مرضى نفسيون يقودون العالم!

مرضى نفسيون يقودون العالم!

2251

جيرولد بوست، مؤسس مركز تحليل الشخصية والسلوك السياسي في الاستخبارات الأمريكية، والمسؤول عن وضع الملفات الشخصية لأنور السادات ومناحيم بيغن التي استخدمها جيمي كارتر في محادثات كامب ديفيد.

“الأساسات السيكولوجية للاإنسانية الإنسان مع الإنسان الآخر مزروعة بعمق في سيكولوجيتنا الجماعية، عندما يبدو العالم محلقًا خارج نطاق السيطرة؛ فهي قوى الشخصية القوية والسلوك السياسي اللتان تدفعان هذه الحركات العنيفة، ولكن إذا كانت هذه القوى الخارجة عن السيطرة في تطرفها الإبادي هي التي تكمن وراء التطرف المرعب للتطهير العرقي؛ فإن السيطرة على هذه القوى ستساعد في تطبيب هذه الجروح التي تمزقنا إربًا، وإذا كانت بعض اللحظات الأكثر شرًا في تاريخ الإنسان قد نشأت من علاقات “القائد- التابع” الكاريزمية- التدميرية؛ فإن علاقات “القائد- التابع” الكاريزمية– الترميمية قد أنتجت بعض أكثر إنجازات الإنسانية بطولة”، جيرولد بوست.

ما الذي يجعل القادة يقودون، والتابعين يتبعون؟ ما هي الرابطة القوية بين القائد والتابع؟ ما هي الإدراكات الخاطئة التي تقود إلى النزاعات والصراع الدولي؟ ما هي الأساسات السيكولوجية للتعامل غير الإنساني لإنسان مع آخر المصاحبة للتطهير العرقي وصراع الإبادة الجماعية؟ لا يمكن الإجابة عن هذه الأسئلة بدون فهم الأساسات السيكولوجية لشخصية القائد. إن الإجابة عن هذه الأسئلة، وأخرى مشابهة لها، هي الهم الأساسي في هذا الكتاب.

الكتاب والمنهج

يقدم جيرولد بوست في هذا الكتاب دراسة نظرية في شخصية القائد، ومراحل حياته، وعلاقته بتابعيه وخصومه. محاولًا تفسير صناعة القرار السياسي من خلال إرجاعه إلى عوامل سيكولوجية لدى صانع القرار. ويبني بوست في عمله على العديد من النظريات النفسية والشخصية، ويستفيد من أنواع البيانات المختلفة، ويكملها بمقابلات مع أشخاص تعاملوا مع القادة، ومقابلات مع أفراد ألقي القبض عليهم (إرهابيون)، ويوظف منهجية شاملة تقيم اعتبارًا كاملًا للأحداث التاريخية ذات الأهمية، وللنمو الشخصي والسياسي لقائد معين، وتأثير القوى الثقافية ودور المعلمين والقدوات، وتطور الصورة الذاتية للقائد، وطريقته في تعويض ثقته المتضررة بنفسه، وحس “المهمة” المسيانية (الخلاصية)، وأحلام المجد التي تدفع القادة وتشكل طموحاتهم وأهدافهم.

مرضى نفسيون

ينطلق بوست في تحليل الفاعلين السياسين وصانعي القرار من اعتبار أنهم مصابون بدرجة ما من الأمراض النفسية؛ حيث يعتبر بوست أن الباحث عن السلطة يستخدم الحلبة السياسية كسبيل لـ “التعويض” عن الاضطرابات النفسية، المتمثلة في مشاعر الثقة المتدنية بالنفس وعدم الأهمية والدونية والضعف والعاديّة والدونية الفكرية؛ وهو ما يجعله يعود إلى طفولة ونشأة بعض القادة من أجل فهم سياساتهم وبرامجهم اللاحقة… أو تكون السياسة سبيلًا للمصابين بـ “النرجسية” وتضخم الأنا؛ حيث توفر أداة لسد الحاجة الدائمة إلى مراكمة الإنجازات الكبرى، وتحقيق “الخلود الرمزي”.

قادة نرجسيون

القائد النرجسي هو القائد الذي لا يهتم سوى بنفسه؛ فتتمركز الأولوية عنده حول نفسه، ويكون ذلك بالضرورة على حساب الشعب. وتكون القيادة النرجسية مدفوعة بصفات من الغطرسة المتعنتة، والانشغال بالذات، والحاجة الشخصية الأنانية للحصول على النفوذ والإعجاب. ويتطرق بوست لـ “الجرح النرجسي” الذي يصاب به القادة النرجسيون، والمتمثل في الطموحات وأحلام المجد غير المتحققة لدى القادة؛ حيث تولد هذه الجروح النرجسية طلبًا للمزيد من السلطة كبلسم للأنا المجروحة. ويرى بوست أنه: “لكي يفهم المرء تأثير دور الحياة في السلوك السياسي للقادة؛ فإن عليه أن يفهم طموحاتهم غير المتحققة، أهدافهم وأحلامهم بالمجد”، وهو يمثل على ذلك في الجرح النرجسي الذي عانى منه السير أوزفالد موزيللي عندما لم يصبح رئيسًا للوزراء بالسرعة التي كان يفرضها جدوله الزمني الشخصي؛ مما قاد إلى تحوله المفاجئ في منتصف الحياة نحو الأيديولوجيا الفاشية. أو في إعدام “عيدي أمين دادا” حاكم أوغندا (استولى على الحكم بعد انقلاب عسكري عام 1977) للمفكرين؛ إذ لم يستطع أن يكون منهم، خلافًا لرغبته منذ الطفولة.

وهو يذهب إلى أنه لا يمكن لأي كمية من النجاح أن تملأ الفراغ الداخلي للقائد النرجسي، حتى ماو تسي تونغ، في نهاية حياة ثورية مذهلة، أو شاه إيران، الذي أوصل بلده إلى حافة الحداثة، لم يكونا راضين عن إنجازاتهما. مهما كان تقييم العالم الخارجي؛ فإن الرغبة الداخلية ما كانت لتنقص، وبقي طموحهما العاتي بالمجد غير متحقق.

وبالإمكان الاعتراض على بوست بالإشارة إلى أن كون المرء نرجسيًا لا يعني أن يكون مريضًا؛ فقد تكون النرجسية هي البوصلة والدافع وراء التغيير والإنجاز، وهو ما ينتبه بوست إليه لاحقًا في تفريقه بين الإمكانيات الإبداعية للنرجسية والتدميرية، وهو يمثل على النرجسية الإبداعية بالقادة الذين استخدموها في الحلبة القومية (أتاتورك). على عكس انقسام الإرهابي النرجسي الذي يبحث عن تدمير الجانب منزوع القيمة والمسقط من نفسه (بن لادن).

سيكو: سياسة المرض.. والهروب من الموت

في الفصلين الثالث والرابع، يتوقف بوست عند تأثير تقدم القائد السياسي في العمر، وتعرضه للإصابة بالأمراض، وأثره على ردات الفعل السيكولوجية في القادة. كما كان -مثلًا- مع مناحِم بيغن، الذي سبب الضعف الجسدي ردة فعل قوية سياسيًا، وهو ما أكده بيغن في عقيدته: “أنا أحارب، إذًا أنا موجود”.

ويرى بوست أنه بالنسبة للقائد الباحث عن المجد، لا يوجد مجد كافٍ أبدًا، ولا وقت كافٍ أبدًا، ولا يمكنه مواجهة نهاية الحياة. حيث إنه، بسبب الرغبة التي لا تشبع في الإعجاب والمجد، تكون نهاية الحياة البطولية لا تصدق بالنسبة إلى النرجسي.

وهو يشير إلى أن مواجهة القادة الذين يحملون أحلام المجد مرضٌ مهددٌ للحياة، يشدد على إيجاز وقتهم المتبقي؛ فقد يشعرون بضرورة تأسيس مكانهم في التاريخ واتخاذ حركات جريئة غير معهودة، ويضرب مثالًا على ذلك في اندفاع حسين (ملك الأردن) نحو السلام، وعرفات (رئيس منظمة التحرير الفلسطينية) وجهوده في إقامة الدولة، كمحاولة لإحداث إنجاز مهم لهما قبل وفاتهما. كما يرى أنه من الممكن أن يكون إدراك “ماو” أن الوقت القصير لإنجاز أهدافه قد أسهم في القفزة الكبرى نحو الثورة الثقافية؛ حيث يعتبر بوست أن ثورة ماو الثقافية كانت محاولة للوصول إلى الخلود عبر تعريف نفسه ضمن مجموعة من الرموز التي ستعيش بعد موته. حيث يقول: “عندما يواجه القائد النرجسي الغارق بأحلام المجد دليلًا لا يقبل النقد على أن مهمته لا يمكن تحقيقها، فقد تقود الصفات المتهورة إلى مأساة. كما في الثورة الثقافية، والتي هي مثال على هذا الاندفاع المتهور نحو المجد من قبل ماو تسي تونغ المتقدم في العمر والذي أمل في توطيد الثورة الشيوعية الصينية خلال فترة حياته”.

ويؤكد بوست أنه ليس البحث عن الخلود الرمزي فريدًا عند القادة السياسيين، جميع البشر يشتركون في ذلك؛ لكن الفريد هو توفر مواد تحقيق هذه الأهداف. وعندما ينجحون، مثل قيصر ونابليون، وغاندي وشيرشيل؛ ستتحقق خيالات خلودم الرمزي.

سيكولوجيا التبعية

في الفصل التاسع (النرجسية، وعلاقة “القائد- التابع” الكاريزمية)، يتعرض بوست لـ “سيكولوجيا التبعية”، والمتمثلة -بحسب بوست- في حاجة القائد وجوعه إلى وجود أتباع له، وحاجة الأتباع وجوعهم إلى وجود قائد ورمز لهم، وهو ما يفتح الباب للتفكير في آليات الأسطرة والمثلنة (Idealizing) وخلق الرموز والأصنام عند الشعوب. والتفكير في أسئلة: لماذا تميل الشعوب إلى صناعة أساطير وأصنام يتمثلون في صورة الأبطال القوميين والقادة المخلصين؟ وكيف تعبر هذه الرموز عن ثقاقة الشعوب، ممثلة ما تتوق إليه وتفتقده، وعن عقليتها ومشاكلها الراهنة؟

يرى بوست أنه في أوقات الأزمات يتراجع الأفراد إلى حالة من تفويض القدرة الكلية، والمطالبة بالقائد الذي سوف ينقذهم، ويهتم بشؤونهم (المخلص)؛ حيث إن الأفراد القابلين للاستجابة إلى القيادة الكاريزمية عندهم بُنى أنا متشظية أو ضعيفة، وهو ما يجد الاستجابة عند القادة الجائعين إلى المرآة ليغذو ذواتهم الجائعة. يتفحص بوست سيكولوجيا الجمهور المعجب من المنومين مغناطيسيًا، التابعين العطشين للمثالية: هم أولئك التابعون الجائعون للمثالية، الشخصيات المتأذية نرجسيًا، هم التابعون الجوهريون في علاقات (القائد- التابع) النرجسية، وهم عرضة دائمًا لأن يدخلوا صفوف التابعين المعجبين. مثل علاقة “القفل والمفتاح”، ينجذبون نحو القادة “الجائعين للمرآة”. وكل منهم يحتاج الآخر ليغذي ذاته الجائعة: جوع القائد للجماهير وجوع الجماهير للقائد.

ويخلص بوست إلى أنه: كما ينزل الغرض الذي يقدسه الفرد عن عرشه عندما تمر لحظة الحاجة التاريخية كما يبرهن على ذلك صعود (خلال الحرب) وهبوط ونستون تشرشل (بعد نهاية الحرب العالمية).

سيكولوجيا الإرهاب

يعالج بوست في الفصل الأول من الكتاب السياق السيكوسياسي للحركات الإرهابية الأصولية، متطرقًا للقيادة الكاريزمية لأسامة بن لادن، ومعالجًا لسيكولوحيا المغرَّبين، وهم الشباب الإسلامي المحبط في الغرب، والذي ينجذب إلى بن لادن، القائد المعبر عنهم. وفي الفصل السادس (عقل الإرهابي)، يتعرض لأنواع الإرهاب المختلفة، الدينية منها والعلمانية، والمتمثلة (أي العلمانية) -بالنسبة له- في الحركات اليسارية والانفصالية والحركات المتمردة ذات الخلفية الاشتراكية (والتي يضع ضمنها طيفًا واسعًا من الحركات من الجيش الجمهوري في أيرلندا ومنظمة “باسك أرض الأجداد” الانفصالية في إسبانيا، وصولًا إلى فصائل المقاومة الفلسطينية، وإلى الحركات المتمردة والخارجة عن القانون في أمريكا الجنوبية)، وهو يتحدث عن الإرهابيين باعتبارهم مرضى نفسيين، وأشخاصًا هامشيين سوسيولوجيًا اختاروا طريق الإرهاب للتعبير عن اضطرابهم؛ حيث يحللهم بوست باعتبار أن الانتماء إلى مجموعة إرهابية هو المرة الأولى التي شعروا فيها حقًا بالانتماء، وباعتبار أنهم يبحثون عن شفاء الجراح الداخلية عن طريق الهجوم على العدو الخارجي، وباعتبارهم مسكونين بالنظرة الإطلاقية والارتيابية للعالم.

ويمكننا هنا الوقوف للاعتراض على بوست في اختزاله ظاهرة معقدة كالإرهاب، لها أبعادها السياسية والاجتماعية المركبة، في الأبعاد السيكولوجية لها؛ فالإشارة إلى أن الإرهابيين يعانون القهر الاجتماعي والاغتراب، توجه السؤال والشك نحو المجتمعات المنحدرين منها؛ فهي مجتمعات يغيب فيها تبلور الهوية الاجتماعية. وهكذا بالإمكان اعتبار الإرهاب ظاهرة ناتجة عن أسباب اجتماعية، واقتصادية، متمثلة في فشل الدولة الوطنية في تحقيق وعودها، وفي الاستبداد وانعدام فضاءات المشاركة والتعبير السياسي والاجتماعي؛ وليس فقط عن الأسباب السيكولوجية، أو حتى الفكرية، كما يرى الليبراليون.

الطفولة القاسية.. والحاجة إلى وجود الأعداء

هذه أبرز المقولات السيكولوجية التي فصّل فيها بوست وأفاض في استخدامها لتفسير الظواهر السياسية المختلفة، وهناك نقاط أخرى أشار إليها في مواضع متفرقة من الكتاب، كاعتماده تفسير شخصية القائد من خلال مشاكل الطفولة والنشأة لديه، كما يرى في شخص وسياسة صدام حسين؛ حيث يعتبر أن أحلام المجد لديه (اعتبار نفسه خليفة نبوخذ نصر وصلاح الدين وعبد الناصر) تشكلت مبكرًا جدًا (في طفولته)، بحيث إنها كانت “تعويضية”؛ لأنها كانت ترتكز إلى ذات مجروحة وشك عميق بالنفس. ولبرهنة ذلك؛ يعود إلى استعراض طفولة صدام حسين القاسية، والمفتقرة إلى الحنان. وكذلك يصنع مع الزعيم الكوري الشمالي (كيم يونج إيل)؛ حيث يعيد سياساته الانعزالية إلى اضطرابات في طفولته.

كما يتوقف بوست عند آلية “الحاجة إلى وجود الأعداء”؛ إذ الأعداء ضروريون لتعريف الذات في عالم السياسة، مما يجعل من الضروري وجود الأعداء بيننا؛ فيكون خلق الآخرين السيئين جزءًا ضروريًا من حصول السياسي على هوية مميزة، وتكون قوة القائد الكاريزمي مشتقة من قدرته على تركيز الحقد تجاه عدو واحد، كما فعل هتلر في الثلاثينيات، موحدًا الشعب الألماني في كرهه لليهود، وكما فعل بن لادن في حديثه عن “العدو البعيد”.

تعقيب: الكتاب وسياقه

الكتاب (صدر باللغة الإنجليزية عام 2004)، جاء في إطار صراع الولايات المتحدة مع تهديدات كوريا الشمالية والقاعدة، والمضاعفات الفوضوية لحرب العراق. وبالإمكان اعتباره محاولة لتقويم صناعة القرار الأمريكي في تلك الفترة، في العراق، وكوريا الشمالية، أو مع القاعدة. وهو شديد التأثر بديفيد فروم و”محور الشر”، وسياسة أمريكا الخارجية في عهد جورج بوش.

وغير خافٍ ارتباط المؤلف بالمؤسسات السياسية والأمنية الأمريكية، وهو ما ظهر في البعد عن الحياد، والانحيازات الواضحة، التي تمثلت في الخيارات والأمثلة؛ حيث كان جلّ الاختيارات للقادة -المرضى سيكولوجيًا- من المعسكر الاشتراكي السابق (ستالين من الاتحاد السوفيتي، ماو من الصين، كاسترو من كوبا)، ومن “محور الشر” (صدام من العراق، كيم يونج إيل من كوريا الشمالية، الخميني والثورة الإيرانية)، كما أنه يهاجم وينتقد المجتمعات والسياسات الاشتراكية (من ناحية سيكولوجية: الارتياب المجتمعي، وضمور في المسؤولية والمبادرة الشخصيتين، وتوقع تلقي العناية -مع أنها سيئة- من قبل الدولة الشمولية)، ويربط الإرهاب “العلماني” بها، في مقابل عدم التعرض للمجتمعات الرأسمالية، وعدم التعرض لأمثلة من أمريكا أو للإرهاب الصهيوني أو الكولنيالي مثلًا. ولذا؛ بالإمكان القول بأن الكتاب -عمومًا، وبالرغم من أهمية الأدوات المستخدمة- مؤدلج ومنحاز، ومرتبط إلى حد بعيد بالسياسات الأمريكية ومدافع عنها.

خالد بشير – التقرير