أضعف التشيع الفرس ثقافيا، وجعلهم أكثر انغلاقا ضمن حركة التاريخ الإسلامي العام، بعد كل الانجازات المعرفية التي حققوها قبل تبني الصيغة الشيعية.
ولدي قناعة أن النجاح الأكبر بالنسبة للفكرة الشيعية يكمن في تمكنها في لحظة تاريخية معينة من إخراج العنصر الفارسي من المثلث السني العام، الذي تشكل من العرب والفرس والترك منذ الفتوحات الإسلامية، وتمددها في جغرافيا العالم.
لا تكمن المشكلة الحقيقية مع التشيع في الاختلاف حول الرؤية التاريخية والدينية فقط رغم أهمية ذلك البعد. ولا أميل إلى اعتبار أن المسألة التاريخية أو الدينية هي وحدها الأكثر خطورة. فحتى داخل المجال السني هناك رؤى متعددة حيال موضوع التاريخ. لكن أكبر المشاكل وأعتاها هو انسحاب العنصر الفارسي من بنية السنة التي تأسست منذ البداية، على قاعدة اعتبار الفرس أحد زوايا المثلث الأساسية.
العنصر الفارسي في الإسلام
شكل العنصر الفارسي في الإسلام ما قبل الصيغة الشيعية، الذراع والعمق الثقافي والمعرفي للعالم السني. ومثل العنصر التركي الذراع العسكرية للإسلام طيلة التاريخ. كما مثل العنصر العربي المجال الذي وفر الشرعية الدينية التاريخية لفترات طويلة. قبل أن يتحول إلى مجرد جغرافيا للصراع أو طرف فيه.
وبانسحاب العنصر الفارسي من هذا المثلث، أضاع السنة ومعهم الإسلام العمق الثقافي الذي كان العنصر السني الفارسي رائدا فيه، في المعرفة والسياسة الإسلامية.
نواصل نحن السنة حتى اللحظة وبكل تقدير واحترام، الاعتماد على منجزات الفرس الثقافية والعلمية قبل مرحلة التشيع. لكن منذ ارتباط التشيع بالفرس، بدأ العد التنازلي لعطائهم ومساهمتهم في الثقافة السنية العامة. وبدأ العالم السني منذ ذلك الحين يغربل ويفحص ما يتلقاه من الثقافة الفارسية. فلم يعد أصول الفقه الذي عرفه المسلمون في السابق هو أصول الفقه، ولا الفقه الذي عرفوه هو الفقه نفسه، وتبدل الحديث وعلومه، وتغير المنطق وفلسفته. ونشأت بدلا من ذلك صيغة الصراع الثقافي والمذهبي الذي زجّ التشيع فيه العنصر الفارسي.
أصبحت الفارسية ذات بعد طائفي لا أممي منذ أن قرر الشاه إسماعيل الصفوي في القرن السادس عشر الميلادي قلب المعادلة الاجتماعية في إيران. وإجبار السنة على التشيع بالقوة. كان قرار إسماعيل في نظري أهم قرار تم اتخاذه بشأن مستقبل الهوية الفارسية وعلاقتها بباقي المكونات الإسلامية الكبرى. ما صنعه إسماعيل الصفوي في لحظته، هو الحاضر في لحظتنا. وقد تطلب الأمر جيلين تقريبا لينقلب الفرس إلى التشيع الإمامي، وتكتمل العملية مع عباس الأول.
والحقيقة أن فرصة إعادة الفرس إلى السنة قد ضاعت مرتين. وفي المرة الأولى لم يستثمر السلطان سليم الأول نتائج معركة جالديران عام 1514م وهزيمة الصفويين الكبيرة في قلب عاصمتهم تبريز، في إعادة صياغة التركيبة الاجتماعية الفارسية، على قاعدة السنة كما كانت قبل الصفويين. لعدة أسباب تتعلق بظروف الدولة العثمانية.
أما ضياع الفرصة الثانية فتمثل في عدم نجاح الشاه إسماعيل الثاني الصفوي في تقوية السنة وإعادة توطين التسنن، رغم أنه كان يميل إليهم. واعتبره عدد من المراجع الشيعية حاكما سنيا.
كسب السنة الأتراك فحازوا القوة في أغلب المراحل التاريخية، وتمددوا في البلقان وأوروبا وآسيا الصغرى. لكنهم خسروا الفرس، فافتقدوا عمقا ثقافيا أساسيا.
إن الخط البياني لالتزام الأتراك بالتسنن متوازن ومستمر تاريخيا، ولا تعتريه التقطعات والاضطرابات. بالمقابل فإن التزام العنصر الفارسي بالتسنن تاريخيا لم يستقر. بل عرف هزات عديدة بين التشيع والتسنن. الأتراك تاريخيا أكثر التزاما بالانتماء السني من الفرس. وعلى المستوى الشعوري والوجداني، فإن صلة الأتراك بالرموز السنية قوية. بالمقابل ضاعت تلك الصلة الشعورية لدى الفرس منذ القرن السابع عشر.
خريف يلوح في الأفق
يعرف المجال الشيعي المعاصر حالة عسكرة كبيرة في المنطقة، سواء على مستوى المركز الإيراني ومشكلات طموح الملف النووي. أو على مستوى الأطراف والأذرع الشيعية العربية التي تجد نفسها في مواجهات عسكرية مفتوحة. وفي النهاية يبدو السلوك الإمبراطوري الإيراني غير متناسب مع درجة الانغلاق المذهبي للشيعة. لا حاجة إلى الخبرة الطويلة لنقول إن منظومة التشيع الفارسي والعربي تتجه نحو فراغ هائل، من حيث القدرة على إنتاج المراجع الدينية والعلمية القوية في المنطقة، بعد نهاية الجيل الحالي الذي يشرف على الرحيل.
وتبدو القدرة على إنتاج القادة العسكريين العابرين للحدود أقوى من القدرة على إنتاج المرجعيات العلمية العابرة للحدود. فقد بات الذراع الديني ضعيفا مقارنة بالذراع العسكري. وأصبح التمدد في الخارج يعتمد على دور الجمعيات الخيرية وأنشطتها الدعوية، أكثر من اعتماده على تأثير الرموز الدينية والمرجعيات.
إن التشيع عموما لم يتمكن من تعويض خسائره على مستوى فقدان المرجعيات الدينية أمثال الخوئي والصدر ومهدي شمس الدين وحسين فضل الله حتى اللحظة الحالية.
الخريف الثقافي الشيعي تلوح أولى أوراقه المتساقطة تباعا. فبعد الأسماء المرجعية التي ذكرنا، والتي كانت أساسية في صياغة مستقبل الدور السياسي والثقافي الإيراني، لا تبدو الساحة الشيعية حبلى برموز مرجعية كبيرة، بإمكانها ملء الفراغ المقبل في المستقبل بعد المرجع علي السيستاني.
منذ القرن العشرين تتفوق الانجازات الفكرية والثقافية للشيعة العرب على المنتجات الثقافية للشيعة الفرس. ويمكن للملاحظ البسيط أن يعقد المقارنات بين فكر محمد باقر الصدر أو حسين فضل الله مع مرجعيات إيرانية الأصل مثل السيستاني أو محمد علي التسخيري. وبالنسبة لعلي السيستاني فإنه يمثل القيمة الرمزية الروحية والدينية، أكثر من كونه رمزا فكريا وصاحب اتجاه ثقافي في المنطقة، لقلة انتاجاته الفكرية ومحدوديتها.
الإيرانيون سوف يظلون معتمدين على النجف. كما أن عددا ممن سيكونون مراجع دينية في المستقبل سوف لن يبلغوا درجة الاجتهاد على وجه الحقيقة. ولن يختلفوا عن غيرهم في كونهم مجرد متخصصين في الفقه الشيعي ومستلزماته. مع الاختلاف والتميز في الشكل والمظهر الخارجي والرمزية الاجتماعية.
كان المثقف الشيعي الإيراني والعربي منذ الخمسينيات يفرض نفسه على المنطقة السنية من خلال إنتاجاته الفكرية، رغم انتمائه المذهبي الضيق. وعندما كنت شابا حضرت لمهدي شمس الدين في إحدى مشاركاته في المغرب بداية التسعينيات. وهو يتحدث عن المنطق والفكر، فلم أخف إعجابي بقدراته الفكرية حينها. لقد قبل السنة أسماء شيعية كثيرة في عالم الفكر والثقافة، بسبب الانفتاح السني ووعيه الأممي. ولم يقبل السنة بمثقفي الشيعة فقط. بل روجوا واعتمدوا مؤلفات باقر الصدر، مثل اقتصادنا وفلسفتنا، باعتبارها فكرا إسلاميا ليس فيه أدنى مشكلة في الوعي السني. وباتت تلك الأسماء جزءا من النسق الثقافي السني في لحظة المواجهة مع الفلسفة المادية في العالم الإسلامي. وبسبب طبيعة التسنن المنفتحة أصبح حسين فضل الله مثقفا معتمدا في الحديث عن قضايا الاجتهاد والحوار وثقافة الاختلاف، في النقاش السني. وتبنى الإسلاميون العرب مبكرا أفكار الصدر وعلي شريعتي وغيرهم في قضايا السياسة والديمقراطية.
إن درجة استفادتنا من المثقف الإيراني والشيعي المتمذهب عموما لم تعد كما كانت. وبالمقابل فإن استفادتنا من أفكار الليبراليين الإيرانيين أكبر من معدل استفادتنا من أفكار المثقفين المذهبيين. ويحق لنا أن نتساءل الآن. ما الذي يقدمه العنصر الفارسي للثقافة والاجتماع الإسلامي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في الدين والأدب والفكر، غير المؤلفات ذات الطابع المذهبي، التي صممت للدعاية المذهبية وزيادة منسوب الصراع. والواقع أن مستوى مساهمة المراجع العلمية والدينية في السياسة أكبر من مساهمتهم في الفكر والثقافة. والكثير منهم قد اكتفى بالاشتغال ضمن دائرة إفتاء المقلدين.
إن التشيع في صيغته العربية في خريفه أيضا، ولا ترقى انتاجاته إلى مستوى العطاء الثقافي والمعرفي الذي بلغه أبسط علماء الزيدية في السابق، بسبب انشغاله وانخراطه في كل المعارك السياسية الإيرانية في المنطقة.
عندما يصبح العرق طائفيا
فرض التشيع على الفرس أن يتصرفوا بمنطق الطائفة. بعد أن كان الفرس في التاريخ الإسلامي ناطقين رسميين باسم الفلسفة الإسلامية وعلم الحديث والأصول والفقه واللغة العربية. عندما كتب الغزالي باعتباره فارسيا، فقد أنتج فكرا دينيا وفلسفيا لعموم الإسلام. وحين كتب ابن سينا في الفلسفة، فقد كتب فلسفة لعموم المجال الإسلامي. وكذلك صنع الشعراء والأدباء الفرس. لقد قالوا شعرا وكتبوا أدبا ولغة للأمة جميعا. بل إن القادة السياسيين الفرس تصرفوا كقادة للإسلام لا الطائفة. فلم يكن أشهر وزير فارسي في الإسلام وهو نظام الملك يتصرف كسياسي طائفي، بل باعتباره رجل أمة. وبالمقابل عندما يفكر الفارسي مذهبيا، فإنه يكتب لطائفته ويفكر لصالح مجموعته. لقد حرمت الفكرة الشيعية العالم السني الكبير من الاستفادة من عقليات كبيرة، لكنها مذهبية منغلقة.
عندما تكتب باعتبارك مفكرا سنيا فإنك لا تخاطب السنة وحدهم. بل تقوم من غير وعي بافتراض أن الجميع معنيون بأفكارك. ويتجه وعيك إلى مخاطبة أهل الإسلام جميعا. وعندما يكتب شيعي، فإن وعيه يفرض عليه بداية مخاطبة مجموعة محددة، فهي المقصودة بكلامه أساسا. إنه يجد صعوبة في إنتاج ثقافة عامة صالحة للجميع. كانت هذه إحدى صور فقداننا للعنصر الفارسي.
القدس العربي