يُعرّف المحللون العسكريون العقيدة العسكرية الدفاعية بأنها «منظومة المفاهيم المتبناة رسمياً في دولة ما» لضمان الأمن القومي ولمواجهة التهديدات المحتملة أو المفترضة، كما أنها نظام لرؤية متطورة بهدف تحضير البلاد والقوات المسلحة للدفاع عن الوطن. ومن خصائص هذه العقيدة أولاً أنها محددة زمنياً، يُصار بعد انقضاء مدتها إلى تعديل أو إلغاء مضمونها ليحل محلها نص جديد لعقيدة جديدة. وثانية هذه الخصائص أنها مرتبطة في شكل وثيق بنفوذ الدولة المعنية، وكلما امتد واتسع النفوذ اتسعت هي الأخرى للمحافظة على هذا النفوذ. وكما هو السائد في الدول الكبرى يمكن أن تشمل الدفاع، ليس فقط عن وجود الدولة وأمن المواطن على الحدود وداخلها، بل أيضاً عن النفوذ أو المصالح خارج هذه الحدود. وثالثة هذه الخصائص، المرونة كي تتيح التعديل تبعاً للأحداث والتطورات التي تطرأ على الساحتين الداخلية والدولية.
في 4 شباط (فبراير) 2010، وقع الرئيس الروسي يومها ديمتري ميدفيديف على وثيقة «العقيدة الدفاعية الروسية»، وقبل استعراض أهم ما تضمنته الوثيقة، لا بد من الإشارة إلى أنه، ومنذ انهيار الاتحاد السوفياتي السابق مطلع التسعينات، والحكم الروسي الجديد الذي استولى على الإرث السوفياتي المتنوع يعمل جاهداً لاسترجاع النفوذ في الجوار الروسي القريب. فلا غرابة في أن يستحوذ هذا الأمر على العقائد الدفاعية الروسية، خصوصاً منذ 2000 عندما تولى فلاديمير بوتين السلطة في الكرملين. أما آخر عقيدة روسية، فوقعها وصادق عليها بوتين في 26 كانون الأول (ديسمبر) 2014. وعندما نشر الكرملين النسخة الجديدة للعقيدة العسكرية، تبين أنها تعتبر حلف شمال الاطلسي يُشكل تهديداً أساسياً لأمن البلاد، كما تنظر بقلق إلى «تعزيز القدرات الهجومية للحلف الأطلسي على أبواب روسيا مباشرة والإجراءات التي اتخذها لنشر منظومة شاملة مضادة للصواريخ».
في تحليله لهذه العقيدة، قال جيمس كوين ليفن، كبير محللي بحوث العمليات بمؤسسة «راند»، إن العلاقات بين روسيا من جهة والدول الاوروبية والولايات المتحدة من جهة ثانية والتطورات العسكرية عوامل ألقت بظلالها على تطور العقيدة العسكرية الروسية لتتجه بها نحو الحرب الباردة. ويضيف المحلل أن شبكة القيادة الاوروبية رصدت 40 حادثة تورط قام بها السلاح الجوي الروسي ما بين آذار (مارس) وتشرين الثاني (نوفمبر) 2014، وأنه في 2007 عادت الطائرات الروسية للعمل في ميدان التشويش والاستفزاز بعد انقطاع دام 16 عاماً منذ بداية 1991.
ويؤكد كثير من المراقبين المقربين من الكرملين أن قرار فلاديمير بوتين، بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة لروسيا الاتحادية، القاضي بالدفع بالمقاتلات والقاذفات الروسية إلى ما وراء حدود الدولة الروسية بهدف «ضرب معاقل تنظيم داعش المتطرف وغيره من التنظيمات الإرهابية»، لم يكن وليد اللحظة، ولعل التفكير فيه كان يسبق بكثير زمنياً الموعد الذي بوغت به العالم بعد عودة بوتين من الأمم المتحدة ولقائه هناك نظيره الاميركي باراك أوباما. وقد استند الرئيس الروسي في قراره «الضربة الجوية» في سورية على «عجز بيّن» خلال ما يزيد على العام في نشاط الائتلاف الدولي الذي أعلنت الولايات المتحدة تشكيله وضم زهاء الستين دولة لمحاربة إرهاب تنظيم «داعش». كما استندت القيادة الروسية لتنفيذ سلسلة ضرباتها الجوية على ما سبق وأجراه بوتين من تغييرات في العقيدة العسكرية التي صادق عليها مؤخراً، ونصت هذه التغييرات على حق روسيا في استخدام قواتها المسلحة خارج حدودها لمواجهة أي خطر يهدد أمنها القومي.
وفي ما خص التواجد العسكري الروسي في سورية، فإن كثيرين من المراقبين يرون أنه لا يزال لغزاً بالنسبة للرأي العام الروسي حيث لم تحدد النخبة الحاكمة، حتى الآن، حجم هذا التواجد وأسلحته، علماً أن روسيا وعلى مدار السنوات الماضية كانت تُقلص تواجدها العسكري خارج حدودها، حتى أنها أغلقت عدداً من قواعدها العسكرية. لكن منذ مطلع هذا العام، أدخلت الإدارة الروسية في العقيدة العسكرية الجديدة 14 خطراً عسكرياً خارجياً أساسياً تهدد روسيا، منها: نشاطات أجهزة الاستخبارت والمنظمات الأجنبية، تهديدات التطرف والإرهاب في ظروف عدم كفاية التعاون الدولي في هذا المجال، وأيضاً انتشار أسلحة الدمار الشامل، والصواريخ وتقنياتها، كما نصت على الأخطار العسكرية المتوقعة على أمن روسيا وكان أبرزها إقامة ونشر منظومة الدفاع الصاروخي الاميركية في اوروبا، باعتبارها تقوض الاستقرار العالمي وتنتهك ميزان القوة الصاروخية والنووية القائم. وعلاوة على ذلك، ضمت قائمة الأخطار العسكرية الخارجية استخدام القوة العسكرية في أراضي دول الجوار في انتهاك لقواعد القانون الدولي، وظهور بؤر للنزاعات العسكرية هناك وتصعيدها، وأيضاً إقامة أنظمة في الدول المجاورة تكون سياستها مهددة للمصالح الروسية. وترافق ذلك مع تفاقم الصراع داخل اوكرانيا التي كانت قد خطت العام الماضي خطوة نحو الحلف الأطلسي، متخلية عن وضعها كدولة غير منحازة، في إجراء رمزي أثار غضب موسكو لأنه يفتح الباب أمام كييف لطلب الانضمام مستقبلاً إلى الحلف. وبسبب مصادقة بوتين على العقيدة الجديدة، أصبح بمقدوره نشر القوات الروسية داخل القرم وفي أقاليم شرق أوكرانيا.
في هذا السياق، يأتي تدخل روسيا في الأزمة السورية حيث توالت الإمدادات المكثفة من الأسلحة وكذلك الخبراء، كما كشفت المصادر الروسية عن اتفاق وقّعته دمشق وموسكو على تشييد قاعدة جوية في مدينة جبلة، مع تعزيز قدرات مطار اللاذقية. وقد لاحظ بعض المراقبين أن روسيا لا يمكن أن تدخل المواجهة ضد «داعش» منفردة، حتى لا يكون لهذه المواجهة آثار سلبية في أوساط المسلمين الروس الذين يصل تعدادهم إلى أكثر من عشرين مليون مسلم، فكان التحالف الإقليمي الدولي الذي دعا الكرملين إلى تشكيله. وهكذا انضمت أطراف إقليمية ودولية كإيران والصين إلى تحالف لتصفية التنظيم الإرهابي.
وأخيراً، لا شك في أن هذا الوجود العسكري الروسي في سورية سيكون دعماً لنظام الأسد، وقد ينقذه من أي ضربة خارجية، لكنه في الوقت نفسه يضمن لموسكو مصالحها ونفوذها في المنطقة. أما في ما خص العقيدة الروسية الجديدة، فقد اتسمت بلهجة أكثر دفاعية عن سابقتها، لكنها أكدت خطورة حلف الناتو، والقلق المتزايد من الحشود التي يقودها على الأراضي المتاخمة لروسيا، فضلاً عن تركيزها على تحسين القدرات العسكرية الروسية على استخدام الأسلحة التقليدية.
عفيف رزق
صحيفة الحياة اللندنية