كشفت تقارير صحفية متعددة المصادر، مؤخرا، من بينها تقرير صدر عن صحيفة نيويورك تايمز الأميركية أنّ “كبار القادة” في القيادة المركزية الأميركية يتلاعبون بالتقارير الإستخباراتية لإضفاء لمعان غير مبرر حول نجاح الضربات الجوية التي ينفذها التحالف الدولي ضد داعش؛ من خلال “الترويج للعمليات الاستخباراتية الهائلة للقيادة المركزية الأميركية، التي تضم حوالي 1500 شخص بين مدنيين ومحللين عسكريين ومحللي عقود، يتواجدون في قاعدة ماكديل الجوية في تامبا”.
وتعتبر القيادة المركزية الأميركية، واحدة من بين ستة أجهزة عسكرية أميركية تتقاسم كوكب الأرض على شكل فطيرة، خاصة أنها تضم ذاك العدد الكبير من محللي الاستخبارات (العسكرية والمدنية والمتعاقدين من القطاع الخاص). وهي بالأساس القيادة المسؤولة عن أي حرب تخوضها البلاد وعن مشروع الشرق الأوسط الكبير، الذي يعتبر الآن مجرد رقعة أرضية تعمّها الفوضى ويمزقها الصراع وتمتد فيها الدول الفاشلة من حدود باكستان إلى مصر.
ولا يمثل العدد المذكور سلفا من المحللين أولئك الموجودون في مبنى تامبا فقط، ولكن أيضا العاملين في القاعدة الأميركية في قطر، بالإضافة إلى وجود حوالي 3500 من أفراد القوات المسلحة في العراق. ويطرح هذا العدد الكبير في ظل الفشل الذي منيت به العمليات الأميركية الأخيرة التي تستهدف القضاء على تنظيم داعش، تساؤلا مفاده؛ ماذا يفعل هؤلاء المحللين إزاء المستنقعين السوري والعراقي؟ خاصة بعد أن تحدث الرئيس الأميركي مؤخرا عمّا أسماه حربا فاشلة في أفغانستان بعد 14 عاما من القتال.
إمكانيات مهولة
تفيد العديد من المعطيات بأنّ المخابرات والجيش الأميركيين هما الأقوى والأكثر نشاطا على مستوى العالم، حيث لا يمكن حصر تدفق المعلومات والمعطيات على مقر القيادة المشتركة؛ فهناك “استخبارات بشرية”، والتي تتمثل في العملاء المنتشرين على الأرض، وهناك الصور التي توفرها الاستخبارات عبر الأقمار الاصطناعية (المخابرات الفضائية).
ونظرا إلى حجم ونطاق أنشطة المراقبة الأميركية العالمية، يجب أن يكون هناك أطنان لا تحصى من الإشارات المخابراتية (أوسيجينت)، خاصة في ظل العدد الهائل للطائرات دون طيار التي تحلق فوق ميادين القتال وساحات المعارك في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط.
أجهزة الاستخبارات الأميركية أصيبت بالذهول من سرعة متطرفي تنظيم داعش ومن تقدمهم في شمال العراق
وتعدّ تلك الإشارات أشبه بنهر من الفيديوهات التي تصور كامل المشهد المتحرك، والذي يصب في مقر القيادة المركزية الأميركية ومراكز القيادة المختلفة، دون نسيان المعلومات التي يتم تقاسمها مع أجهزة المخابرات الحليفة، بما في ذلك العيون الخمس للدول الأعضاء في مجلس الأمن، وغالبية دول الشرق الأوسط.
وبطبيعة الحال، يشعر بعض المحللين جراء هذا السيل الجارف بالرتابة في تعاملهم مع المعلومات الواردة بشكل يومي، بالإضافة إلى ما توفره فضاءات الإذاعة والتلفزيون والصحافة والإنترنت والمجلات العلمية وغيرها.
ومجرد التفكير في هذا الكم الهائل من المعطيات يوحي بأنّ حجم الاستخبارات بات اليوم يفوق ذلك الذي كان سائدا زمن الأنظمة الشمولية في القرن العشرين، فمجتمع المخابرات الأميركية يضم 17 وكالة وجهازا، ينفق عليها حوالي 70 مليار دولار سنويا، وتم إنفاق ما يفوق 500 مليار دولار ما بين عامي 2001 و2013. دون الغفلة على أنه وفي السنوات الأخيرة عززت الولايات المتحدة نوعا من المراقبة العالمية ذات أبعاد تصل إلى الدرجة التي حددها جورج أرويل كأداة لتدمير رفاهة العيش في المجتمعات الحرة والمفتوحة.
ويقوم هذا النوع من المراقبة بجمع المليارات من رسائل البريد الإلكتروني والمكالمات الهاتفية حتى من تلك الزوايا المظلمة في كوكب الأرض؛ وهي تتحكم بما لا يقل عن حسابات 35 من زعماء الدول الأخرى، والسكرتير العام للأمم المتحدة عن طريق قرصنة حسابات البريد الإلكتروني، والتنصّت على الهواتف المحمولة، وما إلى ذلك.
500 مليار دولار تم إنفاقها على أجهزة المخابرات الأميركية ما بين عامي 2001 و2013
كما أن الولايات المتحدة الأميركية حذرة جدا بخصوص ممارسات مواطنيها، بما في ذلك استخدام ألعاب الفيديو. ويبدو أن هناك جواسيس داخل الكونغرس الأميركي نفسه.
وبعبارة أخرى، ينبغي أن يدرك المرء أن العدد الكبير من المحللين الأميركيين يقف وراءه نظام أكبر بكثير يكون في حجم المعلومات التي يتم جمعها، بشكل أقرب إلى الخيال العلمي.
وخلال هذه الأعوام، تبدو شبكة الاستخبارات أشبه بهيكل عملاق من المخابرات البيروقراطية الغارقة في كم هائل من المعلومات، ويبدو أنّ الجيش الأميركي قام بتقليص هياكل الاستخبارات إلا أنها توفر الحجم نفسه من المعلومات.
ولكن وعلى الرغم من هذه الإمكانيات الكبيرة يبدو أنّ الاستخبارات الأميركية لم تكن ناجحة على الدوام بل إنّها كانت السبب في فشل العديد من العمليات في أفغانستان والعراق، وآخرها ما يدور حول فشلها وعدم فاعليتها في الحرب التي تشنها على تنظيم داعش إلى درجة أنّ أحد كبار القادة تنصّل من البيانات حول الضربات الجوية ضد هذا التنظيم في وسائل الإعلام.
لذلك من المفترض أن يكون هناك وسيلة ما لقياس فعالية العمليات الاستخباراتية. وفي الواقع، من الممكن إنتاج مقياس تقريبي لفعاليتها.
فشل متكرر
نظرا إلى التعقيدات التي ترافق أي تقييم لمدى نجاعة العمليات الاستخباراتية الأميركية، بات من المفترض أن تكون هنالك وسيلة ما لقياس فعالية تلك العمليات، وهو ما يمكن أن يتم عبر إنتاج مقياس تقريبي لفعاليتها، حيث تؤكد بعض الأمثلة المختارة بشكل عشوائي من الأحداث الأخيرة في مجال قيادة المنطقة الوسطى، استيلاء المئات من مقاتلي حركة طالبان في نهاية شهر سبتمبر الماضي على محافظة قندوز شمال العاصمة الأفغانية، وهي أول مدينة تسيطر عليها حركة طالبان، ولكن لفترة وجيزة، منذ أن تم طردها إلى خارجها في العام 2002. وحول هذه العملية، تفيد الأنباء بأنّ مقاتلي طالبان واجهوا حوالي 7 آلاف فرد من قوات الأمن الأفغانية التي كانت الولايات المتحدة قد دربتها ومولتها وسلّحتها منذ سنوات.
وترددت أنباء صحفية كثيرة عن تشديد سيطرة طالبان لعدة أشهر على المناطق الريفية حول قندوز واختبار دفاعات المدينة. ومع ذلك، يفترض أنه تم خلال شهر مايو الماضي توفير أفضل التحليلات الاستخبارية من القيادة المركزية الأميركية، وذكر قائد القوات الأميركية في البلاد، الجنرال جون كامبل متنبّئا “إذا ألقينا نظرة عن كثب على بعض الأشياء في قندوز وحتى في مقاطعة بدخشان المجاورة، نتبيّن أن طالبان سوف تهاجم بعض نقاط التفتيش الصغيرة جدا، وسوف يوجه مقاتلوها بعض الضربات هناك، ولكن رغم ذلك لن يتمكنوا من السيطرة على رقعة جغرافية شاسعة هناك”.
وخلال مؤتمر صحفي تم عقده في 13 أغسطس الماضي، سأل مراسل شبكة “إيه.بي.سي” الإخبارية العميد ويلسون شوفنر، نائب رئيس موظفي الاتصالات في أفغانستان “لقد شهد نشاط طالبان في شمال أفغانستان زيادة واضحة، وخاصة حول قندوز. ماذا وراء ذلك؟ هل تواجه القوات الأفغانية في ذلك الجزء من أفغانستان خطر الانهيار أمام طالبان؟، فرد شوفنر بالقول “أعتقد أنه كان هناك الكثير من التعميم عندما يتعلق الأمر بالتقارير الواردة عن الشمال. قندوز بمنأى عن خطر السقوط في يد طالبان، ومع ذلك فإن هذا لا يعدو سوى أن يكون نظرة عامة عن الشمال، وهذا ما نراه”.
ولكن المسار المخالف الذي جرت على أساسه الأحداث، جعل من أحد القادة الأميركيين يقرّ بأنّ “السقوط السريع لقندوز فاجأ المسؤولين الأميركيين والأفغان، خاصّة أنّ المخططين العسكريين الأميركيين لطالما شدّدوا لسنوات على أن القوات الأفغانية قادرة على المحافظة على سيطرتها على المدن الكبرى”.
وقال أحد كبار الضباط الأميركيين الذين عملوا في أفغانستان، والذي رفض الكشف عن هويته، إن ”ذلك لم يكن من المفترض أن يحدث”. وهو ما يفيد بأن عطبا أو عطلا ما أصاب عمليات تحليل المعلومات الاستخباراتية الأميركية التي لم يكن أداؤها قدر التطلعات.
وعلى الرغم أنّ الأميركيين أعلنوا أنّ طالبان بسطت سيطرتها على قندوز “على حين غرة”، وفق ما روّجت له القيادة العليا الأميركية التي صُدمت من عدم قدرة الجيش الأفغاني على الصمود، إلاّ أنه كان من المفروض أن يتوقعوا حصول مثل هذا الأمر، خاصة إذا ما تمت المقارنة مع الانهيار المدوي للجيش العراقي الذي تدعمه الولايات المتحدة، عبر التدريب والتجهيز والتسليح، والذي واجه تجربة مماثلة في الموصل في يونيو عام 2014 عندما تمكنت أعداد صغيرة نسبيا من متشددي الدولة الإسلامية من إسقاط قوات الجيش والسيطرة على بعض المدن الكبرى.
وقد ذكرت صحيفة وول ستريت جورنال أنّه في ذلك الوقت، كان القادة العسكريون وكبار مسؤولي الإدارة الأميركية وصولا إلى باراك أوباما “مندهشين من الانهيار السريع لقوات الأمن العراقية والنجاحات التي حققها تنظيم الدولة الإسلامية في شمال العراق”. وكتب كل من بيتر بيكر وإريك شميت في وقت سابق “لقد أصيبت أجهزة الاستخبارات الأميركية بالذهول من سرعة المتطرفين، ومن تقدمهم في شمال العراق”. وأضاف ديفيد إغناطيوس من الواشنطن بوست “لا يجب أن ننسى أن شيئا من هذا القبيل حدث مرة أخرى في مايو 2015 عندما كان المسؤولين الأميركيون والمخابرات مصدومين مرة أخرى من الانهيار المماثل للقوات العراقية في مدينة الرمادي في محافظة الأنبار”.
مثال آخر ليس بعيدا عن العراق يثبت بدوره قصور الجهود الاستخباراتية الأميركية وعجزها على التعامل مع الكثير من التغيرات، تجلى بوضوح في سوريا، حيث فشل البرنامج الذي أعده البنتاغون والمقدر بـ500 مليون دولار في تدريب القوات السورية المعتدلة التي يمكنها محاربة الدولة الإسلامية. وأكبر مثال على ذلك، فشل قوة متكونة من 54 عنصرا كانت الولايات المتحدة قد دربتهم، حيث كانت النتيجة كارثية بعد تخليهم عن أسلحتهم والهرب في مواجهة مقاتلي جبهة النصرة، الذين قاموا باختطاف اثنين من قادة هذه المجموعة ومهاجمة باقي عناصرها. وبعد ذلك بوقت قصير، شهد الجنرال الأميركي الذي يشرف على الحرب ضد الدولة الإسلامية أمام الكونغرس بأنه ليس هناك سوى “أربعة أو خمسة من المقاتلين الذين دربتهم واشنطن بقوا في أرض المعركة”.
وقد نشرت صحيفة نيويورك تايمز تفاعلا مع هذه الحادثة تقريرا جاء فيه أن “عددا من كبار المسؤولين الحاليين والسابقين في الإدارة الأميركية اعترفوا بأنّ الهجوم وعملية الاختطاف اللذين نفذتهما جبهة النصرة على حين غرة، يكشفان عن الفشل الكبير الذي منيت به أجهزة الاستخبارات. وفي الوقت الذي قطع فيه المدربون العسكريون الأميركيون أشواطا طويلة لحماية المجموعة الأولى من المتدربين ضد هجمات الدولة الإسلامية أو قوات النظام السوري، لم يتوقعوا البتة هجوما مباغتا من جبهة النصرة. وفي الواقع، قال المسؤولون إنهم كانوا يتوقعون أن ترحب جبهة النصرة بالمتدربين كحليف لها في مواجهة الدولة الإسلامية”.
رغم أن العمليات الاستخباراتية الأميركية تعد الأكثر شمولا وتكلفة إلا أنها مازالت قاصرة عن الإلمام بأزمات الشرق الأوسط
في أعقاب تلك الكارثة، صدمت القيادة المركزية الأميركية وكامل جهاز الاستخبارات والمحللين، من الطريقة التي تصرفت بها الوحدة الثانية التي دربها الأميركيون والمتكونة من 74 عنصرا، حيث أنهم سلموا أسلحتهم لمقاتلي جبهة النصرة مقابل توفير ممرّ آمن لهم، وفي وقت لاحق قامت جبهة النصرة بنشر صورا للأسلحة التي غنمتها من هذه الوحدة، متحدثة بكثير من الفخر عمّا تم تحقيقه. وعلى الرغم من أنّ مسؤولي القيادة المركزية الأميركية قد نفوا حصول ذلك في البداية، إلاّ أنهم اعترفوا بعد ذلك على مضض.
وتفيد أنباء متفرقة بأنّ المسؤولين الأميركيين تفاجؤوا، مؤخرا، من مراكمة الروس للأسلحة والطائرات والعاملين في سوريا في البداية، ورغم وجود 1500 من محللي القيادة المركزية الأميركية وبقية أجهزة المخابرات المتعددة في الولايات المتحدة لم يكتشفوا الأمر. ومن جديد تفيد معطيات بأنهم أُخِذوا على حين غرة مع بداية الحملة الروسية في سوريا ضد مختلف الجماعات المتشددة وحتى التشكيلات المعارضة المدعومة من قبل وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية سي.آي. إيه، في مساندة واضحة للرئيس السوري بشار الأسد. كما أنهم فوجؤوا بالطريقة التي أعلن بها الروس عن قرب بدء العملية العسكرية؛ عندما وصل جنرال روسي يحمل ثلاث نجمات على كتفه إلى السفارة الأميركية في بغداد لتقديم إشعار بساعة الانطلاق.
خلاصة القول، تفيد جل المعطيات السابقة بأنه ومهما كانت الجهود التي يبذلها محللو الاستخبارات، عندما يحدث أي شيء في الشرق الأوسط الكبير، يمكن افتراض ردة فعل عسكرية أو سياسية مفاجئة من المسؤولين الأميركيين، وهو ما يجعل صناع القرار يسقطون في مستنقع الجهل لإنقاذ السياسة الأميركية ممّا هو غير متوقع. وبعبارة أخرى، رغم العمليات الاستخباراتية الأميركية الأكثر شمولا وتكلفة على كوكب الأرض، ورغم كل تلك الأقمار الصناعية والطائرات دون طيار وعمليات التمشيط والمراقبة والمصادر الموفرة للمعلومة، بالإضافة إلى الحشود الهائلة من المحللين وجحافل من المتعاقدين بشكل خاص، وعشرات المليارات من الدولارات، والكم الهائل والوافر من المعلومات الاستخباراتية، إلا أنّه لا يسع المرء سوى أن يقول “مرحبا بكم في دولة الأمن القومي التي تتميز بضبابية أجهزة استخباراتها وبأنها دائما ما تؤخذ على حين غرّة”، وفق تعبير أحد المسؤولين.
صحيفة العرب اللندنية