أعادت التطورات الأخيرة التي شهدتها كازاخستان أكبر دول وسط آسيا الناطقة بالتركية إلى الواجهة مجدداً وبقوة الصراع الروسي التركي على النفوذ في هذه الدول التي تعتبرها تركيا امتداداً طبيعياً لها عرقياً ولغوياً وتاريخياً ودينياً وترى فيها روسيا حديقتها الخلفية وخط الدفاع الأول لها أمام توسع الناتو.
ورغم مساعي تركيا المعلنة لتعزيز العلاقات مع الدول الناطقة بالتركية عبر إحياء الروابط العرقية واللغوية والثقافية وتعزيز العلاقات السياسية والاقتصادية عبر “المجلس التركي”، إلا أن السياسيين والكُتاب الروس عادوا للتحذير بقوة مما يقولون إنها مساع حثيثة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان لتحول “المجلس التركي” إلى تحالف عسكري، وهو ما أجمع الكتاب الروس على وصفه بـ”حلم تكوين جيش طوران العظيم”.
والطورانية هي فكرة قومية تركية ظهرت في أواخر عهد الدولة العثمانية وكانت تقوم على فكرة التخلي عن فلسفة الدولة العثمانية متعددة الأعراق والقوميات والتوجه نحو الدول التي تضم الأعراق التركية في آسيا الوسطى والقوقاز وأطلق على هذه المناطق مصطلح “طوران العظمى”.
وعلى الرغم من أن هذا الحلم لم يتحقق، انصب كبار الكتاب الروس وبشكل خاص عقب مساعدة تركيا أذربيجان على تحرير إقليم قره باغ ومؤخراً عقب أحداث كازاخستان الأخيرة على إعادة إحياء مصطلح “جيش طوران العظيم” والقول إن أردوغان يعمل بكل جهده من أجل تطوير عمل دول “المجلس التركي” الذي تطور مؤخراً ليصبح اسمه “اتحاد الدول التركية” وصولاً إلى تشكيل تحالف عسكري يضم جميع الدول الناطقة بالتركية وهو ما يثير القلق في موسكو.
وعقب تفجر الاحتجاجات في كازاخستان بداية العام الجاري، سارعت روسيا إلى إرسال قوات عسكرية استناداً إلى اتفاقية الدفاع المشترك التي تجمع دول “معاهدة الأمن الجماعي”، وهو ما اعتبر بمثابة ضربة للنفوذ التركي حيث لم تستطع أنقرة التحرك لعدم وجود تحالف عسكري بين دول “المجلس التركي” أو اتفاقيات ثنائية تتيح لها الغطاء القانوني للتحرك سياسياً أو عسكرياً بشكل أكبر في الأزمة، وهو ما فتح الباب واسعاً أمام دعوات في دول المجلس وخاصة تركيا إلى ضرورة الإسراع في تشكيل تحالف عسكري واتفاقيات دفاعية مشتركة.
وفي مقال بعنوان “يدعون أردوغان إلى تأسيس كتلة عسكرية من الدول الناطقة بالتركية”، كتب إيغور سوبوتين في صحيفة “نيزافيسيمايا غازيتا” الروسية: “مطلوب من أنقرة تشكيل قوات مسلحة مشتركة للدول الناطقة بالتركية. أصبحت الدعوات من هذا القبيل أكثر تواترا بين العسكريين السابقين على خلفية إرسال قوات حفظ السلام التابعة لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي إلى كازاخستان”، معتبراً أن “مشروع جيش طوران يعكس تطلعات الأوساط القومية في تركيا”.
ولفت الكاتب إلى أن “تعاظم شعبية مثل هذه الأفكار يعود إلى أحداث حرب قره باغ الثانية، والخطاب العام للقيادة السياسية التركية، وبالطبع الأحداث في كازاخستان”، مضيفاً: “على الرغم من حقيقة أن مثل هذه الأفكار تحظى بشعبية كبيرة بين جزء معين من النخبة السياسية، إلا أن هناك عددا من القيود المهمة التي تعوق تنفيذها.. وحتى لو كان من الممكن التفكير بجدية في تشكيل جيش طوران في ظل الظروف السياسية، فإن اقتصاد البلاد لن يسمح بذلك”.
واعتبر الكاتب أن “الحقائق الإقليمية تجعل هيمنة روسيا من الناحية العسكرية والسياسية في آسيا الوسطى بديهية لا تحتاج إلى إثبات.. وبناءً على ذلك، فإن تشكيل جيش طوران لن يؤدي فقط إلى قلق موسكو، إنما سيترتب عليه عواقب معينة على كل من بلدان آسيا الوسطى وتركيا نفسها”.
من جهته، كتب المحلل لينا كورساك في صحيفة “موسكوفسكي كومسوموليتس” الروسية متسائلاً: “هل الدول التركية الأخرى الأعضاء في منظمة معاهدة الأمن الجماعي مهتمة بإنشاء قوات مسلحة مشتركة؟”، وأجاب: “في البداية، كانت الفكرة التركية المتمثلة في إنشاء “طوران العظيم” محببة لهم جميعا، وهذا يعني إنشاء جيش مشترك، هناك عدد من البلدان مع الفكرة الآن، على سبيل المثال، أوزبكستان. لكل دولة سيادتها، ويمكنها التحالف مع من تشاء حسب تقديراتها، لكني أكرر، أستبعد في هذه الحالة تحقق خطط تركيا”.
وتحت عنوان “أردوغان يبني بإصرار طوران العظيم” كتب في وقت سابق دميتري روديونوف، في صحيفة “سفوبودنايا بريسا” الروسية: “التكامل الوثيق بين تركيا وأذربيجان في إطار مفهوم أمة واحدة في دولتين أمر جذاب لأنقرة.. أذربيجان بالنسبة لتركيا منفذ إلى قزوين، ليس فقط إلى بحر قزوين، إنما وموارده وكل شيء يقع في الشرق منه، نحو بلدان آسيا الوسطى، حيث لتركيا طموحات جدية”.
وفي السياق ذاته، كتب دينيس يورغانوف، في صحيفة “زافترا” الروسية: “الشيء الأكثر أهمية ما قاله وزير الخارجية التركي مولود جاووش أوغلو، عندما صرح بأن من الضروري عدم الاكتفاء بتعزيز التعاون بين الوحدات الأمنية والاستخباراتية في الدول الأعضاء في المنظمة، الحديث يدور عن جعل التعاون أكثر تنظيماً وقوننة في إطار منظمة الدول التركية، وعن ضرورة إضفاء الطابع المؤسسي على التعاون بين الهياكل الأمنية والاستخبارية، أي إنشاء هيكل وآليات للتفاعل بين الدول الأعضاء”.
ويضيف الكاتب: “هكذا، فقد تسببت مشاركة منظمة معاهدة الأمن الجماعي في الصراع الكازاخستاني في ردة فعل مؤلمة، إلى حد ما في تركيا، وغذت رغبة أنقرة في إعطاء منظمة الدول التركية بُعداً عسكريا وسياسيا، وربما يكون هذا هو الشيء الأكثر أهمية، يجب أن نتوقع نشاطاً تركيا مضاعفا لتحقيق ذلك خلال رئاستها المؤقتة للمنظمة، أي في العام الحالي 2022. هذا ما يمكن قراءته من كلمات وزير الخارجية التركي”.
وفي مقال بعنوان “تركيا لن تتخلى عن آسيا الوسطى بلا قتال” بصحيفة “سفوبودنايا بريسا”، اعتبر الكاتب الروسي قسطنطين أولشانسكي أن “أردوغان يحلم في إيصال القوس التركي إلى بحيرة البايكال الروسية”، لافتاً إلى أنه “يتنازع على آسيا الوسطى الغنية بالموارد، في العقود الثلاثة الماضية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، عديد الدول، من الولايات المتحدة إلى إيران.. الأكثر حماسة هي تركيا، التي تنوي تحويل آسيا الوسطى ما بعد الاتحاد السوفييتي إلى إقطاعية لها”.
وعلى الصعيد الرسمي، أثارت تصريحات لمسؤولين أتراك حول التطورات الأخيرة في كازاخستان غضب مسؤولين روس، حيث قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، إن موسكو طلبت توضيحا من أنقرة فيما يتعلق بتصريح مستشار الرئيس التركي حول استخدام قوات منظمة معاهدة الأمن الجماعي في كازاخستان. فيما أعربت المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا عن أمل موسكو في أن “تتفادى أنقرة الإدلاء بتصريحات غير مدروسة حول كازاخستان، وألا تحاول الصيد في الماء العكر”، وذلك رداً على وصف مستشار تركيا كازاخستان بأنها “دولة تحررت من القمع السوفييتي”.
القدس العربي