس السلفيين لتنظيم عالمي شبيه بالتنظيم الدولي للإخوان بحرصهم على مواجهة انحرافات جماعة الإخوان في قلب مراكز نشاطها بطريقة منظمة ولإيمانهم بأهمية العمل التنظيمي وضرورته والذي يضبط نشاطات الكيان وينسقها منذ تأسيسه في سبعينات القرن الماضي.
ليس هناك شك في أن انعكاسات عولمة تيار الإسلام السياسي بزعامة الإخوان فضلًا عن توجهات تنظيمات السلفية الجهادية الأممية مثل داعش والقاعدة قد طالت التيار السلفي، الذي وجد نفسه في خضم تفاعلات دولية وإقليمية غير مسبوقة منذ بداية العام 2011 جعلته يهتم بشكل مكثف بتنظيم نشاطه الخارجي وترتيبه خاصة وأنه ممتد وحاضر بالمنتمين لأفكاره والمدافعين عنها في كل دول العالم تقريبًا، فضلًا عن حاجته الماسة إلى اللعب بالعديد من الأوراق وإسناد نفوذه من خلال ساحات بديلة إذا تعرض للتراجع وجرى التضييق عليه في ساحة ما خاصة تلك التي تُعد من معاقله التقليدية.
وخلال سنوات ما بعد الربيع العربي حدثت طفرة غير مسبوقة لمجمل تيار الإسلام السياسي فيما يتعلق بالنشاط الخارجي؛ فالتنظيم الدولي للإخوان لم يعد مجرد هيكل تنظيمي لإدارة الموارد والإشراف على الفعاليات الثقافية والدعوية إنما صار فاعلًا رئيسيًا في الأحداث الإقليمية وتطورت أدواره السياسية لصعود أجنحته إلى السلطة وارتباطه بمشاريع توسع إقليمية.
وعلاوة على ما طرأ من تطور كبير على نشاطات التنظيم الدولي للإخوان وطبيعة أدواره وحجم نفوذه وعلاقاته، جرت متغيرات هائلة على مستويات تمدد جماعات السلفية الجهادية وحضورها وتوظيفها دوليًا وإقليميًا، ولعل بروز تنظيم داعش بتصوراته المختلفة وقدراته المالية والدعائية وحجم ما حققه على مستوى التمدد في كل قارات العالم قد كشف حجم هذا التحول على مستوى عولمية هذا التيار بالمقارنة بما كان عليه داخل كل دولة على حدة قبل العام 2010.
لم يشذ التيار السلفي التقليدي عن تلك الحالة حيث كان حاضرًا وفاعلًا بقوة في مشهد الأحداث خلال تلك الفترة، بالنظر إلى رغبة قادته ورموزه في ألا تتجاوزهم الأحداث وأن يستفيدوا من المتغيّرات على الساحة التي كان ظاهرها يشي بأنها تصبّ في مصلحة الإسلاميين عمومًا، فضلًا عن الاختراق الواضح لهذا التيار الكبير من حيث العدد وتنوع أجنحته من قبل كل من تنظيم الإخوان والسلفية الجهادية بغرض التزوّد من جماهيريته وحضوره وحتى زاده الفقهي والتنظيري المبثوث في المساجد والفضائيات لدعم برامجهما ومشاريعهما في السلطة وإسنادها محليًا وإقليميًا على اختلاف أدواتهما.
ووجد التيار السلفي نفسه مُساقًا في اتجاه توطيد نشاطه الخارجي وتطويره ومحاولة ربط أجنحته على مستوى العالم بناظم مركزي، وهو ما جرى ترجمته فيما اعتبره البعض ملامح تشكل تنظيم دولي للسلفيين، سواء فيما يتعلق بالنشاط الفقهي الذي تبلور في رابطة علماء المسلمين التي أشرف عليها الداعية السلفي أحمد الصويان، وكان من رموزها ناصر بن سليمان من السعودية وعبدالله شاكر رئيس أنصار السنة المحمدية ومحمد يسري إبراهيم من مصر.
ومن إرهاصات تشكل تنظيم عالمي للسلفيين ما لوحظ من ازدياد أعداد معتنقي الأفكار السلفية المتشددة في دول أوروبا وتزايد أعداد المساجد التي يديرونها ويشرفون عليها هناك خاصة في بريطانيا وألمانيا، وما لوحظ من حضور لرموز السلفية المعروفين على النطاقين الدولي والإقليمي سواء للقيام بمهام دعوية كزيارات أبوإسحق الحويني وغيره إلى مساجد أوروبية أو مهام سياسية كحضور عبدالرحمن عبدالخالق فعاليات سياسية لأحزاب تابعة لهذا التيار بالمنطقة العربية.
يُمكن النظر إلى هذه الطموح السلفي في تشكيل شبكة دولية فقط في إطار زمني محدود وضمن حالة التوظيف والاستغلال من منظمات أخرى بلغت مستويات هائلة في ممارساتها وعلاقاتها الدولية كجماعة الإخوان التي أضاف لها التمدد المتسلف المزيد من التغلغل والتوسع، خاصة فيما يتعلق بمد مشروع الإخوان في السلطة بمواد فقهية مستقاة من قراءات أصولية مجتزأة وأحادية للنصوص من خلال تقديمها كصيغ شرعية جاهزة على مقاس أطماع الإخوان في السلطة وفي التمدد بالخارج.
في حين لا يمكن التسليم بمقولات تهول من حجم ونفوذ السلفيين دوليًا لتبرير تصوّرات تزعم وراثة ما أُطلق عليه التنظيم العالمي للسلفيين للتنظيم الدولي للإخوان الذي يعاني تراجعًا وتخبطًا وتضييقًا عليه من قبل الحكومات الأوروبية فضلًا عمّا أصابه من نكسات في المنطقة العربية.
السلفيون يعانون من البدائية والأداء التقليدي سواء في المظهر أو الطرح الفكري والذي يكشفهم سريعًا، علاوة على تبنيهم علانية للرؤية التآمرية
وعلى المستوى السياسي ضُرب هذا الطموح السلفي في مقتل مبكرًا بعد ثورة يونيو 2013 في مصر التي أصابت جماعة الإخوان في مقتل، وعلى الرغم من استفادة السلفيين في مصر من تقليص دور الإخوان وصولًا إلى تقويضه واستمرارهم في المشهد، إلا أن الخلاف بين الجناح السلفي المصري والأجنحة السلفية في الخارج بشأن تأييد النظام الجديد في مصر ومعارضته أحدث ما يشبه القطيعة بين رموز السلفية وأفرعها في الخارج وفرع السلفية في مصر الذي اختار التأييد ومواصلة العمل السياسي.
وفي ذات السياق خسر السلفيون دعم القوى الخارجية التي باتت تعتبرهم من بين عوامل التطرف وبث الأحقاد والكراهية وعاملا من عوامل الفوضى والعنف وعدم الاستقرار، وهو ما أدى إلى تراجع دعمهم إقليميًا ودوليًا بسبب اختلاف الأولويات السياسية لدى الأنظمة الحاكمة، وأدى ذلك إلى تقويض نفوذهم وتراجع أدوارهم.
ففي ضوء عدم امتلاكهم مراكز دعم اقتصادية أو سياسية أو تنظيمية مستقلة مثل التي تتمتع بها جماعة الإخوان وتناقض تحالفات السلفيين في أعقاب ثورة 2013 والانقسامات بين سلفيي الخارج والداخل وبين سلفيي الداخل بعضهم بعضًا، علاوة على ما يعانيه التيار السلفي في الأصل من تشرذم وتناحر بين العديد من المدارس والجماعات التي قد تتلاقى في بعض الأفكار لكنها تختلف في طريقة تطبيقها، بات من الصعب بلورة صيغة وحدة سياسية تجمع السلفيين في إطار تنظيمي موحد على مستوى العالم، بل حتى على مستوى القطر الواحد.
واستفاد التنظيم الدولي للإخوان الذي يدير بعناية علاقاته ويخفي طبيعة نشاطاته في الخارج من الممارسات السلفية الأصولية المعلنة من خلال طرح ازدواجية المتشدد والمعتدل، فضلًا عن افتقار السلفيين في عمومهم إلى مستويات براغماتية الإخوان التي أوصلتهم للتعاون مع الإيرانيين الشيعة والتنسيق مع شيعة أوروبا وهو ما يرفضه تمامًا السلفيون الذين يكفرون الشيعة ويعتبرونهم عدوًا رئيسيًا.
وعلى مستوى الأفكار لا تزال أطروحات السلفيين تراوح مكانها ولا ترقى إلى تغذية حركية عولمية حيث ينحصر تفكيرهم داخل حدود حالة يحكمها إمام المسلمين الذي له في رقابهم بيعة دون أن يكونوا معنيين بشكل حركي بالصراعات في الدول الأخرى، وهو ما ترك لجماعة الإخوان فرص الترويج لنفسها بزعم كونها المعنية الأولى بصد الأخطار المحدقة بالإسلام وبالأمة الإسلامية من استعمار غربي ومد صهيوني وعلمانية كافرة وماسونية عالمية، لتعزيز تمدد تنظيمها الدولي.
وعلى الرغم من تراجع التنظيم الدولي للإخوان واستنفار الحكومات في غالبية الدول الأوروبية ضده إلا أنه لا يزال فاعلا، وهذا يعود إلى أن انتماءات عناصر التنظيم نادرًا ما تكون مرئية وواضحة للجميع، علاوة على توخي العمل تحت غطاء من جمعيات العمل الخيري الراسخة قانونيًا ونشاط المنظمات غير الحكومية.
في المقابل يعاني السلفيون من البدائية والأداء التقليدي سواء في المظهر أو الطرح الفكري والذي يكشفهم سريعًا، علاوة على تبنيهم علانية للرؤية التآمرية التي يرون غير المسلمين بموجبها أعداءً رئيسيين يسعون لإخراج المسلمين من معتقداتهم وهو ما جعل برنامجهم الرئيسي في دول الغرب يتمحور حول مناهضة القيم والسلوكيات والعقائد الغربية.
العرب