بغداد – وصفت أوساط سياسية عراقية قرار التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة إنهاء “المهام القتالية” في العراق بأنه انسحاب ثان لا يقل سوءا عن الانسحاب الأول الذي قرره الرئيس الأسبق باراك أوباما في 2011، والذي فتح الباب أمام تنظيم داعش للتسلل إلى العراق والهجوم لاحقا على القوات العراقية والسيطرة على مساحات واسعة من الأراضي، ثم تمدد الميليشيات العراقية الموالية لإيران تحت مسمى الحشد الشعبي للسيطرة على مناطق واسعة من شمال العراق وغربه وفتح الممر البري من إيران نحو البحر المتوسط.
وفي الحرب التي شنتها القوات العراقية وقوات الحشد على تنظيم داعش في شمال العراق تحولت الطائرات الأميركية المقاتلة إلى دور القوة الجوية للحشد، مما أدى إلى المساعدة على هَزْمِ داعش وإحداث دمار كبير في عدد من مدن العراق الكبرى وخصوصا مدينة الموصل.
مصطفى سالم: الميليشيات قد تستدعي قوات إيرانية لتعوض الانسحاب الأميركي
وقالت هذه الأوساط إن الرئيس جو بايدن بهذا القرار المتسرّع سيعبّد الطريق أمام الميليشيات الشيعية للسيطرة على البلاد ويترك لإيران الحبل على الغارب لتدير شؤون العراق من وراء الستار عبر التمكين لحلفائها. واعتبرت أن بقاء القوات الأميركية في بعض القواعد بإقليم كردستان أو في قواعد قريبة شمال سوريا لن يعيق الميليشيات عن تنفيذ خطتها الرامية إلى السيطرة على كامل العراق وإخضاعه لهيمنتها.
وكان أوباما قد أعلن في ديسمبر عام 2011 الانسحاب من العراق، وأن واشنطن ستتابع تدريب القوات العراقية وتجهيزها، معتبرا أن الانسحاب سيتيح للولايات المتحدة فرصة التركيز على “المعركة ضد تنظيم القاعدة وتحقيق انتصارات ضد قادته”. لكن هذه الاستراتيجية فشلت بعد عامين من هذا الانسحاب.
وقال السناتور الجمهوري الراحل جون ماكين في تعليقه على ذلك الانسحاب إن “التضحيات الأميركية أهدرتها إدارة أرادت الخروج، ولم تشأ أن تبقى وتعزز المكاسب التي تحققت بالدم والمال الأميركيّيْن”.
وتنظر إيران والمجموعات التابعة لها إلى هذا الانسحاب على أنه نصر لخطتهما التي هدفت إلى إرغام الأميركيين على الانسحاب من خلال الضغط السياسي على حكومة مصطفى الكاظمي وعلى البرلمان العراقي لتبني موقف رسمي يطالب بانسحاب القوات الأميركية، فضلا عن هجمات محدودة بالصواريخ على مواقع تمركز القوات الأميركية.
ورغم أن رئيس الوزراء العراقي لا يتحمس لانسحاب الأميركيين سعى لأن يظهر في صورة من يقف ضمن التيار الذي يقوده حلفاء إيران، في الوقت الذي يقول فيه مراقبون سياسيون عراقيون إن الكاظمي لا يستطيع وحده أن يقف ضد تيار إيران وإنه سعى للقاء السفير الأميركي ماثيو تولر قبل الإعلان عن القرار الأميركي.
والسبت الماضي عقد الكاظمي اجتماعاً مع السفير الأميركي تم خلاله بحث ملف انسحاب القوات القتالية الأميركية من العراق وتحول مهامها إلى الاستشارة والدعم.
ووفقاً لبيان أصدره مكتب الكاظمي بحث الأخير مع تولر “التقدم الحاصل في إنهاء الدور القتالي لقوات التحالف في العراق، وفق مخرجات الحوار الاستراتيجي، والانتقال إلى دور المشورة والمساعدة والتمكين”، ولم يكشف عن أي تفاهمات بشأن تلك الملفات.
وسبق أن أكد مدير الشؤون العامة في التحالف الدولي جويل هاربر أن “دور التحالف الدولي في العراق لن يتغير، وسينتقل من العمليات القتالية إلى دور الاستشارة والتمكين والمساعدة”.
وفي تغريدة أعلن مستشار الأمن القومي العراقي قاسم الأعرجي في ختام اجتماع مع قيادة التحالف “اليوم (الخميس) أنهينا جولة الحوار الأخيرة مع التحالف الدولي والتي بدأناها في العام الماضي، لنعلن رسميا انتهاء المهام القتالية لقوات التحالف”، مضيفا أن العلاقة “ستستمر في مجال التدريب والاستشارة والتمكين”.
وسيبقى نحو 2500 جندي أميركي و1000 جندي من قوات التحالف في العراق. هذه القوات لا تقاتل وتقوم بدور استشارة وتدريب منذ صيف 2020.
وتشكل التحالف الدولي بقيادة واشنطن -والذي يضم أكثر من 80 دولة، بما في ذلك فرنسا وبريطانيا والعديد من الدول العربية- في عام 2014 لدعم الهجمات في العراق وسوريا ضد تنظيم الدولة الإسلامية.
وفي الوقت الذي تقول فيه تقارير أميركية إن واشنطن لن تخلي الساحة في البلاد لصالح النفوذ الإيراني يعتبر المراقبون أن الخطوة الأميركية ستكون بمثابة انتصار لإيران ستوظفه ضمن أوراق التفاوض مع الولايات المتحدة بشأن الملف النووي وقضايا النفوذ الإيراني المتزايد في المنطقة.
وقال الكاتب السياسي العراقي مصطفى سالم في تصريح لـ “العرب” إن “جميع الأطراف تعرف أن الانسحاب غير كامل، ولن يكون كذلك”، محذرا من أن “ميليشيات الحشد تعتقد أن رحيل القوات الأميركية يسمح لها -ولأسباب يمكن افتعالها- باستدعاء القوات الإيرانية لتحل مكانها”.
نيكولاس هيراس: إدارة بايدن تريد أن تتجنب الأزمات خاصة مع إيران
واعتبر سالم أن الشارع العراقي مستنزف إلى درجة أن هذا الموضوع لن يكون من أولوياته، وأن ما تبقى منه في دائرة الاهتمام لا يرغب في رحيل القوات الأميركية وهو يشاهد فشل القوات الحكومية التي لا تحتاج إلى مشورة الأميركيين بقدر حاجتها إلى أن تكون قوات وطنية وعراقية.
ويعتقد الباحث في معهد “نيولاينز” نيكولاس هيراس أن الولايات المتحدة ستحتفظ “بنفس الدور العسكري في العراق”، لكن ما يتغير هو “الرسالة”.
ويوضح أن “البيئة السياسية والأمنية في العراق متوترة للغاية إلى درجة أن إدارة بايدن تريد من الولايات المتحدة أن تبقى بعيدة عن الأضواء وتتجنب الأزمات، خاصة مع إيران”.
وفي الأشهر الأخيرة استهدفت عشرات الهجمات الصاروخية أو الهجمات بالقنابل التي تطلقها طائرات دون طيار القوات الأميركية ومصالح أميركية في العراق. ولا يتم تبني هذه الهجمات لكن تنسبها الولايات المتحدة إلى فصائل موالية لإيران.
ومع اقتراب الموعد النهائي المحدد في الحادي والثلاثين من ديسمبر للانسحاب، رفعت بعض الشبكات المقربة من الفصائل الموالية لإيران سقف تهديداتها على مواقع التواصل الاجتماعي للمطالبة بانسحاب أميركي كامل، رغم أنه لم يطرح من قبل.
ويرى هيراس أن تغيير الخطاب بشأن “الوجود العسكري الأميركي في العراق” يعكس أيضا واقعا جديدا مفاده أن “قوات الأمن العراقية لديها قدرات أكبر من ذي قبل لمهاجمة تنظيم الدولة الإسلامية”.
العرب