جاءت دعوة موسكو رئيس حكومة الوفاق الليبية الشرعية، فائز السراج، لتضيف علامة استفهام أخرى في صراع المصالح الدولية في الأزمة الليبية، والتي حَيَّرتَ مبعوث الأمم المتحدة، مارتن كوبلر، الذي تعدّدت بين يديه المبادرات، من دون أن تجد إحداها طريقها إلى التفعيل. وفي البحث عن قرار روسيا، أخيرا، التعامل مع الحكومة المعترف بها دوليا، تكمن الإجابة على سؤال المصالح والأولويات التي ترسمها موسكو لنفسها في ليبيا، مدفوعة بنشوة السيطرة على المشهد السوري، اختارت موسكو قبل تعاملها مع حكومة السراج، المعترف بها دوليا، مدخلا آخر إلى ليبيا. فتحت، في إطار بحثها عن إيجاد موطئ قدم آخر لها في البحر المتوسط، قنوات اتصال مع اللواء المتقاعد خليفة حفتر، خصم حكومة الوفاق، والذي تقاتل قواته منذ عامين تحالفا من إسلاميين وثوارا سابقين في بنغازي.
قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، إن بلادها تسعى إلى المساعدة في الحفاظ على وحدة الأراضي الليبية، وترغب بأن تحلَّ الفصائل المتناحرة خلافاتها بالمحادثات وليس العنف. ولكن هذا الكلام العام سرعان ما تبدّد، حينما وصفت زاخاروفا خليفة حفتر بأنه “شخصية محورية تتمتع بالتأثير الحقيقي على التوازن السياسي في ليبيا”.
زار حفتر موسكو مرتين العام الماضي، وفي 11 يناير/ كانون الثاني الماضي، زار حاملة الطائرات الروسية الأدميرال كوزنيتسوف، في أثناء عبورها المياه الإقليمية الليبية في طريق عودتها من سورية إلى روسيا. وأجرى مباحثات مع وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، عبر دائرة تلفزيونية مغلقة، وهو ما يؤشر إلى خصوصية العلاقة مع موسكو التي تعمل على أن يكون حفتر رَجُلَها الفاعل في ليبيا.
لا يخفى على أحد معارضة خليفة حفتر، المدعوم من برلمان طبرق المنتخب والحكومة
الموازية في شرق البلاد، حكومة الوفاق الوطني في طرابلس والمدعومة من الأمم المتحدة. كما أن الشعور بالقلق الذي ينتاب خصوم حفتر في طرابلس مردّه تخوفهم من سعي الرجل إلى إقامة حكم عسكري في البلاد، أسوة بالجارة مصر، والتي تعتبر أكبر الداعمين له والمدافعين عنه في الأوساط الدولية، كما أن ارتباطه بروسيا مع وجود حكومةٍ هشةٍ لم تستقم لها الأمور بعد في العاصمة الليبية، ناهيك عن باقي جغرافية البلاد، يشي بمحاولة روسية لفرض أمر واقع من خلال السعي إلى دعم حفتر سياسيا وعسكريا، حيث قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية “إن الجيش الوطني الليبي، بقيادة المشير حفتر، قد يشكل أساسا للقوات المسلحة الليبية الموحدة. وأكدت أن مهمة تلك القوات يجب أن تكمن في محاربة الإرهابيين والحفاظ على النظام العام”.
يبدو أن الرهان الروسي على حفتر ستكون دونه عقباتٌ إقليمية ودولية، فموسكو تدرك أن دخولها على خط الأزمة في ليبيا سيثير الكثيرَ من هواجس الغرب وحتى الأمم المتحدة. فهل ستتمكن موسكو من إقناع الدول الغربية برفع الحظر عن توريد الأسلحة إلى ليبيا؟ وهو ما يعني، في السياق الحالي، توريد الأسلحة إلى قوات حفتر، وتدعيمها بالعدة والعتاد.
قد يبدو هذا الخيار غير واقعي في الوقت الحاضر، وذلك في ظل سريان مفعول قرار الحظر، وفي ظل حرص موسكو على عدم المجازفة بدعمٍ مكشوفٍ لحفتر مخافة إثارة الدول الأوروبية التي لها هي أيضا مصالحها في الساحة الليبية، ولها وجود عسكري في داخل ليبيا، وفي المياه الدولية الليبية، لاستهداف أنشطة تهريب البشر النشطة من القارة الأفريقية باتجاه أوروبا، والتي أصبحت تشكل هاجسا للحكومات الأوروبية، عقدت من أجله مؤتمرا في مالطا أخيراً. كما أن الدول الأوروبية لن تقبل بانفراد موسكو بحقول الهلال النفطي، ولا بموانئ زويتينة ورأس لانوف، ولا بمواقع عسكرية تعزّز قدراتها في البحر المتوسط، تضاف إلى تموقعها الاستراتيجي في طرطوس واللاذقية السوريتين.
الدور الروسي، وإن جاء متأخرا منذ اندلاع الأزمة الليبية سنة 2011، تعتبره موسكو تعويضا لها عما تعتبره خديعة غربية تعرّضت لها، وحاكت خيوطها حملة حلف شمال الأطلسي
(الناتو) العسكرية، والتي ساعدت في إطاحة العقيد معمر القذافي. لكن موسكو المزهوّة بما حققته قواتها في سورية من تقتيل للشعب السوري، وللمسلحين من المعارضة المعتدلة والمتطرفة على حد السواء، وبما فعلته من دمار في المدن والبلدات السورية، جعلت الأمور تبدو جادّةً لديها، هذه المرة، في استعادة نفوذ إقليمي غاب فترة طويلة عن المنطقة، خصوصاً بعد سقوط الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي الذي كانت تدعمه دول عربية وإفريقية كثيرة، فروسيا التي لديها مخطط لتثبيت أقدامها في جنوب المتوسط، قد تتضح معالمه بحسب ما ستؤول إليه العلاقات بين واشنطن وموسكو، الخصمين التاريخيين، في ظل غزل متبادل بين الوافد الجديد إلى البيت الأبيض دونالد ترامب ورئيس الكرملين فلاديمير بوتين، والتي قد تحدد مسارا آخر للأزمة الليبية.
تدرك موسكو أنها لا تستطيع تجاهل حكومة ليبية صَرَفَتْ المجموعة الدولية جهودا مضنية لتكوينها والاعتراف بها، والاعتماد على طرفٍ غير معترف به دوليا، ولديه خصوم كثر في الداخل الليبي، وصل بينهم النزاع إلى حد سفك الدماء. ولعل في دعوة فائز السراج إلى زيارة موسكو ما يفسر ذلك، وإن كان أيضا من باب محاولة الضغط على السراج بقبول خليفة حفتر لاعباً أساسياً في الأزمة الليبية، وهو الأمر الذي لم تغلق حكومة الوفاق في وجهه الباب كاملا، وإن اعتبرته جزءا من المشكلة، كما هو جزء من الحل، في إطار مخطط شامل يأخذ في الحسبان كل المتغيرات في الواقع الليبي، خصوصاً بعد تمكّن قوات داعمة لها من طرد قوات تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) من مدينة سرت الساحلية.
فهل تعتبر خطوة دعوة السراج إلى موسكو مؤشرا على تحوّل في موقف روسي قد لا يرهن مصيره باللعب بورقة حفتر وحيدةً في ظل مشهد معقد من التحالفات بين الفصائل المسلحة والقبائل والدول؟
خليل بن الدين
صحيفة العربي الجديد