بيروت – يحتل لبنان منذ سنوات المراتب الأولى ضمن الدول العربية الأكثر فسادا وينظر الرأي العام اللبناني بسلبية إلى جهود الحكومات المتعاقبة على صعيد مكافحة هذه الآفة ويعتبر عمل السلطات سيئا في التصدي لها.
ورفعت الحكومات المتعاقبة في لبنان دون استثناء شعار “محاربة الفساد” ووقف هدر الأموال وثروات البلاد في القطاع العام، دون أن تُقدم على إجراء واحد لتنفيذ ذلك عمليّا، كون غالبية الموظفين يتمتعون بحماية القوى السياسية التي عيّنتهم.
جورج عطية: الأزمة الاقتصادية الحالية فاقمت الفساد أكثر في القطاع العام
وفي بلد مثقل بالمحاصصة السياسية والطائفية، بات إتمام أي معاملة في بعض الإدارات العامة أو تسريع إنجازها لا يتم إلا بعد دفع رشوة أو بموجب “واسطة”؛ وتتعدّد أشكال الفساد ودرجاته.
وبعد الانتظار لساعات في طابور لتسجيل سيارته لدى إدارة ترخيص المركبات في إحدى الضواحي بشمال بيروت، بدأ صبر أمين الجميل ينفد.
فهذه ليست الزيارة الأولى لفرع الإدارة في دكوانة بل سبقتها زيارات أخرى لإنهاء ما ينبغي أن يكون عملية بسيطة، ولكن دون جدوى في كل مرة.
والطريقة الوحيدة لإنجاز أوراقه بشكل أسرع هي خرق القانون برشوة شخص ما، وهي معضلة تواجه جميع اللبنانيين الذين يحاولون الحصول على الخدمات الأساسية في وقت تنهار فيه المؤسسات العامة في ظل أزمة مالية كارثية وجمود سياسي لا تلوح له نهاية في الأفق.
وقال الجميل “إنه عبء كبير على المواطنين…أعلم أنه لإكمال الإجراء الخاص بي، أحتاج إلى استخدام سمسار”.
ومكافحة الفساد كانت أبرز مطالب الاحتجاجات الشعبية التي انطلقت في أكتوبر عام 2019 والتي اتهمت كل الطبقة السياسية بالتورط بالفساد. ولا تزال الاحتجاجات تنطلق بين الحين والآخر، دون أن تتمكن من تحقيق تقدم في هذا الشأن.
ويحتل لبنان المرتبة الأولى عربيا في دفع الرشى والواسطة وفق تقرير منظمة الشفافية الدولية الصادر في ديسمبر العام الماضي، حيث أكد التقرير أن أكثر من ثلث المواطنين يقومون باستغلال العلاقات الشخصية للحصول على الخدمات التي يحتاجون إليها، و41 في المئة من اللبنانيين المستطلعين دفعوا رشاو لتسيير معاملاتهم، فيما لجأ 54 في المئة منهم إلى الواسطة من أجل الحصول على الخدمات العامة.
وتضمن التقرير استطلاعا للرأي أكد على أن 68 في المئة من العيّنة المستطلعة اعتبرت أن الفساد قد تفاقم في البلاد، وأن معظم العاملين في الإدارات والمؤسسات العامة متورطون في الفساد، يليهم النواب بنسبة 64 في المئة.
ولطالما كان يُنظر إلى القطاع العام في البلاد على أنه متضخم ويشوبه الترهل ويستشري فيه الفساد، لكنه يغرق الآن في المزيد من الفوضى بسبب الأزمة الاقتصادية التي دفعت، وفقا لوكالات الأمم المتحدة، نحو ثمانية من كل عشرة أشخاص إلى براثن الفقر.
وقال جورج عطية رئيس هيئة التفتيش المركزي اللبناني، وهي الجهة المعنية بالرقابة على القطاع العام في البلاد، إن مثل هذه البيئة تشجع على الفساد. كما اتهم العديد من موظفي الحكومة باستغلال حالة الفوضى المتفاقمة في مفاصل الدولة لطلب رشى مقابل إصدار وثائق مهمة للمواطنين.
وأضاف عطية “الوضع لا يضاهى قبل الأزمة…إذا نظرت إلى ما كان عليه عام 2018 وكيف هو الآن لا يمكنك التعرف على القطاع العام. هناك الكثير من الشكاوى، مئات من الشكاوى معظمها حول الرشوة والتأخير المتعمد من قبل الموظفين من أجل فرض رشاوى”.
وقبل الأزمة، كان معظم موظفي القطاع العام يتقاضون رواتب تتراوح قيمتها حول ألف دولار تقريبا أو أكثر. لكن اليوم، يتلقى معظمهم حوالي عُشر تلك القيمة بعد أن أدت أزمة العملة إلى خسارة الليرة اللبنانية لأكثر من 90 في المئة من قيمتها.
وأعلن بعض موظفي القطاع العام إضرابا مفتوحا منذ بداية نوفمبر للمطالبة بتحسين الأجور وظروف المعيشة. وهناك موظفون آخرون لا يستطيعون حتى الذهاب للعمل، إذ يمكن لملء خزان الوقود بسياراتهم أن يلتهم أكثر من نصف راتبهم الشهري مع الاستحقاقات.
وقال عطية إن نقص الوقود زاد من صعوبة عمل هيئته الرقابية حيث أصبحت الزيارات الميدانية اللازمة للتحقيق في حوادث الفساد المزعومة مستحيلة.
وكشف استطلاع للرأي أجرته مؤخرا مؤسسة غالوب الأميركية أن معظم اللبنانيين يكابدون الآن الصعاب من أجل تأمين قوت عائلاتهم ويسعون لمغادرة البلاد بشكل دائم.
ولمساعدة موظفيها على مواجهة مصاعب الحياة، وعدت الحكومة اللبنانية بمضاعفة بدل المواصلات اليومي ثلاث مرات وزيادة رواتب موظفي القطاع العام بنحو النصف شهريا، لكنها لم تفعل ذلك بعد.
كما أنها لا تزال بطيئة في تقديم أشكال أخرى من المساعدة الاجتماعية التي تشتد الحاجة إليها على الرغم من توفر التمويل المطلوب. ولم يجتمع مجلس الوزراء منذ ما يقرب من شهرين وسط خلاف بشأن التحقيق في انفجار مرفأ بيروت في أغسطس العام الماضي، مما جعله عاجزا عن تنفيذ الإجراءات التي طالب بها المجتمع الدولي لفتح الباب أمام إرسال المساعدات.
وكانت هدى سلوم مدير عام هيئة إدارة السير قد واجهت هي نفسها اتهامات بالفساد، من بينها التربح بشكل غير مشروع وإهدار الأموال العامة، في فبراير العام الماضي، وهي اتهامات نفتها جميعا. وأطلق بعدها سراحها بكفالة ولا تزال تشغل منصبها.
وقالت سلوم إنها عملت على زيادة الشفافية في الإدارة من خلال رقمنة الإجراءات، لكن انقطاع التيار الكهربائي لساعات ونقص الأموال لشراء وقود للمولدات الاحتياطية يتسببان في انقطاع هذه الأنظمة عن الإنترنت في الأغلب.
والهيئة واحدة من المؤسسات العامة في لبنان التي لا تعرف ما إذا كانت ستستمر في العمل في غضون شهر واحد، حيث أكدت سلوم “يمكننا مواصلة عملنا حتى نهاية العام…بعد ذلك، الأمر يعود إلى الله”.
العرب