2021.. سيرة عاصمة تقفز فوق النار

2021.. سيرة عاصمة تقفز فوق النار

شهد لبنان وبيروت بشكل خاص في العام 2021 الذي شارف على الانتهاء سلسلة من المهرجانات الفنية والمعارض الجماعية والفردية لفنانين عرب، غير أن الحصة الأكبر كانت للفنانين اللبنانيين. سنة تنقضي في لبنان وتطل أخرى تبدو وكأنها امتداد لما سبقها لا يرجى منها اللبنانيون والعرب المقيمون في لبنان إلاّ أن تزداد الأوضاع العامة سوءا.

بيروت – لست من المتبنين لأقوال منتشرة في وسط اللبنانيين جميعا منذ زمن بعيد أن الشعب اللبناني يتميز “بحب الحياة”، وأنه “ليس من السهل أن تكون لبنانيا”، فكل الشعوب العربية “تحب الحياة” وواجهت ولا تزال كافة المصائب، تلك التي ارتكبها أسيادهم أو ارتكبوها هم، كأفراد شكّلت جماعة متماسكة من الفساد والتقهقر الثقافي، وبالتأكيد أيضا أنه “ليس من السهل بأن تكون فلسطينيا”، وربما هو التأكيد الأشدّ فتكا ووضوحا.

وعلى الرغم من عدم انتمائي إلى هذه المجموعة الكبيرة من اللبنانيين التي ساهمت غطرستهم واعتبار بعضهم، متفوقا على البعض الآخر إلى انهيار “المنظومة اللبنانية”، فلا يجب إغفال أن لبنان أثبت عبر بيروت، عاصمته ومنذ أكثر من نصف قرن قدرتها على القفز فوق النار وإثارة أمواج التغيير والتجديد وتكريس إنجازات هائلة على المستوى الثقافي والفني وكذلك الإعلامي، جاعلة بذلك من لبنان “منارة” حقيقية تحاول اليوم الكثير من الدول استغلال انكفائها تحت زخات الضربات والمصائب على جميع الأصعدة محاولة تهميش دورها المحوري، لاسيما في الثقافة. أقول “يحاول” لأن كينونة بيروت تمنعها من أن ترضخ للخفوت وتجعلها مشرقة من جديد كلما سمحت الظروف بذلك.

أوردت العديد من المصادر الإخبارية خلال السنتين الأخيرتين أن بيروت انكفأت فنيا وثقافيا، وهذا ليس صحيحا البتة. فمن هو “بيروتي” أو يعيش في بيروت يعرف أنه خلال إقفال الكوكب نتيجة الجائحة، أصبحت المنصات الاجتماعية الافتراضية مساحة عرض فيها الفنانون أعمالهم الجديدة، لاسيما تلك التي أنجزوها في فترة الحجر فتشاركوا مع الفنانين الآخرين ومحبي الفن الآراء والأفكار والمشاعر حولها.

ثم جاءت هذه السنة، أي سنة 2021 “خارقة” بالمعنى السلبي، على جميع الأصعدة. هذه السنة الخارقة توشك على الانقضاء رافضة إعلان أن ملامحها الكابوسية سترحل معها. سنة 2021 كرّست حضور التعبير الفني، من حيث لا تدري، وحصّنت مشاركته مع الآخرين على اعتبار أنه ليس ترفا برجوازيا ولا حتى ضروريا لأجل العيش في الحد الأدنى من الكرامة، ولكن حاجة ملحّة لأجل البقاء على قيد الحياة بالمعنى الإنساني للكلمة.

حرائق مُدمّرة طالت غابات لبنان وأحراشها انطفأت في معظمها “لوحدها”. ثم اندلعت ثورة شلّت البلد وأنزلت أهله من ناحية ثانية إلى الشارع فحصل التنكيل به، وتخوينه، ثم دسّ السموم لإفشاله. وجاء وباء كوفيد – 19 ليتزامن مع أواخر مراحل الثورة المحتضرة.

معظم المواضيع التي تطرّق إليها الفنانون دارت حول المأساة اللبنانية بالمعنى الواسع وانفجار بيروت بالمعنى الخاص

وضربت الأزمة الاقتصادية بشكل لم يسبق له مثيل وانحدرت قيمة الليرة بشكل مخيف ولا يزال هذا الانهيار في مساره، ثم جاء الرابع من أغسطس 2020 و”انفجاره” البيروتي المدوّي الذي استكمل الخراب وعممّ فكرة “الانفجار” ومنطقه ليصير رمزا طال كل المرافق والأوجه اللبنانية. كل هذه العوامل ساهمت في ولادة سنة 2021 الثقافية/الفنية “الغرائبية”، كما أود أن أطلق عليها.

وجاءت الأغلبية الساحقة من المعارض لفنانين لبنانيين مبتدئين ومكرّسين في آن واحد في وقت اعتقد فيه البعض بأن الفنان اللبناني سيغيب كليا عن الساحة الفنية -وهو لم يعد إليها بقوة إلاّ منذ بضع سنوات بعد أن هدأت عجلة العرض لفنانين عراقيين وسوريين وفلسطينيين- بسبب فقدانه، نظرا للظروف، الرغبة في العرض.

دارت معظم المواضيع التي تطرّق إليها الفنانون حول المأساة اللبنانية بالمعنى الواسع وانفجار بيروت بالمعنى الخاص. وكل متابع للحركة الفنية سيرى أن بيروت هي في عين الحدث مباشرة أو بشكل غير مباشر، وذلك عبر سلسلة من المعارض الفردية والجماعية.

ويجب ذكر ظاهرة كرّست ذاتها خلال هذا العام، وهي تحوّل موسم الصيف الذي يعتبر موسما باردا فنيا إلى زمن كثرت فيه المعارض ليس فقط الجماعية، بل الفردية أيضا. كما حفلت هذه السنة بعدة حوادث فنية امتدت خارج لبنان لأجل لبنان بهيئات افتراضية وواقعية على حدّ السواء.

تكاثرت الصفحات على شبكات التواصل الاجتماعي التي تعنى بالفن وبعضها أسّسها فنانون جعلوا حضورهم الافتراضي حضورا واقعيا، نذكر من المعارض الفردية معرض الفنان اللبناني جميل ملاعب في صالة “ربيز”، حيث عرض مجموعة من الأعمال الفنية المتنوّعة على القماش وصفائح الخشب المصقولة تحت عنوان عميق التفاؤل “لبنان، الجمال والثقافة”.

بثّ ملاعب أجواء تفاؤلية مرتكزة على عناصر واقعية وقادمة من حقيقة المشاهد اللبنانية اليومية التي لم تستطع الأزمات الهائلة والتدهور الاقتصادي السريع أن تمحيها، ولا أن تجعلها صورة غائمة من ماض سحيق. ومن المعارض الفردية أيضا “إشراقة الطبيعة” للفنان التشكيلي اللبناني عيسى حلوم في صالة “آرت أون 56 ستريت”، وهو معرض احتفاء رمزيّ بالطبيعة اللبنانية في عزّ أزماته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الخانقة.

وأقيم معرض للفنان اللبناني مازن الرفاعي ضمّ عشرين لوحة فنية مختلفة أحجامها ومشغولة بمادة الأكريليك وشت بعدم ارتواء الفنان من اختبار اللاالمواد التلوينية المختلفة ولا الأساليب الفنية المعتمدة كي يتناول فيه موضوعه الوحيد: مدينته الخضراء/البقاعية، بعلبك.

أما صالة “تانيت” فقدّمت معرضا للفنانة اللبنانية تمارا حداد بعنوان “من الأرض وممّا يؤلفها” شكّل امتدادا لما قدّمته الفنانة سابقا بالصالة ذاتها وتحت المسمّى ذاته. وتابعت فيه الفنانة مسائلة بواطن الأرض وأعاجيبها اللونية وأوغلت أكثر في نسغها وعطورها وتلافيفها وطبقاتها كمن يبحث عن سرّ الانبهار الذي لا ينضب.

أما معرض “المقلب الآخر من الزمن”، فهو معرض أقيم للفنانة نايلا رومانوس واحتل حيزا كبيرا في ساحة واسعة من ساحات بيروت، ليصبح مزارا لكل من اهتم بالفن ولكل من تعاطف مع الأفكار المطروحة من خلاله.

الواقع الجحيمي في لبنان أصبح خياليا أكثر من الخيال لشدّة فظاعته، ومع ذلك واصل الفنانون احتفاءهم بالحياة

معرض اشتركت العديد من الجهات لأجل إنجازه وتقديمه لعامة الشعب في إحدى الساحات البيروتية. وضاعف غياب الجهة الرسمية اللبنانية من إضفاء مصداقية كبيرة للعمل.

وعبّرت نايلا رومانوس عن حرصها بتذكير الناس “بأن الفن العام يشكّل جزءا من التاريخ المشترك للأمة، ما يساهم في بلورة ثقافتها المتطوّرة في ظل الحفاظ على الذاكرة الجماعية“.

أما صالة “أجيال” التي لم تتوقف عن العمل فقدّمت الفنانة اللبنانية فانيسا الجميل في معرض “مدينة حمراء وليال من دانتيل”، وجاء عنوان المعرض ملائما لبيروت التي تتنازعها الحُمرة وليال “دانتيلية” أبت ألاّ تكون -أو على الأقل ألّا تظهر- إلاّ متحليّة بأجمل ملابسها المُزركشة، وهي تخفي وراءها خواطر بعيدة عن الفرح والتمسّك بالحاضر الذي تصوّره الفنانة “مُفرقعا” بتوهّجات لونية فرحة.

كما أقيم في “دار النمر” ورشة عمل فنية أدارتها الفنانة ميريللا سلامة أتاحت عبرها للمهتمين اختبار إمكانيات الإبداع الفني لديهم، وذلك من خلال استخدام مواد طبيعية كالحنّة والخشب وصمغ الأشجار والملونات العضوية المستقاة من الصخور إلى جانب استخدامهم لأوراق مهملة عبر إعادة تدويرها وإدخالها إلى عملهم الفني مع باقي المواد.

وفي أواخر شهر يوليو الماضي ظهر مجسّم حديدي من الصلب بلغ ارتفاعه خمسة وعشرين مترا في المكان الذي حدث فيه تفجير مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس من السنة الماضية. أما صانع هذا المجسم المعدني فكان الفنان اللبناني/المهندس والمتعدّد الوسائط نديم كرم.

لم يمرّ حدث “إنزال” هذا المجسم في وسط بيروت مكان الجريمة مرور الكرام، فالمرحّبون به كانوا كُثرا، ولكن من بغضوه بغضا جمّا كانوا أكثر. ويمكننا القول إن صيغة واحدة كانت ستكون ناجحة لو حقّقها الفنان، لو قدّم هذا المجسم “الكريه” على أنه الطبقة الفاسدة، وقام بمساءلتها، لا بل بمحاكمتها عبر تدميرها في يوم الافتتاح.

ولكن، هل كان للفنان أن يحصل على إذن رسمي في عرض هكذا عمل لو علمت السلطات الفكرة من ورائه؟ على الأرجح لا. فالجلاّد يكره أن يُدان حتى وإن كانت يداه مضرجتين بدماء لم تجف.

أما الفنان اللبناني رؤوف رفاعي فعرض مجموعته الجديدة افتراضيا وواقعيا في صالة “نادين فياض” والتي حوّل فيها شخوصه إلى ملهاة ضدّ المأساة اللبنانية.

من المعارض الفنية التي أقيمت لفنانين سوريين، نذكر معرضا لغيلان الصفدي في صالة “آرت أون 56 ستريت” حيث قدّم الفنان شخوصا لا تبصر إلاّ عزلتها الشخصية، وهي في عزّ احتدام بشري ربما يُشبه يوم الحشر.

ونذكر أيضا معرضا للفنان السوري عمران يونس في صالة “ميسيون دار”، حيث كان موضوعه نبات الصبّار وليد عالمه الموغل في الكآبة بصيغة أقل سوداوية عن المعتاد.

من ناحية أخرى لم تتوقف صالة “مارك هاشم” عن العرض الفني، لاسيما في صالتها الباريسية ومن خلال العرض الافتراضي الذي كرّس نفسه حتى بعد بدء عودة النشاط الفني في بيروت كما في العالم. وقد عرضت مؤخرا في صالتها البيروتية مجموعة أعمال جديدة للفنان شوقي شمعون.

ونذكر أيضا معرضا للفنان والموسيقي ريبال ملاعب أقيم في “غاليري ربيز” وكان الأول له. كما نذكر معرضا للفنان يزن حلواني في صالة “أجيال” تحت عنوان “فندق بيروت واعتلاج عادي” تمحور حول الغوص في فكرة المطار.

كما أقيم معرض للفنان اللبناني إيلي رزق الله في باريس تحت عنوان “بيروت في المنظور” قدّم فيه ثلاثين عملا فنيا استعرض عبرها مشاهد من شوارع ومنازل ومبان بيروتية بدت في معظمها غارقة في محلول لوني متعدّد الأحوال والكثافة انسكب من عين الفنان الغارقة في انطباعات وجدانية حالت دون أي استعراض لهندسيات مدينة هي دوما، وكما عرفها رزق الله، من ناحية على شفير الولادة والموت وكأنهما حالة واحدة، ومن ناحية أخرى متلاحمة مع الزمن وكأنه مكان في حدّ ذاته وموطئ عبور مسّه حزن شخصي.

أما المهرجانات الفنية فكان لبنان على موعد معها كعهده رغم الأزمة الصحية والاقتصادية، نذكر منها مهرجان بيروت للشريط المصوّر ومهرجان بيروت للفيلم الوثائقي الفني. ومهرجان “مسكون” ودارت هذه المهرجانات في فلك بيروت مباشرة وبشكل غير مباشر.

“توهان في المسار الصحيح” معرض جماعي جاء تخليدا لذكرى الفنانة اللبنانية غايا فاضوليان التي قضت في انفجار بيروت
ومن المعارض الجماعية الافتراضية والواقعية على السواء تلك التي وضعت لبنان وبيروت نصب عينها وكانت بمثابة تفريغ للهواجس من جهة وتحفيز على دعم بيروت الثقافة والفنان، فكانت كثيرة، ومنها من جرى في العاصمة الفرنسية باريس التي احتضنت أعمالا فنية مختلفة ولفنانين كثر.

من هذه المعارض “توهان في المسار الصحيح” وجاء تخليدا لذكرى الرحيل المربك للفنانة والمصمّمة للمعارض غايا فاضوليان التي قضت في انفجار بيروت.

ومعرض جرى بمناسبة اختتام المعرض العالمي السابع عشر للعمارة، بينالي البندقية، إذ أقام الجناح اللبناني سلسلة من الفعاليات من ضمنها “سقف الصمت” وهو معرض تجهيزي للمعمارية اللبنانية هلا وردة ضمّ سلسلة من الأفكار انبثقت عن عمل فني للشاعرة والفنانة الراحلة حديثا إيتيل عدنان، وصُمّم حول الأساطير والخرافات التي اشتهرت بها أشجار الزيتون الست عشرة في لبنان التي يبلغ عمرها الآلاف من السنين.

ونورد أيضا معرض “أضواء بيروت” في معهد العالم العربي الذي ضمّ نخبة كبيرة من الفنانين العرب ومن ضمنهم الكثير من الفنانين اللبنانيين في توجّه إلى دعم بيروت بعد انفجار المرفأ في العام 2020.

ومن المعارض التي مدّت جسرا افتراضيا ما بين بيروت وباريس معرض “رسائل من بيروت”، وهو من ناحية معرض له أبعاد علاجية تمرّ عبر مشاركة أفكار المتضرّرين مع آخرين يعيشون خارج لبنان، ومن ناحية أخرى هو دعوة إلى جمع التبرّعات اللازمة لدعم المنكوبين من انفجار مرفأ بيروت في ظل جوّ عام من غياب الثقة بالقطاع اللبناني الرسمي.

ومن المعارض المهمة أيضا معرض “معا” الذي نظمته صالة “تانيت” وجعلته في فترة الصيف افتتاحا لعودتها على ساحة العرض بعد التدمير شبه الكلي الذي تعرّضت له جراء الانفجار.

ولا بد أيضا من ذكر معرض “المياه” في غاليري “المرفأ” بعد غياب دام تسعة أشهر إثر تعرّضه لتدمير شبه كامل جراء انفجار بيروت.

وإلى جانب تلك المعارض نُظّم “رؤى الحاضر” وهو معرض جماعي بارز أعدّته ونفّذته صالة “جانين ربيز” الفنية ضمّ عددا كبيرا من الأعمال الفنية التي جعلت الجمهور يتساءل: كيف يُمكن للأعمال الفنية على اختلاف أساليبها وتقنياتها أن تكون منتمية إلى الذاكرة الجماعية؟

في المحصلة، الواقع الجحيمي في لبنان أصبح خياليا أكثر من الخيال لشدّة فظاعته، فظاعة لا يعرفها تماما إلاّ من يعيش في لبنان. هذا أيضا ليس كلاما خرافيا، فقد حصل هذا العام “حدث فني سريالي” من نوع آخر ومن خلال مؤتمر صحافي للرئيس اللبناني حين طرحت عليه إحدى الصحافيات سؤال “ماذا لو لم تتشكّل الحكومة؟”، فأجاب “بالطبع نحن ذاهبون إلى الجحيم”. فهل يبقى هذا الجحيم قائما فيما نقبل عليه من أيام وأشهر قادمة لم يعد لها أي همّ إلاّ القدرة على الاستمرار في القفز فوق النار.

العرب