بين الربيع العربي والتطرف الديني‮ .. ‬هل من‮ “‬سايكس‮- ‬بيكو‮” ‬جديدة؟

بين الربيع العربي والتطرف الديني‮ .. ‬هل من‮ “‬سايكس‮- ‬بيكو‮” ‬جديدة؟

index

ثمة ما يستدعي التفكير جديا في لماذا كل هذا الحديث المتنامي عن أن ما يجري في العالم العربي منذ عام‮ ‬2010‮ ‬من ثورات،‮ ‬أيا تكن تسميتها، سيستدعي حتما تفتيتا للحدود الجغرافية،‮ ‬كما الدول المركزية التي تحمي هذه الحدود، لمصلحة دويلات عرقية أو دينية‮.‬ وإذا كانت مشروعية مخاوف تفتيت المنطقة قائمة علي وقائع دامية في العراق،‮ ‬وسوريا،‮ ‬واليمن، وبعض الهشاشة في لبنان المستقر نسبيا،‮ ‬فإنه من الأجدى، وبدل الاسترسال في التوصيف،‮ ‬أو استدراج النفس المؤامراتي، اللذين‮ ‬غالبا ما تؤمن لهما البيئة العربية حاضنة خصبة، طرح مكامن الخلل التي أدت إلى اندلاع الثورات من ناحية، ومساءلة الإشكاليات الناتجة عنها من ناحية أخرى، خلوصا إلى الاستهدافات‮ ‬غير البناءة لهذه الثورات،‮ ‬مع طرح معادلة جيوبوليتيكية تقينا أي انهيارات مستقبلية‮.‬

وما تجربة‮ “‬ملتقي التأثير المدني‮” ‬في لبنان كمجموعة ضغط، وإطلاقه لمبدأ أولوية صياغة منظومة للأمن القومي في لبنان، تعني بمعالجة الخلل البنيوي في النظام التشغيلي بما هو تفعيل الحوكمة السليمة، كما معالجة الخلل البنيوي في السياسات الاقتصادية كما الاجتماعية، سوي قناعة حاسمة بأنه لا بد من عودة للإنتلجنسيا،‮ ‬كما الكوادر ذات الكفاءة العالية في القطاع العام والخاص والأكاديمي،‮ ‬كما في المجتمع المدني، لابد من عودة لهم لأخذ زمام المبادرة لتصويب المفاهيم المؤسسة للتصدعات التي نعيشها من ناحية، تمهيدا لتصويب المسارات من ناحية أخرى‮.‬

الاسترسال في التوصيف،‮ ‬علي ما ذكرنا،‮ ‬ قيمته تكمن في إمكان تكوين قاعدة للانطلاق في دينامية تغيير إيجابية بمساحات مشتركة لمواجهة الجهل والتطرف بالمعرفة والاعتدال،‮ ‬حيث إن الليبرالية ببعد العدالة الاجتماعية تشكل وحدها ضمانة عقد وطني جامع ومنتج في احترام لخصوصية كل من دولنا العربية، وصولا إلى عقد عربي جامع ومنتج‮.‬ وفي صلب هذا العقد قيم ومصالح مشتركة‮. ‬حتما الاتعاظ بتجارب من مثل الاتحاد الأوروبي يستأهل التفكير، لكن لابد من بناء أكثر إبداعا،‮ ‬وهذا ما يؤهلنا لتقديم نموذج عصري في إدارة التعدديات‮. ‬لسنا محكومين أبدا بستاتيكوات‮ (‬معطيات أمر واقع‮) ‬مدمرة، ولا بانفلاتات هجين‮.‬

1- ‬الربيع العربي‮ .. ‬مسببات مركبة‮:‬

سواء وافقنا علي تعبير الربيع العربي أو قررنا استبداله، فليس في ذلك من فائدة سوي الانغماس في نقاش مفهومي عقيم‮. ‬لكن ثمة في لبنان في عام‮ ‬2005‮ ‬من استعمل تعبير‮ “‬ربيع بيروت‮” ‬للدلالة علي تفتح براعم دينامية شعبية التحق بها السياسيون،‮ ‬وليس العكس‮.‬

الأجدي يتمثل بالإضاءة علي عناوين المسببات المركبة التي أملت بدء التغيير في العالم العربي،‮ ‬وهي‮:‬

‮❊ ‬رفض الديكتاتورية

‮❊ ‬رفض السلطوية

‮❊ ‬رفض التعبئة

‮❊ ‬رفض الاحتكارية

‮❊ ‬رفض الفقر

‮❊ ‬رفض التجهيل

لم تأت أبدا هذه الروافض الستة علي قاعدة القبول باستبدال ديكتاتوريات عائلية مقنعة بديكتاتوريات بوليسية، أو بديكتاتوريات دينية‮. ‬الديكتاتوريات العلمانية مرادف للديكتاتوريات الدينية،‮ ‬والعكس صحيح‮. ‬في الحالتين إسرائيل مرتاحة،‮ ‬إذ هي في حلف موضوعي مع كل منها‮. ‬لا حاجة للتفسير،‮ ‬فالمسألة واضحة التوجهات‮. ‬في أي حال، هذه المسببات التي ذكرنا تحتم تغييرا في دينامية الدول الداخلية‮.‬

ولكن لماذا كل هذا التهويل بأننا، وبإزاء الفوضي التي نعيش، مقبلون علي تغيير جيوبوليتيكي حتمي،‮ ‬أي‮ “‬سايكس‮ – ‬بيكو‮” ‬جديدة؟‮.‬

في أي ثورة،‮ ‬ثمة مراحل انتقالية تسيل فيها الدماء،‮ ‬تجتاحها الفوضي،‮ ‬تنقلب أدوار المتناحرين،‮ ‬تدخل فيها الطوابير الخامسة،‮ ‬تتداخل فيها عوامل إقليمية ودولية‮. ‬والأهم في كل ما سبق ألا تغتال نقاوة الثورة‮.‬

اتفاق‮ “‬سايكس‮ – ‬بيكو‮” ‬أتي نتيجة تقاطع مصالح استعماري لم تكن فيه دولنا قائمة‮. ‬أما في هذه المرحلة، فالتحدي يكمن في إعادة تكوين مفاهيم سليمة في الحكم التشاركي المتوازن، وفي آليات ديمقراطية نزيهة‮.‬

فما نعايشه أتي نتيجة سوء استخدام السلطة،‮ ‬مما شكل قمعا لطموحات الناس، وتطويعا لفاعلية المؤسسات، وضربا لاستدامة السياسات‮. ‬وهذا ما يسميه‮ “‬ملتقي التاثير المدني‮” ‬خللا بنيويا في التوازن الواجب أن يقوم بين القطاع العام،‮ ‬والقطاع الخاص،‮ ‬والمجتمع المدني‮.‬

إن هذا الخلل البنيوي في التوازن،‮ ‬منساقا من ثلاثية القمع والتطويع والضرب،‮ ‬بلغنا فيه مقام الدول الفاشلة،‮ ‬حيث الأرض بثرواتها مستباحة، والشعب مستنزف مشلول، والجيوش تائهة بين حماية القانون،‮ ‬أو حماية السلطة‮ (‬لبنان‮ / ‬مصر‮ / ‬الأردن‮ .. ‬نماذج مختلفة،‮ ‬حيث جيوشها مرتبطة بخيارات حماية الناس لا الأنظمة‮)‬، إلى تطرف ديني نائم‮. ‬هذه العوامل الأربعة ذات أبعاد داخلية في كل دولة‮.‬

وإذا كان من المفيد الاعتراف بعوامل خارجية أسهمت في اندلاع الثورات الداخلية، فإن افتقاد المناعات الوطنية هو الذي سمح بدخول هذه العوامل علي الخط‮. ‬ومهما يكن من أمر هذا التداخل،‮ ‬فإنه يجب علينا تحديد المخاطر التي تستهدف الربيع العربي من ناحية، كما قراءة تجربتي مصر وتونس من ناحية أخرى، وصولا إلى فلسفة‮ “‬الأمن القومي في لبنان‮”‬،‮ ‬والتي أطلقها‮ “‬ملتقي التأثير المدني‮” ‬بالتعاون مع مركز البحوث والدراسات الاستراتيجية في الجيش اللبناني‮ (‬31‮ ‬مارس‮ ‬2015(1)

2- ‬الربيع العربي‮ .. ‬أي مخاطر؟

بعيدا من المنمطات، وفي منأي عن الاسترسال في التنظير، يجب الاعتراف بأننا في المرحلة المفصلية من ربيع العالم العربي، الذي استهل في لبنان عام‮ ‬2005،‮ ‬وها نحن اليوم في عمقه في مصر،‮ ‬حيث كانت ثورة لتصويب مسار الاستيلاء علي الحكم،‮ ‬وعادت مصر إلى عافيتها قلبا نابضا للعالم العربي‮.‬ وبعد انتخابات في الجزائر،‮ ‬كانت المرأة نجم برلمانها، مرورا بتونس التي أثبتت بخضرة نضالها رقي سلمية ثورتها‮.‬ وكم يعنينا ربيع سوريا،‮ ‬حين يتوقف فيها هدر دماء الأحرار‮. ‬وبعيدا عن كل المنمطات،‮ ‬ثمة ما يوجب الاعتراف بأن صيانة العيش المشترك المسيحي‮ – ‬الإسلامي بنفَس مدني، تحد من الأولوية بمكان مقاربته بجرأة وجدية‮. ‬فالعيش المشترك المسيحي‮ – ‬الإسلامي، وفي ظل الربيع العربي، يواجه هجوما من أربعة محاور،‮ ‬يتمثل أولها في الوهم الأقلوي، وثانيها في الانتفاخ الأكثري، وثالثها في ترهل الليبراليين، ورابعها في هشاشة العدالة الاقتصادية‮ – ‬الاجتماعية‮.‬

أ‮- ‬الأقلوية‮ – ‬الوهم‮: ‬الأقلوية ذهنية قبل أن تكون واقعا ديموغرافيا أو دينوغرافيا‮. ‬ومقاومة الأقلوية تكون بتطوير مفهوم العروبة الحرة،‮ ‬وتمتين مفهوم المواطنة‮. ‬والأقلوية منهج استدراج حمايات داخلية وخارجية،‮ ‬ينعكس استتباعا علي رؤية حلف أقليات تفيد منه‮ “‬يهودية إسرائيل‮” ‬ليس إلا، وهنا بيت القصيد.الأقلوية وهم يجب أن يفكك بنيته المؤمنون بالعيش المشترك المدني‮.‬

ب‮- ‬الانتفاخ الأكثري:لقد قمعت الديكتاتوريات التي تسيدت العالم العربي علي مدي أربعين عاما المتدينين،‮ ‬بمعني إقصائهم عن العمل السياسي أسوة بغيرهم، بل هي أقصت كل من لم يصنف ذاته في عديد المصفقين لها‮. ‬وكان لهؤلاء تيار عريض يتحين فرصة صحوة حصل عليها في صناديق اقتراع ديمقراطية، بدأت في فلسطين،‮ ‬ومرت بالجزائر وتونس،‮ ‬ومصر،‮ ‬وليبيا‮.‬ الأهم من الصحوة وعيها بأن تحولها انتفاخا أكثريا إنما هو انتحار، وحينها تكون حليفا موضوعيا للوهم الأقلوي‮. ‬الانتفاخ الأكثري يجب أن يفكك بنيته المؤمنون بالعيش المشترك‮.‬

ج‮- ‬ترهل الليبراليين‮: ‬من السهل التسويق بأن الخطر علي الربيع العربي قائم فقط في‮ “‬الوهم الأقلوي‮”‬، و”الانتفاخ الأكثري‮”‬، مع تجاهل أن تعميم الفوبيا من‮ “‬الإسلام السياسي‮”‬،‮ ‬وشد العصبية المسيحية،‮ ‬انطلاقا من هذا التعميم، هما نتاج حتمي لترهل الأنتلجنسيا الليبرالية في حماية مكتسبات العيش المشترك المسيحي‮ – ‬الإسلامي العربي علي مر التاريخ، فضلا عن إغفال‮ ‬مكتسبات التراث الإبراهيمي، قبل وفود آفة الصهيونية إلى اليهودية‮.‬ وهنا،‮ ‬يجب الالتفات إلى جدية تنامي اليسار اليهودي في العالم بما يتفوق علي تنامي اليمين داخل إسرائيل، وإشارتي إلى حركة‮ “‬جي‮ ‬ستريت‮” ‬في الولايات المتحدة الأمريكية، وحركة‮ “‬جي‮ ‬كول‮” ‬في أوروبا‮. ‬والحركتان باتتا في موقع نزع الشرعية في شكل أو في آخر عن سياسة إسرائيل العدوانية‮.‬

السؤال المحوري في كل ما سبق يتلخص في‮: ‬أين هم الليبراليون العرب،‮ ‬مسيحيين ومسلمين ويهودا؟،‮ ‬وقد يكون لدي شباب ثورات الربيع العربي إجابة علي ذلك، إن صمموا هم علي إعادة بناء هذا التيار‮.‬

د‮- ‬هشاشة العدالة الاقتصادية‮ ‬الاجتماعية‮: ‬أولويتان جمعتا أحرار العرب‮: ‬الحرية اجتماعيا وسياسيا،‮ ‬مع ما تحمله من مقومات للديمقراطية وحقوق الإنسان،‮ ‬والرغيف اقتصاديا وتنمويا، مع ما يختزنه الرغيف من رمزية لنوعية الحياة الكريمة، لا تسولها‮. ‬من هنا، فإن هشاشة العدالة الاقتصادية‮ – ‬الاجتماعية هي مدعاة تطرف وتمزيق،‮ ‬إن لم نحتكم فيها إلى سياسات رؤيوية‮. ‬وبالتالي،‮ ‬فإن العيش المشترك مصونا هو إحدي نتائج هذه السياسات‮.‬

ما سبق مقاربة في هجوم من محاور أربعة يتعرض لها العيش المشترك في العالم العربي‮. ‬ودرء الهجوم يبدأ بتزخيم الحوار مع الناس وبينهم، ليس الحوار الأكاديمي وحسب، بل ذاك الآتي من استراتيجيات تواصل جريئة وحكيمة‮. ‬واستراتيجيات التواصل ليست قصرا في الميديا والإنترنت،‮ ‬بل في نسق تربوي مدني‮ – ‬ديني، يبدأ بالمرجعيات الدينية الكبرى، وأعني خصوصا الأزهر،‮ ‬والنجف،‮ ‬والمسيحيين المشرقيين علي اختلاف توجهاتهم‮.‬ وللأنتلجنسيا المدنية دور آمل ألا تنأي فيه بنفسها عن ممارسته إما لترقب، أو لخفر، أو لشلل مدمر‮.‬

3- ‬مصر وتونس ويقظة الليبراليين‮!‬

ما يجري في مصر وتونس، علي تمايز التجربتين، استثنائي في سياق التاريخ العربي‮. ‬واستثنائية الحراك الذي يقوده تحالف نخب خمس‮ (‬الفكرية والاقتصادية،‮ ‬والدينية،‮ ‬والعسكرية،‮ ‬والقضائية‮)‬ قائمة في أنه يستند إلى بعد ثوري يرفض اختزال الدستور بفرض أحاديات تشريعية، وينبذ الاستئثارات السلطوية‮. ‬والحقيقة أن بين ممارسة السلطة والحكم بالعدل بونا شاسعا‮.‬

في أي حال تتبدي أي مقاربة لثورة المصريين علي الثورة، أن الشعوب العربية، التي كسرت، وفي لحظة وعي استراتيجية،‮ ‬قوامها مطلبا الحرية والعدالة الاجتماعية‮ -‬من ضمن معادلة السياقات الديمقراطية‮-‬ منظومات استبدادية مركبة بتحالفات بوليسية مالية،‮ ‬تسيدت علي مدي أربعين عاما، لن تسمح بأي شكل من الأشكال بتسييد استبداد ديني مكان ذاك المخابراتي‮. ‬ويجب التنبه إلى أنه من‮ ‬غير الجائز التعاطي مع ثورات الشعوب العربية بمقاربة شمولية، إذ ها هي التطورات تثبت أن ما استتبع سقوط الأنظمة السابقة من تطورات،‮ ‬هو في تونس، غيره في مصر، وغيره في ليبيا، وغيره في سوريا، وغيره في لبنان أو العراق، يحتاج إلى تفكر ملي في قدرة التغيير الهادئ، بمعزل عن أوهام الاستقطابات الطائفية والمذهبية، والتي يدعي البعض مقاومتها، فيما هو ممعن في بنائها باستعلاءات،‮ ‬وتخوين،‮ ‬ورهانات خاطئة‮.‬

ومهما يكن من أمر تأكيد التمايز بين كل من ثورات الربيع العربي، فإن تونس مع مصر تشكلان نموذجا جديا للبحث، خصوصا مع عدم اكتمال المشهد الليبي، والذي اختصره الممثل الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا منذ عامين،‮ ‬د‮. ‬طارق متري،‮ ‬بقوله‮: “‬نحاول أن نساعد الليبيين علي بناء دولة‮”‬، كما استمرار دموية المشهد السوري‮. ‬فما جري في تونس من تلاق، ولو‮ ‬غير مكتمل العناصر، بين اليساريين والإسلاميين، وليس من إمكان للتوسع فيه في هذه العجالة، يشير إلى خصوصية تأثير الفكر الغربي في النسق السياسي والديني هناك، بما يعني الدفع باتجاه تظهير شكل من أشكال الدولة المدنية الواجب بلورتها بالاستثمار في حوار وطني شامل أكثر منه إسقاطا لنماذج‮ ‬غربية‮. ‬وقد تكون بعض التوترات الهادئة في تونس بين المدنيين والإسلاميين تدل علي أننا إزاء ثورة في الثورة، إنما بطبيعة ديمقراطية تستفز الفكر والممارسة السياسيين، إنما من ضمن البحث في سلم القيم الواجب أن تسود برامج الأحزاب،‮ ‬كما الأولويات في هذه البرامج،‮ ‬أكثر منه الانسياق إلى تفضيل هذا أو ذاك من الكتل علي قاعدة المصالح فقط‮. ‬النموذج التونسي يستأهل من المفكرين التونسيين أنفسهم أن يشاركونا فيه بعصف ذهني يبقي خجولا حتى الحين‮.‬

أما مصر، وبعكس هدوء تونس الهادر، فإن صخب الشارع فيها يشي بالكثير من قناعة لدي من ثاروا علي محاولة تسلط‮ “‬الإخوان‮” ‬في مواجهة أي خيار تطويع باسم الديمقراطية العددية‮. ‬وصخب الشارع المصري يتلاقي فيه النخبويون‮ (‬وليس في ذلك تمييز طبقي بل واقعي‮)‬، وفي سابقة تستأهل أيضا التأمل العميق، يتلاقون فيه مع هموم الناس الرافضين ليس فقط للفقر والإفقار، بل للاستسلام لقمع مقنع باسم الدين‮. ‬ولا يخفي علي أحد الرفض الحاسم من مرجعية الأزهر،‮ ‬وبحكمة فائقة، لهذا القمع المقنع‮. ‬وهنا،‮ ‬تتراجع توهمات الخائفين من إمكان سيطرة‮ “‬الإسلام السياسي‮”‬، لأهداف سياسية،‮ ‬علي السلطة‮.‬ وقد يكون لزاما عليهم النظر مليا إلى ثورة المصريين المتجددة، بما هي عبرة لا يجوز المرور عليها مرور الكرام‮.‬

صوَّب الكثيرون، وتحديدا منذ بداية الربيع العربي، علي الإسلاميين، وقد يكون هؤلاء الأخيرون أخطأوا في عدّ‮ ‬ذواتهم قادرين علي التحكم بمسار الأمور، وهم في ذلك عاشوا وهم انتفاخ أكثري، متجاهلين أن كل ثورة لا تحيا إن لم تطحن بالكامل التوتاليتاريات،‮ ‬حتى تلك الدينية منها‮. ‬لكن ما لم يتنبه له الكثيرون أيضا هو أن الليبراليين‮ ‬غائبون إلا علي مستوي ردود الفعل، وبات ملحا تنظيم صفوفهم، وتمتين شراكاتهم، وصوغ‮ ‬سياسات تحيي خيارات إنقاذ قيم التعددية،‮ ‬والديمقراطية،‮ ‬وحقوق الإنسان‮. ‬ومصر وتونس توفران لليبراليين العرب اليوم فرصة يقظة‮.‬

4- “‬ملتقي التأثير المدني‮” ‬و”الأمن القومي في لبنان‮”:‬

في لبنان،‮ ‬وبموازاة تونس ومصر، وبالاستناد إلى حركية استثنائية من المجتمع المدني، أطلق‮ “‬ملتقي التأثير المدني‮” ‬مفهوم‮ “‬الأمن القومي في لبنان‮ ‬نحو عقد وطني جامع ومنتج‮”. ‬علي أن مقاربة الملتقي أتت بالاستناد إلى دينامية داخلية، إنما في قراءة للعوامل الخارجية المؤثرة في لبنان‮.‬

وفي ظل التصدع الجيوبوليتيكي الذي يعيشه العالم العربي، والخلل البنيوي الذي يعتري لبنان علي مستوي نظامه التشغيلي،‮ ‬كما سياساته الاقتصادية والاجتماعية، ولما كان الأمن القومي من أهم المقومات لبناء أسس الأنظمة السياسية، والاقتصادية،‮ ‬والاجتماعية واستمراريتها، وفي هذه المرحلة المأزقية المفصلية من تاريخ وطننا وعالمنا العربي، لا بد من صياغة منظومة متكاملة للمفاهيم المكونة لـ‮ “‬الأمن القومي‮”‬،‮ ‬من خلال إعادة المكانة للتوازن بين القطاع العام والقطاع الخاص،‮ ‬والمجتمع المدني، علي قاعدة قيام دولة عصرية‮. ‬من هذا كله،‮ ‬ينطلق لبنان الرسالة ليؤكد دوره الحضاري في صون حقوق الإنسان،‮ ‬ونموذجية إدارة التعددية،‮ ‬واحترام أسس الديمقراطية واستلهام مبادئ الحريات العامة والخاصة المبدعة،‮ ‬وتطبيق القانون،‮ ‬وصون الدستور‮.‬

علي أن مفهوم‮ “‬الأمن القومي‮” ‬الواسع الامتدادات يطل عليه‮ “‬ملتقي التأثير المدني‮” ‬بمسائل محددة،‮ ‬أي ارتباط هذا المفهوم في لبنان بأبعاد ثلاثية،‮ ‬وهي‮:‬

‮- ‬فاعلية النظام التشغيلي

‮- ‬سياسات اقتصادية مستدامة

‮- ‬سياسات اجتماعية متكاملة

وأركان هذه الأبعاد‮:‬

‮- ‬طموحات الناس

‮- ‬ إنتاجية المؤسسات

‮- ‬استدامة السياسات

‮- ‬آليات مساءلة

همّ‮ “‬ملتقي التأثير المدني‮” ‬استعادة مساحة التواصل بين الإنتلجنسيا،‮ ‬والعلماء،‮ ‬والخبراء من ناحية، وصناع القرار،‮ ‬من ناحية أخرى،‮ ‬تحت سقف المصلحة الوطنية العليا لتطوير مفهوم الدولة بالحوكمة السليمة،‮ ‬حيث هناك مساءلة بالقانون، وشفافية بالشراكة، وعدل في إدارة التعددية، وإنتاجية في الإدارة،‮ ‬ومساواة للمواطنين‮.‬

وهنا لا بد من الخروج من هواجس تغير‮ “‬الجيوبوليتيك‮” ‬التقليدي لمصلحة منهجية تحقيق‮ “‬جيوبوليتيك‮” ‬الناس،‮ ‬والمؤسسات،‮ ‬والسياسات‮. ‬وبتحقيق هذا الجيوبوليتيك،‮ ‬نتفادى انتحارات،‮ ‬وانهيارات،‮ ‬وانزلاقات مدمرة‮.‬

————————————-

(*) ‬تعتمد هذه المقالة علي ورقة عمل قدمت في المؤتمر الإقليمي الخامس،‮ ‬الذي عقده مركز البحوث والدراسات الاستراتيجية في الجيش اللبناني في بيروت بين‮ ‬5‮ ‬و8‮ ‬مايو‮ ‬2015،‮ ‬تحت عنوان‮: “‬الشرق الأوسط في ظل متغيرات السياسة الدولية‮”.

(1) للمراجعة http//nationsecurity.thecihlebanon

زياد الصائغ

نقلا عن مجلة السياسة الدولية