المقايضة بمصادرة حرّيات البشر مقابل تحقيق أهداف سياسية آنية، لعبة متداولة وليست جديدة. بل لعلها من أقدم ألعاب الساسة، لكنها، في ذات الوقت، أشدّها سوءاً. وعادةً ما ترتبط بالأنظمة الديكتاتورية. وأذكر أنّني حين كنتُ، مع آلاف غيري، نرزح في سجون النظام العسكري السابق في ليبيا، كنّا شديدي التعاطف مع السجناء غير الليبيين، من مختلف الجنسيات والألوان الذين كانوا يشاركوننا المحنة، لعلمنا أنهم أُودعوا السجن ليكونوا أوراقاً في يد النظام يقايض بها لقاء إطلاق سراح عملاء له ممن ارتكبوا أعمالاً تخالف قوانين البلدان التي وجدوا بها واضطروا السلطات في تلك البلدان إلى اعتقالهم ومقاضاتهم وسجنهم.
اللعبة كانت، وقتئذ، مفضوحة ومؤسفة وتمارَس علناً باستمرار من دون رأفة ولا شفقة بأرواح البشر وبما يتكبدون من آلامٍ وحرمانٍ من جرّائها هم وأهاليهم. ولم يكن ممكناً إيقافها، لأن نظام العقيد القذافي، آنذاك، خصوصاً في فترات اشتداد العداء، وهي كثيرة، مع الأنظمة العربية المجاورة أو البعيدة جغرافياً، أو مع غيرها من الدول الغربية، لا يجد خروجاً من المآزق التي يتسبب فيها إلا بالاعتقال العشوائي لمواطني تلك البلدان التي يخاصمها العداء، للمقايضة بهم أو لاستخدامهم أوراقاً سياسية لممارسة الضغوط. الجدير بالإشارة أن لعبة المقايضة تختلف، شكلاً وموضوعاً، على قضايا تبادل الجواسيس التي تتم بين الدول، وتتداول في وسائل الإعلام أو تحت غطاء من السرّية، وانتشرت، كثيراً في زمن الحرب الباردة، بين قطبي الصراع.
تعاطُفنا مع أولئك السجناء ومحنهم ومعاناتهم لم يتوقف بانقضاء السجن. بل تواصل حتى بعد خروجنا منه واستعادة حرياتنا. ولذلك السبب ظلّت قضايا السجناء الأجانب، أينما كانوا وحلّوا، كلما أثارتها وسائل الإعلام تثير تعاطفي الشخصي وتلفت اهتمامي، ومن دون شك، مع آلاف غيري، في مختلف بلدان العالم.
وسائل الإعلام، هذه الأيام، تتحدَّث عن مواطن أميركي اسمه باري روسن يبلغ من العمر 77 عاماً، سُجن في إيران لمدة 444 يوماً، في الفترة ما بين 1979 – 1981، وكان، وقتذاك، يعمل ملحقاً إعلامياً بالسفارة الأميركية بطهران. السيد روسن جاء إلى فيينا لغرض الاحتجاج أمام المبنى، الذي تُعقد به الاجتماعات بين الوفد الإيراني والوفود الأوروبية في المفاوضات التي بدأت مؤخراً بهدف إقناع حكومة طهران بالوصول إلى اتفاق جديد حول برنامجها النووي، الذي ألغاه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب عام 2018، وتبعه بفرض عقوبات شديدة ضد إيران. ومن ذلك المكان، أعلن السيد روسن إضراباً على الطعام، الغرض منه الضغط أخلاقياً على الوفود الأوروبية في الاجتماعات لممارسة ضغوط على الوفد الإيراني بوضع شرط في أي اتفاق من الممكن الوصول إليه، بضرورة قيام النظام الإيراني بإطلاق سراح السجناء الأجانب في سجونه. السجناء جميعهم اعتُقلوا بتهم، حسب زعم حكومة طهران، تتعلق بالتجسس أو بنشر شائعات حول النظام في وسائل الإعلام الدولية. ورغم تنديد المنظمات الحقوقية الدولية بما يتمّ من خرق للقوانين والمعاهدات الدولية، ومن انتهاك لحريات أشخاص أبرياء، فإن حكومة طهران ما زالت تواصل انتهاكاتها، من دون إبداء أدنى اهتمام.
السيد روسن رغم كبر سنّه، ما زال مصرّاً على موقفه. لكنه، كما صرح مؤخراً، بدأ يشعر بالتعب بدنياً. اللافت للانتباه أن موقفه الاحتجاجي وصل إلى الكثير من السجناء الأجانب في طهران، وأعلنوا تضامنهم معه. اثنان منهم أعلنا مؤخراً إضرابهما عن الطعام. الملاحَظ أن السيد روسن يتميَّز غيظاً على صنّاع القرارات في أميركا وأوروبا. والسبب، حسب قوله، أنهم بدلاً من العمل يداً بيد وبروح فريق واحد ليتمكنوا من تحقيق الأهداف المطلوبة ذات الصلة بالإفراج عن السجناء، دخلوا في تنافس فيما بينهم من أجل الإفراج على مواطنيهم. تلك المنافسة المحتدمة أتاحت للنظام الإيراني فسحة كافية لممارسة ضغوطه على كل دولة على حدةٍ، وفرض شروطه لتحقيق أهدافه. السيد روسن يرى أن سياسة «فرّق تَسُدْ» تنطبق تماماً على السياسة الإيرانية في هذا الخصوص.
اللعبة الإيرانية لا تختلف عن تلك التي كان يمارسها نظام العقيد القذافي. لكن ما يحدث في إيران، خلال السنوات الراهنة، تجاوز كل السوابق.
المعلقون السياسيون يرون أن لعبة المقايضة بالبشر مربحة لحكومة طهران من نواحٍ عدة. وأنها، بمرور الوقت، امتلكت تجارب وخبرات، مكّنتها من تحقيق أهدافها. المشكلة أن استمرارها في ممارسة اللعبة تفاقم في السنوات الأخيرة، وبشكل ملحوظ، خصوصاً ضد مواطنيها ممن يحملون جنسيات بلدان أخرى.
وعلى ما يبدو، فإن الحلول الفردية لمواجهة الإشكالية، كما قال السيد ورسن، لا جدوى منها. وإلى أن يحين الوقت الذي تنتبه فيه دول العالم إلى هذه الحقيقة، فإن مسلسل المقايضة الإيراني ستتواصل حلقاته المحزنة. فهل من مدّكر؟
الشرق الأوسط