في آيار/مايو من هذا العام تمكن تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام”داعش” من بسط سيطرته الكاملة على مدينة الرمادي مركز محافظة الأنبار غرب العاصمة العراقية بغداد. إذ يدرك جميع الفاعلون الدوليون والإقليميون المعنيين بالشأن العراقي أن تنظيم الدولة الإسلامية قد يكون معني جدا في الوصول إلى العاصمة العراقية بغداد في الفترة المقبلة، وأنه قد يباغت الجميع بعملية نوعية داخل أسوارها، تجعل مهمة إخراجه من بغداد شبه مستحيلة.
ونظراً لتسارع الأحداث منذ 30 من أيلول/سبتمبر من الشهر الماضي، وترابط تأثيراتها وتداعياتها على المشهدين السوري والعراقي فيما يتعلق بمحاربة تنظيم الدولة في العراق وبلاد الشام”داعش”، وفي ذات التسارع وبخطوة قد تكون فاجأت التحالف الوطني الشيعي الحاكم في العراق قدّم رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي التزاماً للولايات المتحدة الأمريكية بعدم السماح لروسيا بتنفيذ ضربات جوية ضد تنظيم الدولة في بلاده على غرار ضربات المقاتلات الجوية الروسية في سوريا، إذ خيبت تلك الخطوة آمال المليشيات الشيعية العراقية التي ابتهجت ورحبت بالتدخل الروسي في سوريا، وتوقعت أن ينحسب ذلك التدخل على الحالة العراقية ليس لجهة الحد من تمدد داعش من أو مواجهته، وإنما أيضا لمواجهة السياسية الأمريكية في العراق، وإبعاد خطر توجهاتها إزاء العراق عنها. نقول هنا يا ليت هؤلاء الفرحون بالتدخل الروسي، قاموا أولاً بمحاسبة رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي الذي وقع على صفقات تسلح مع دولة روسيا الاتحادية ولغاية اليوم لم ترسل تلك الأسلحة على الرغم من أن الحكومة العراقية السابقة دفعت ما يترتب عليها من مبالغ مالية بشكل مسبق جراء اتمام العقود، وياليتهم ثانياً توجهوا في السؤال إلى الحكومة الروسية عن سبب المماطلة في تنفيذ العقود قبل أن يفرحوا !!
لذا يمكن القول أن فشل مليشيات الحشد الشعبي المدعومة من قبل المرجعية الدينية والحكومة الإيرانية، والقوات العراقية المدعومة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية استخباراتيا ولوجستيا في مواجهة تنظيم داعش وطرده من محافظة الرمادي وسائر المحافظات العراقية التي يسيطر عليها، قد يصب لصالح الولايات المتحدة الأمريكية لإعادة ترتيب البيت العراقي، الذي أوصلته بفعل سياساتها الخاطئة إلى استبداد طائفي واقصائي وتهميشي وحرب طائفية لم يشهد مثلها تاريخ العراق الحديث والمعاصر، وعليه قد ينشأ عن هذا التدخل تفاهمات دولية كبري بينها وبين روسيا في يتعلق بقضايا المشرق العربي ولعل من أهم تلك القضايا بعد العراق، الأزمة السورية التي اندلعت منذ منتصف شهر آذار/مارس عام2011م، ولا يزال مشهدها الدموي مستمر إلى يومنا هذا، على الرغم من كل المحاولات الدبلوماسية الأممية والدولية والإقليمية والعربية التي بذلت لإيجاد تسوية لها. وفي هذا السياق، وفي ظل مشهد إقليمي مرتبك نتساءل هل الولايات المتحدة الأمريكية مؤهلة لمواجهة تنظيم داعش في العراق؟
تعد الولايات المتحدة الأمريكية المعادل الموضوعي لتنظيم الدولة، فلديها استراتيجية للتعامل مع هذا التنظيم، على الرغم من كل الانتقادات التي توجهها وسائل الإعلام الأميركية وساسة الكونغرس الأمريكي لإدارة الرئيس باراك أوباما، بأنها لا تملك أية خطة للتعامل مع هذا التنظيم. وكل المؤشرات تدل على أنها تدير دفة الأمور من خلف الشاشة، فالتظاهرات والقوانين، التي سنت في إثرها، ولعل أخطرها وأهمها قانون الأحزاب، ناهيك عن الحراك السياسي الذي شهدته الساحة العراقية، وتحقيق لقاءات كسرت المألوف، كلها تشي بأن داعش ووجودها سيؤدي إلى واقع جديد في العراق، تريده الولايات المتحدة الأمريكية، هذه المرة، مغايراً لما صنعته عقب التاسع من نيسان/إبريل عام 2003م.
ستعود الولايات المتحدة الأمريكية إلى العراق، وهذه المرة ليس قوة احتلال، رفضها جزء كبير من الشعب العراقي، وقاوم وجودها كما حصل عام 2003، وإنما قوة إنقاذ، تنقذ العملية السياسية من مآلات كارثية، إذا ما وصلت داعش إلى بغداد، وأيضا ستقدم فرصة لإعادة ترميم ما يمكن ترميمه من هذه العملية السياسية، بما يتيح تأهيل وإعادة دمج أسماء وشخصيات وأحزاب، عارضت تلك العملية السياسية.
وبالتأكيد، لا يكون ذلك إلا بثمن، وأوله قتال داعش، وأيضا تقليم أظافر النفوذ الإيراني، وهو ثمن يبدو أن طرفي المعادلة في العراق، سنتهم وشيعتهم، على استعداد لذلك. ومن هنا، يمكن القول إن ظهور داعش تنظيماً مسلحاً دفع إلى حراك سياسي وعسكري واقتصادي، سيغير الأوضاع في العراق، فإما أن يستعيد العراق نفسه، وتنجح الاستراتيجية الأميركية، أو أن لدى تنظيم الدولة الإسلامية ما يقوله، وينقض كل ما غزلته أميركا في سنوات خلت.
لذا تشير المصادر لمركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية بأن الولايات المتحدة الأمريكية قد بدأت بالفعل بأخذ زمام المبادرة في مواجهة تنظيم داعش من خلال استعادة سيطرتها على القواعد العسكرية في العراق وطرد مليشيات الحشد الشعبي منها، وانزال جميع أنواع الأسلحة فيها حتى الصواريخ وخاصة في قاعدتي تاجي وعين الأسد . ولأهمية هذه القواعد بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية في تمكين سيطرتها على العراق، نأتي على ذكر أهما بشكل موجز:
1- قاعدة عين الأسد الجوية: تمثل أهمية إستراتيجية وعسكرية، حيث تضم مقر قيادة الفرقة السابعة في الجيش العراقي، وتقع في محافظة الأنبار التي تشهد معارك بين القوات الحكومية ومسلحي تنظيم الدولة الإسلامية. بنيت قاعدة عين الأسد الجوية عام 1980م في عهد الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين. وقد ظلت القوات الجوية العراقية تستخدم هذه القاعدة، وكانت مركزا لثلاثة أسراب من مقاتلات ميغ أس21 وميغ أس25. وتعد عين الأسد أكبر قاعدة جوية في غرب العراق، ومثلت منطلقا لعمليات عسكرية إستراتيجية خلال الاحتلال الأميركي للبلاد الذي بدأ عام 2003.
وفي أثناء الإحتلال الأمريكي للعراق في العام2003م، استولت قوات أسترالية خاصة على قاعدة عين الأسد الجوية وسلمتها لجيش الاحتلال الأميركي في مايو/أيار من ذات العام. ووضعت القوات الأميركية يدها على 50 طائرة مقاتلة كانت جاثمة في القاعدة إلى جانب كميات من الأسلحة والذخائر. تسلم الجيش العراقي القاعدة من الأميركيين في ديسمبر/كانون الأول 2011، وتتمركز فيها حاليا الفرقة السابعة من الجيش العراقي، كما تضم مدرسة للمشاة.وفي 2014، استعادت قاعدة عين الأسد أهميتها وزخمها نظرا لاحتضانها جنودا وضباطا ومستشارين عسكريين أميركيين يقدمون الدعم للقوات الحكومية العراقية في حربها مع تنظيم الدولة الإسلامية.
وتقع القاعدة على بعد كيلومترات إلى الجنوب الغربي من ناحية البغدادي التي سيطر عليها تنظيم الدولة يوم 12 فبراير/شباط 2015.وتؤكد معلومات متطابقة وجود مئات المدربين من مشاة البحرية الأميركية في القاعدة إلى جانب خبراء ومستشارين أرسلتهم واشنطن للتنسيق مع بغداد في حربها على تنظيم الدولة.كما تؤوي قاعدة عين الأسد 18 من مقاتلات الأباتشي التي تشارك في قصف مواقع التنظيم.
2- قاعدة بلد الجوية”قاعدة البكر الجوية سابقاً”: وهيأكبر قاعدة جوية في العراق تبعد 64 كلم شمال بغداد أنشئت في منتصف الثمانينات من قبل شركات يوغسلافية، وتبلغ مساحة القاعدة 25 كلم مربع، وهي محاطة بسياج أمني طوله 20 كلم، وتتألف القاعدة من مدرجين للإقلاع والهبوط طول الأول 3,503م والثاني 3,504م، بالإضافة الى 39 ملجأ محصن للطائرات.وخلال فترة الحرب العراقية الإيرانية”1980م-1988م” كانت قاعدة بلد مقراً لسربين من طائرات ميغ-23.
وفي أثناء العدوان الأمريكي على العراق، تعرضت القاعدة الجوية الى قصف جوي مكثف خلال عام 2003م، وأسُتخدمت القاعدة من قبل قوات الجيش الأمريكي على نطاق واسع حيث كانت مركز النقل والتموين الرئيسي لقوات التحالف في العراق،وأنشئت فيها مستشفى ميداني لمعالجة جرحى القوات الأمريكية.وفي صيف العام 2008 أسُتخدمت القوات الأمريكية القاعدة كمحرقة ومطمر للنفايات الكيماوية والطبية حيث أتلفت 140 طن من النفايات يومياً .ولقد سلمت القاعدة الى الجانب العراقي في 8 تشرين الثاني /نوفمبر 2011م. وبعد الانسحاب الأمريكي النظري من العراق في نهاية عام 2011م، استقبلت قاعدة بلد يوم 13 تموز/يوليو من العام الحالي، أربعة طائراتمن نوع إف-16 وهي من الطائرات التي تعاقد على شرائها العراق من الولايات المتحدة الأمريكية.
3- قاعدة التاجي: تقع قاعدة التاجي حوالي 85 كم شمال مدينة بغداد, يوجد فيها مطار وقاعدة عسكرية ضخمة كانت في الأصل تابعة الحرس الجمهوري العراقي بنيت في عهد الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين. إضافة إلى قاعدة الحبانية التي تقع بالقرب من بحيرة الحبانية في محافظة الأنبار.
لكن السياسة الدولية والإقليمية كعهدها ودأبها قائمة على التوازنات وعلى الواقعية وعلى اللعبة الكبرى وعلى نظرية المباراة في العلاقات الدولية التي تجري أحداثها منذ تفكك الدولة العثمانية على الأرض العربية، فالولايات المتحدة الأمريكية تدرك بشكل جيد ليست الفاعل الوحيد في المشرق العربي وإنما هناك فاعل دولي قوي فيه وهي روسيا،فمن الصعوبة بمكان الاستهانه بها وبمصالحها في المشرق العربي وخاصة في سوريا. فروسيا القيصرية من أجل الوصول إلى المياه الدافئة”البحر المتوسط” وتكون لها كلمة في هذا الإقليم خاضت أكثر من 13 حرباً مع الدولة العثمانية، كانت مدخلا لهزيتها، فالوريث الروسي الحالي والمتمثل بالرئيس فلاديمير بوتين لن يتهاون من أجل الحفاظ على مصالح بلاده في سوريا من اتباع خطوات تصعيدية للحفاظ عليها. وانطلاقا من هذا التصور فسوريا ليست مجرد دولة عابرة في الفكر البسياسي الروسي وهذا ما تستوعبه جيدا الولايات المتحدة الأمريكية، لذا فالصفقة قد تكون حاضرة بشكل أو بآخر الحفاظ على النفوذ الأمريكي في العراق وتحجيم النفوذ الإيراني فيه، وإعادة تأهيل وادماج أهل السنة بشكل فعلي في النظام السياسي العراقي، في المقابل الحفاظ على النفوذ الروسي في سوريا.
لأن ما بين موسكو ودمشق مروحة من نقاط تقاطع الاستراتيجي والسياسي والثقافي، تتجاوز القطع العسكرية الروسية المتمركزة في طرطوس واللاذقية، وتفوق الدعم الجوي الذي تؤمنه مقاتلات فلاديمير بوتين للجيش السوري. ذلك أنّ وقوف العقل التحليلي السياسي العربي عند مقولة إنّ روسيا تدافع عن مصالحها وحلفائها في سوريا بكلّ مقومات القوّة والنفوذ لديها، لا يحفر عميقا في البنية الذهنية للفاعل الروسي، ولا يؤصل لتفسير حقيقي منسحب على سياقات الماضي والحاضر والمستقبل أيضا.
بقي النموذج السوري، ومعه العراقي في بعض الحالات، منحوتا في الذهن السياسي الروسي كـ”حديقة خلفية” و”عينة تمثيلية” للتحوّل الاقتصادي دون انخراط في الليبرالية العالمية وفي اقتصاد السوق الكوني بقيادة الولايات المتحدة الأميركية.
وكامتداد لذات التماثل بين “الأصل والصورة” و”العينة والمجتمع الأمّ”، تفكّر موسكو في المستقبل السوري وفق المنظور الروسي، لا من خلال الحفاظ على مصالحها السياسية والاستراتيجية والعسكرية والثقافية فقط، ولكن أيضا من خلال تأمين “استمرار” القوّة الناعمة الروسية في سوريا، وضخّ دماء الانتشار والتمدّد في البراديغم الروسي في الحكم والمعارضة.
الشاهد هنا أنّ لدى موسكو مقاربة في الحكم والمعارضة مطبقة حاليا في الكرملين تقوم على 5 أسس وهي: حكم رئاسي قويّ، برلمان تابع لتوجهات الرئيس مع مشاركة بعض وجوه المعارضة، معارضة سياسية وإعلامية ضعيفة، مجتمع مدني مخترق أو مختلق، طغمة سياسية وعسكرية ومالية نافذة في الداخل والخارج تروّج للرئيس وتدعم مشاريعه وتؤمّن العلاقات الاستراتيجية مع دول الجوار أولا والإقليم ثانيا.
وفق هذا المنظور تقارب موسكو مستقبل سوريا السياسي، ووفق هذا التفكير تتمسك ببشار الأسد، ذلك أنّ استراتيجيتها وتفكيرها وتمثلها لشكل نظام الحكم تقتضي وجود الأسد في القصر الجمهوريّ بدمشق، وليس أنّ شرعية الأسد الانتخابية أو السياسية، وفق المنطوق السوري الرسمي، هي التي تفرض على موسكو احترام بقائه في الحكم. وطالما أنّ موسكو لم تجد شخصيات سياسية في الفضاء السوري سواء في الحكم أو المعارضة قادرة على تجسيد نظريتها في الحكم، فإنّ الدعم الروسي للأسد لن يرفع ولن يعلّق.
اللافت في هذا السياق أنّ “الخماسية الروسية” المذكورة آنفا متكرسة في مصر اليوم التي تلقى دعما من الكرملين وهي متجسمة بقوّة في الجزائر المؤيدة من روسيا سياسة واقتصادا، وهي في سياق التبلور في الشرق الليبي بقيادة القائد العسكري خليفة حفتر، وهي في طور التجسيد في تركيا التي تتحوّل بسرعة من الحكم التشاركي البرلماني، إلى الحكم الأحادي الرئاسي بقيادة رجب طيب أردوغان، ولولا التقسيم الطائفي للحكم في العراق لوجدت طريقها التنظيمي في بغداد.
من الصعوبة بمكان على موسكو أن تفكر في سوريا خارج إطار العقل الاستراتيجي الروسي في الحكم والمعارضة، ولا يمكن أن تُطالبَ موسكو بغير التأصيل لنفسها وللمنطقة العربية جميعا وفق ميكانيزماتها التحليلية والتفكيرية.
وبناء على ما تقدم يمكن القول أن الدول العظمي كالولايات المتحدة الأمريكية وروسيا تتعامل مع قضايا الشرق الأوسط التي تدخل في إطار مصالحهما العليا وفق قاعدتي الشراكة والتنافس حيناً والتوتر المنضبط حيناً آخر، لأنهما يدركان مخاطر المواجهة المباشرة، فالدولتان لا ترغبان في إعادة توتير العلاقات وتسخينها كما حدث معهما في أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962م، إذ كانت الجماعة الدولية في ذلك الوقت قد التقطت أنفاسها خشية من وقوع حرب نووية. فتقاسم النفوذ بينهما في العراق وسورية بالنسبة لهما أفضل بكثير من ويلات التصادم المدمر. أما إيران التي مدت نفوذها على العراق فهي أمام هذا التقاسم بين الدولتين العظمتين قد تكون في طريق انحسار نفوذها في العراق إلا ذلك لن يكون بالأمر السهل عليها إذ ستستخدم جميع أوراقها للحفاظ على العاصمة العراقية بغداد ومن هذه الأوراق اشعال حرباً طائفية بين السنة والشيعة، لذلك وانسجاما مع سياساتها التوسعية لم يكن مستغربا أن يشن حلفائها الإقليميين من غير الدول جام غضبهم على سياسة الولايات المتحدة الأمريكية في المشرق العربي.
معمر فيصل خولي
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية