د. معمر فيصل خولي
بعد الإطاحة بحكم الرئيس المصري محمد مرسي في 3 تموز/يوليو 2013م، شهدت علاقة القاهرة بأنقرة التي وقفت موقف الرافض لتلك الإطاحة توترًا شديدًا كان أول مظاهرها قيام الحكومة المصرية في 23 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2013م، الطلب من السفير التركي في مصر مغادرة أراضيها ووفقًا لمبدأ “المقابلة بالمثل” في القانون الدولي العام والعلاقات الدولية، سلكت تركيا ذات الطريق. ومنذ ذلك الحين، ويقوم القائمون بالأعمال بتسيير أعمال السفارات في القاهرة وأنقرة.
ليبدأ مسار جديد في العلاقات المصرية التركية عنوانه الأزمة السياسية والحرب الإعلامية بين الدولتين، فعلى مدار السنوات الفائتة تناقضت الرؤى المصرية مع التركية في عدد من القضايا الإقليمية ذات الاهتمام الاستراتيجي المشترك، كالحالة الليبية إذ رأت مصر في الوجود العسكري التركي في ليبيا، يعد مصدرًا من مصادر التهديد القومي المصري، وملف ترسيم الحدود البحرية في شرق البحر المتوسط، إضافة إلى ملف تواجد عناصر الإخوان المسلمون المصرية في تركيا، التي عدت الحكومة المصرية السابقة في 25 كانون الأول/ ديسمبر عام 2013م، ضمن قائمة المنظمات الإرهابية.
ولأن العلاقات الدولية لا تسير على خط مستقيم ولأنها أيضًا علاقات في ذات الوقت قائمة على تعزيز المصالح والمكاسب الوطنية، فإن العلاقات السياسية المصرية التنركية ليس استثناءا على ذلك، ففي آيار/ مايو العام الماضي، انطلقت في العاصمة المصرية القاهرة الجولة الأولى من “المباحثات الاستكشافية” بين مصر وتركيا لبحث إمكانية وآليات إعادة تطبيع العلاقات بين الدولتين.
ونظراً لحرص الدولتين في التطبيع المتأني للعلاقات الثنائية استضافت العاصمة التركية أنقرة في أيلول/ سبتمبر الفائت، الجولة الثانية من المباحثات الاستكشافية التي تهدف بدرجة أساسية إلى قياس مدى وجود أرضية للتوافق بين الدولتين للانتقال إلى المرحلة المقبلة من تطبيع العلاقات، في ظل تأكيدهما على وجود الإرادة السياسية للقيام بذلك. وهذا ما أكد عليه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عندما أعلن في تشرين الثاني/ نوفمبر الفائت، اعتزام بلاده اتخاذ خطوات هادفة إلى التقارب مع مصر.
وليس كما تذهب بعض التحليلات بأن المباحثات المصرية التركية، مردها قدوم إدارة أمريكية جديدة للبيت الأبيض، وأن هذه الأخيرة لا تنظر للنظام السياسي في مصر وتركيا بعين الرضا لاسيما في علاقاتهما مع روسيا، لذلك اضطرت هاتين الدولتين للتقارب لمواجهة أي ضغوط أمريكية قادمة.
لا أرى أن هذا السبب الجوهري في المباحثات التركية المصرية، وإنما جوهر المباحثات إدراك تلك الدولتين، بالنظر إلى التجربة السياسية الدولية أن الخصومة بين دول لا تجني المكاسب بل تزيد من وتيرة الصراع بينهما، وأن المكاسب الوطنية لا تتحقق إلا في التعاون الإقليمي، لاسيما إذا كانت هاتين الدولتين ينتميان إلى نفس البقعة الجغرافية كمصر وتركيا.
وطوال الأشهر الماضية، عملت القاهرة وأنقرة من أجل تعزيز الثقة عبر خطوات متبادلة تدريجية للتأسيس إلى مباحثات سياسية أعمق يمكن أن تقود لتعزيز التعاون السياسي لحل الأزمة في ليبيا، والتوصل إلى تفاهم حول شرق المتوسط قد يقود للتوقيع على اتفاقية لترسيم الحدود البحرية، وتعزيز التعاون الاقتصادي – الذي لم يتوقف رغم الأزمة السياسية بينهما- ، وغيرها الكثير من الملفات الإقليمية العالقة في الإقليم.
وكان من أبرز خطوات تعزيز الثقة طلب الحكومة التركية من القنوات التلفزيونية التابعة للمعارضة المصرية والتي تبث من إسطنبول بضرورة “الالتزام بمعايير الصحافة المهنية”، وهو ما اعتبر بمثابة دعوة صريحة لتخفيف حدة الانتقادات للدولة المصرية وهو ما دفع عددا من الصحافيين المعارضين إلى بث برامجهم عبر يوتيوب وصفحاتهم التي يتابعها الملايين على منصات التواصل الاجتماعي المختلفة في محاولة للتحايل على الضغوط التركية، قبل أن يطلب منهم أيضاً وقف نشاطهم من داخل الأراضي التركية.
ربما تطبيع العلاقات السياسية المصرية التركية التي تتوج إلى تبادل السفراء بين الدولتين، قد تحتاج إلى مقاربة سياسية للتوصل إلى حلول في شأن مجمل القضايا، وهنا يمكن الاعتماد على الاستراتيجية التدريجية في المباحثات والتي يتم من خلالها تعزيز علاقات الثقة على نحو تدريجي، بحيث تبدأ مصر وتركيا بالقضايا التي يسهل التفاوض من أجل حلها وتنتهي بالقضايا الصعبة، وليس بالضرورة أن تحل جميع القضايا حزمة واحدة، وإذا انتقلت المباحثات بين مصر وتركيا من حالة عدم الثقة إلى حالة الثقة، يمكن حينها تتم عملية تبادل السفراء بينهما.
مصر وتركيا هما من أبرز الدول الإقليمية وتربطهما علاقات تاريخية عميقة، وأن تطبيع العلاقات على أعلى مستوى دبلوماسي” تبادل السفراء”، لن يعود بالضرر بأي شكل من الأشكال عليهما، بقدر ما سيفتح نوافذ فرص للحديث عن تحالفات جديدة وفرص استثمار وقوة مؤثرة لا يمكن تجاوزها أو إغفالها في بيئة إقليمية شديدة التعقيد والحساسية والأهمية بكل المقاييس.
وحدة الدراسات التركية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية