أثار عدم استبعاد دبلوماسي روسي كبير نشر صواريخ روسية في كوبا وفنزويلا رداً على رفض واشنطن وحلفائها الغربيين مطالب الكرملين حول أوكرانيا، مزيجاً من التجاهل والتحفز في الولايات المتحدة بخاصة أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حذر، قبل أيام، من اتخاذ إجراءات عسكرية إذا استمر استفزاز الغرب، كما أنه أشار عام 2019 إلى إمكانية نشر سفن حربية روسية تحمل صواريخ “زيركون الهايبرسونيك” في المياه الدولية قرب الشواطئ الأميركية، فما خطورة وجدية هذه التصريحات، وهل تعد مجرد ورقة ضغط تفاوضية أخرى أم أن العالم قد يتجه نحو أزمة صواريخ كوبية جديدة أشبه بأزمة 1962 التي كادت تشعل حرباً نووية عالمية بين أميركا والاتحاد السوفياتي؟
لماذا كوبا؟
قبل 60 عاماً، وفي أوج الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، كان العالم على شفا حرب نووية حينما اكتشفت الاستخبارات الأميركية عام 1962، تمركز صواريخ نووية سوفياتية على أراضي جزيرة كوبا في البحر الكاريبي على بعد نحو 100 ميل (نحو 160.9344 كيلومتر) من شواطئ ولاية فلوريدا الأميركية، ما دفع الولايات المتحدة إلى فرض حصار بحري لمنع موسكو من إرسال المزيد من الصواريخ وإجبارها على سحب صواريخها، لكن بعدما حبس العالم أنفاسه انتهت الأزمة حين اتفق الرئيس الأميركي جون كينيدي والزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف على أن تسحب موسكو صواريخها مقابل تعهد واشنطن بعدم غزو كوبا وإزالة الصواريخ الأميركية من تركيا.
ولأن تلك الأزمة كانت أسخن نقطة توتر في العلاقات بين موسكو وواشنطن طوال الحرب الباردة، رفعت روسيا أخطار نزاعها مع الغرب بشأن أوكرانيا وتوسيع حلف “الناتو”، عندما رفض نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف استبعاد سيناريو مماثل تنشر فيه روسيا صواريخ وقوات عسكرية لها في كوبا وفنزويلا إذا تصاعدت التوترات مع الولايات المتحدة ولم تقلص أميركا وحلفاؤها أنشطتهم العسكرية على أعتاب روسيا، مشيراً إلى تحذير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من أن موسكو قد تتخذ إجراءات عسكرية غير محددة إذا فشلت الولايات المتحدة وحلفاؤها في تلبية مطالب روسيا.
محاكاة القوة
ويبدو أن هذه الفكرة تختمر في رأس المسؤولين الروس والرئيس بوتين منذ فترة طويلة باعتبارها أداة ضغط إضافية يمكن أن تؤتي ثمارها عند الضرورة، فبسبب المخاوف الروسية من أن الولايات المتحدة قد تنشر صواريخ نووية متوسطة المدى في أوروبا حينما لوحت بالانسحاب من معاهدة القوات النووية متوسطة المدى، هدد بوتين في فبراير (شباط) عام 2019 بأن روسيا مستعدة عسكرياً لمواجهة تشبه أزمة الصواريخ الكوبية إذا أرادت الولايات المتحدة، وهدد بوضع أحدث صواريخ “كروز” من نوع “زيركون” يبلغ مداها 1000 كيلومتر، وتفوق سرعتها تسعة أضعاف سرعة الصوت على السفن أو الغواصات بالقرب من المياه الإقليمية للولايات المتحدة، وهو ما فسره المراقبون آنذاك بأن بوتين كان يرغب في إظهار القوة ومحاكاة القوة العظمى للاتحاد السوفياتي.
لكن الولايات المتحدة اعتبرت تصريحات بوتين مجرد دعاية تستهدف صرف الانتباه عما اعتبرته واشنطن انتهاكات موسكو لمعاهدة القوات النووية متوسطة المدى، التي كانت تحظر على كل من روسيا والولايات المتحدة نشر صواريخ أرضية قصيرة ومتوسطة المدى في أوروبا.
أداة ضغط أم خداع؟
ويستند الموقف الروسي الذي حدده بوتين مجدداً إلى أن نشر صواريخ متحركة على متن سفن وغواصات في عرض المحيط سيعني أن روسيا يمكن أن تضرب الولايات المتحدة في وقت أسرع من الصواريخ الأميركية التي يمكن أن تنتشر في أوروبا، وتضرب موسكو لأن وقت الرحلة سيكون أقصر.
غير أن الولايات المتحدة لا تمتلك حالياً صواريخ نووية أرضية متوسطة المدى يمكن نشرها في أوروبا، وهو ما يجعل سيناريو التهديد الروسي الآن بلا معنى، إلا إذا كان بوتين يحاول بعد أن وصلت مباحثات أوكرانيا إلى طريق مسدود، إرسال رسالة مفادها بأنه لا ينبغي لأي طرف أن يدخل في سباق تسلح جديد باستهداف الطرف الآخر، لذا يجب أن نجلس ونستأنف المناقشات، كما يشير كينغستون ريف من مؤسسة أبحاث رابطة الحد من الأسلحة.
واعتبرت أولغا أوليكر، مديرة برنامج أوروبا وآسيا الوسطى بمجموعة الأزمات الدولية في واشنطن، أن الدبلوماسيين الروس لم يحصلوا على الصفقة التي يريدونها، ولهذا فإن التغيير في لهجتهم يؤكد أن الصفقة التي يريدون إبرامها هي مع الأميركيين وليس “الناتو”، كما أن التلويح بتكرار أزمة الصواريخ الكوبية، يشير على الأقل إلى أن المحادثات لم تنتهِ تماماً بعد، وهو ما تؤكده توقعات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بأن يضع المفاوضون الأميركيون على
ووفقاً لملاحظات المسؤولين الأميركيين السابقين الذين تفاوضوا مع روسيا، لا يتمتع الدبلوماسيون الروس بقدر كبير من سلطة اتخاذ القرار الذي يقع فقط على عاتق الرئيس بوتين، حسب ما يقول دانيال فرايد، الذي شغل منصب مساعد وزيرة الخارجية الأميركية خلال إدارة جورج دبليو بوش، وهذا من شأنه أن يتطلب مزيداً من الوقت لحسم الموقف النهائي، لكنه لا يمنع من استخدام كل أوراق الضغط المتاحة.
على محمل الجد
ورفض جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي الأميركي، الرد على تصريحات ريابكوف حول انتشار الصواريخ والقوات المحتمل في أميركا اللاتينية، الذي وصفه بأنه تبجح صاخب وثرثرة لم يطرحها أحد خلال حوار الاستقرار الاستراتيجي في المحادثات التي عقدت، الاثنين الماضي، بين المسؤولين الأميركيين والروس في جنيف، لكنه كان واضحاً في تحذير روسيا من مغبة التحرك في هذا الاتجاه، مؤكداً أن الولايات المتحدة سوف تتعامل مع هذه التحركات بشكل حاسم، بينما أشار مسؤول كبير في إدارة جو بايدن إلى أن تصريح ريابكوف بشأن كوبا وفنزويلا لم يغير حسابات واشنطن.
ومع ذلك، تعاطى عدد من الباحثين والمسؤولين السابقين في واشنطن مع تصريحات الدبلوماسي الروسي على محمل الجد، بخاصة أنها الأولى من نوعها خلال الأزمة الحالية، فقد عكست تحذيرات الانتشار العسكري المحتمل في كوبا وفنزويلا نفوذ موسكو الطويل في هذين البلدين، وقد كانت كوبا شريكاً بالغ الأهمية خلال الحرب الباردة للاتحاد السوفياتي. وفي فنزويلا، وجد بوتين حليفاً اشترى بشغف معدات عسكرية روسية، بما في ذلك طائرات “سوخوي” المقاتلة المتطورة، ونشرت موسكو مستشارين عسكريين وفنيين روس هناك، وفي ديسمبر (كانون الأول) 2018، أرسلت روسيا، لفترة وجيزة، زوجاً من قاذفاتها النووية إلى فنزويلا في استعراض للقوة لدعم الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو الذي كان يتعرض لضغوط غربية.
وزاد من إحساس التوتر ارتفاع وتيرة الاضطرابات في أسواق المال الروسية على وقع فشل المحادثات بين روسيا والغرب، واحتمال اندلاع حرب في أوكرانيا، إذ فقد الروبل ما يصل إلى 2.6 في المئة من قيمته مقابل الدولار ووصل إلى 76.5 روبل، كما تعرضت الأسهم والسندات الروسية للضغط والاضطراب بعدما كانت السوق تتجاهل المفاوضات في البداية.
خطر الحرب
وبينما لا تزال هناك نافذة ولو ضئيلة لمزيد من المباحثات، إلا أن معظم المسؤولين والمراقبين الأميركيين والأوروبيين لم يستبعدوا اندلاع حرب يختلفون حول نطاقها. وأوضح سوليفان أن خطر الغزو الروسي العسكري لأوكرانيا مرتفع، وأن الولايات المتحدة ليست لديها أوهام بشأن احتمال نشوب صراع. في حين حذرت بولندا التي ترأس منظمة الأمن والتعاون الأوروبي من أن القارة تواجه أكبر تهديد بالحرب في الأعوام الـ30 الماضية، بعد أن هددت روسيا باستخدام الوسائل العسكرية إذا لم تتم تلبية مطالبها بشأن أوكرانيا، في وقت لم تنكر هيلغا شميت، الأمينة العامة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، أن الوضع في المنطقة محفوف بالمخاطر، في حين أعرب الأمين العام لحلف “الناتو” ينس ستولتنبرغ عن قلقه من خطر نشوب صراع حقيقي، وحث روسيا على وقف التصعيد.
من الناحية الميدانية، لاحظ محللون عسكريون أنه في حالة غزو روسيا لأوكرانيا، فإن تجميد الأرض في فصل الشتاء سيكون مفيداً للمدرعات والدبابات الثقيلة الروسية، إلا أن الشتاء المعتدل حتى الآن لا يضمن تجميد الأرض بشكل كافٍ، ومع ذلك، حدد باحثون بعض العلامات الجديدة على تحرك القوات الروسية نحو الحدود الأوكرانية في الأيام الأخيرة، بما فيها عدد من طائرات الهليكوبتر، ما يثير مزيداً من القلق، كما أشار سوليفان إلى أن أجهزة الاستخبارات الأميركية التقطت معلومات تشير إلى أن روسيا تمهد الطريق لاختلاق ذريعة للغزو، بينما حددت أوكرانيا التي شاركت في مباحثات منظمة الأمن والتعاون الأوروبي عدد القوات على حدودها الذي قالت إنه بلغ 106 آلاف جندي روسي فضلاً عن 1500 دبابة، واتهمت موسكو بتوجيه بندقية إلى الأمن الأوروبي المشترك.
وفي حين أكدت إدارة بايدن استعدادها لمناقشة القيود المفروضة على الصواريخ متوسطة المدى في أوروبا، فضلاً عن القيود المتبادلة على نطاق التدريبات العسكرية في القارة الأوروبية، إلا أن واشنطن وحلف “الناتو” رفضا طلب موسكو عدم احتضان أوكرانيا أو أي دول سوفياتية سابقة أخرى كأعضاء جدد في الحلف، الأمر الذي تعتبره روسيا خطاً أحمر لا يمكن التغاضي عنه، مشيرة إلى ما تصفه باستمرار الاستفزازات الأميركية ومنها تحليق القاذفات الاستراتيجية الأميركية ذات القدرات النووية على بعد 15 كيلومتراً فقط من الحدود الروسية.
هل الحرب حتمية؟
أحد أهم الأسئلة التي تدور في أذهان الجميع الآن هو، هل الحرب أكثر أو أقل احتمالاً بعد فشل الدبلوماسية الماراثونية التي استمرت زهاء أسبوع في عدد من العواصم الأوروبية، وللرد على هذا السؤال، يجيب ألكسندر فيرشبو، سفير الولايات المتحدة السابق لدى روسيا، بأن الحرب مرجحة، لكنها ليست حتمية، فمن ناحية لا يزال الروس على أهبة الاستعداد للحرب ومن المرجح أن يواصلوا الضغط لمعرفة ما إذا كان بإمكانهم تخويف “الناتو” وأوكرانيا لتقديم تنازلات من دون استخدام القوة، ولهذا يجب على الغرب أن يظل ثابتاً وأن يواصل الضغط على موسكو لمواصلة الحديث عن مخرج دبلوماسي.
لكن ميليندا هارينغ نائبة مدير مركز “أوراسيا” الأميركي، ترجح اندلاع الحرب بعدما وصلت المفاوضات إلى طريق مسدود، ولم يعد بالإمكان في ظل الوضع الحالي، التوفيق بين المواقف الروسية والأميركية، ومع ذلك، من المتوقع أن تكون الحرب محدودة النطاق في المناطق التي توجد للروس فيها قوات موالية حتى تتجنب موسكو إجماعاً قوياً من الغرب عندما يقررون توقيع عقوبات بحيث يمكن أن تتحملها موسكو في النهاية.
اندبندت عربي