بدأ وزير الخارجية الأميركي جون كيري تحركًا دبلوماسيًا تجاه الأطراف المعنية بموضوع القدس، وهي السلطة الفلسطينية والأردن وإسرائيل، في محاولةٍ لاحتواء الأوضاع المتفجرة في الأراضي الفلسطينية المحتلة نتيجة الاعتداءات الإسرائيلية على المسجد الأقصى ومحاولة تقسيم الحرم الشريف زمانيًا ومكانيًا بين المسلمين واليهود. وسعى كيري للضغط على إسرائيل للحفاظ على “الوضع القائم” في الحرم الشريف، مع بعض التعديلات التي تضمن الرؤية الإسرائيلية لهذا الوضع، مقابل وقف الهبّة الشعبية الفلسطينية التي استشهد خلالها 61 فلسطينيًا وجُرح المئات منذ بداية تشرين الأول/ أكتوبر 2015 وحتى الآن، وذلك مقابل تسعة قتلى إسرائيليين وعددٍ من الجرحى. ولوحظ أنّ هدف كيري الوحيد هو “استعادة الهدوء”.
طبيعة التفاهمات
بعد أن أجرى كيري سلسلة لقاءات مع كلٍ من الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وملك الأردن عبد الله الثاني، أعلن التوصل إلى جملة “تفاهمات” لـ “استعادة الهدوء”، تتمثل في الآتي:
- تحافظ إسرائيل على “الوضع الراهن” في الحرم القدسي الشريف “قولًا وفعلًا”. وبحسب كيري، فإنّ “إسرائيل ليس لديها أي نية لتقسيم الحرم الشريف وترفض أي محاولات للإيحاء بغير ذلك”. كما أوضح كيري أنّ “إسرائيل ستواصل العمل بسياساتها القائمة منذ وقت طويل بشأن العبادة … في جبل الهيكل/ الحرم الشريف بما في ذلك الحقيقة الأساسية وهي أنّ المسلمين هم الذين يصلون في جبل الهيكل/ الحرم الشريف بينما يقوم غير المسلمين بالزيارة[1]“. ومن الملاحظ أن كيري لم يذكر الحرم الشريف إلا قرَنه بالتسمية الإسرائيلية “جبل الهيكل”.
- وضع كاميرات أردنية – إسرائيلية مشتركة لمراقبة الأوضاع في الحرم القدسي الشريف على مدار الساعة. وحسب كيري، فإنّ هذا الاقتراح، الذي طرحه العاهل الأردني، ووافق عليه نتنياهو، سوف “يتيح رؤية شاملة وشفافة، وقد يمثل تغييرًا في قواعد اللعبة لمنع أي شخص من انتهاك حرمة هذا الموقع المقدس.[2]“
- تحترم إسرائيل “دورًا خاصًا” للأردن في الحرم القدسي الشريف كراعٍ له، حسب معاهدة السلام بينهما عام 1994[3].
- التزام الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي وقف “التحريض والحد من التوتر واستعادة الهدوء”[4].
مقاربة أميركية محدودة
يبدو من طبيعة الأفكار التي طرحها كيري والقضايا التي تناولها والتفاهمات التي توصل إليها أنّ إدارة الرئيس باراك أوباما لا تسعى للذهاب إلى أبعد من “استعادة الهدوء” في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وأنه لا نية للوزير كيري لتجديد محاولاته السابقة الفاشلة لإطلاق عملية تفاوضية جديدة بين الطرفين. فإدارة أوباما تواصل ابتعادها عن قضايا المنطقة، وتفضِّل تجنّب الخلاف مع إسرائيل، منذ أن اختلفت معها في مسألة تجميد الاستيطان، وانصاعت في النهاية للتعنّت الإسرائيلي.
وفي هذا السياق، كان لافتًا تركيز كيري، في المؤتمر الصحافي الذي جمعه في عَمَّان في 24 تشرين الأول/ أكتوبر بنظيره الأردني، على مسألة “استعادة الهدوء”، رافضًا إعطاء أي تعهدات حقيقية أبعد من ذلك؛ إذ لم يتطرق إلى ضرورة التوصّل إلى حلّ، ولا إقامة دولة فلسطينية تحديدًا.
وعلى الرغم من أنّ كيري أشار مرات عديدة إلى أنّ مسعى “استعادة الهدوء” إنما “هي خطوة أولية لخلق مساحة” لمعالجة القضايا الأوسع[5]، فإنه لم يحدِّد أي خطوات مستقبلية عملية لتحقيق ذلك. ويمكن أن يعزى الحرص الأميركي على عدم التورط في أي مساعٍ طويلة الأمد تجاه إحياء عملية التسوية، إلى مجموعة من الاعتبارات الأميركية، والإسرائيلية، والفلسطينية:
بالنسبة إلى الولايات المتحدة، فإنّ إدارة أوباما بقي من ولايتها نحو 14 شهرًا فقط؛ فإذا كانت غير قادرة خلال السنوات السبع السابقة على الضغط على حكومة نتنياهو للمضي قدمًا نحو تسوية سياسية مع الفلسطينيين، فليس هناك اليوم ما يشير إلى أنّ نتنياهو سيتراجع أمام ضغوط إدارة أميركية بات أمامها فترة محدودة لترحل، وفي وقتٍ يتنافس فيه المرشحون الرئاسيون من الحزبين الديمقراطي والجمهوري على خطب ودّ إسرائيل والتقرّب منها. كما أنّ إدارة أوباما التي نجحت في إنجاز اتفاقٍ نووي مع إيران ليست معنية بـ “إرث رئاسي” آخر من قبيل التوصل إلى تسوية ما بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وبخاصة أنها بذلت جهدًا سابقًا في هذا الشأن، وفشلت نتيجة لافتقادها الإرادة والتصميم على إجبار إسرائيل على التزام مقتضيات استئناف عملية السلام، وعلى رأسها تجميد الاستيطان.
لقد ظهرت “متلازمة” الضعف والارتباك الأميركي مرةً أخرى تجاه كل ما هو مرتبط بإسرائيل عندما عجزت عن اتخاذ موقفٍ واضحٍ ومنسجمٍ تجاه الأحداث الأخيرة في القدس والأراضي الفلسطينية المحتلة. فبعد أن فسَّر كيري مؤخرًا “تصاعد العنف” بعدم تحقّق حل الدولتين وتصاعد بناء المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية في السنوات الماضية بشكل قاد إلى حالة “الإحباط”[6]، اضطر البيت الأبيض، بعد انتقادات من إسرائيل وحلفائها في واشنطن، إلى إصدار توضيح بأنّ كيري لا يعتقد بأنّ سياسة إسرائيل الاستيطانية تمثل مبررًا “للعنف الحالي”، وأنه شجب دومًا “العمليات الإرهابية” الفلسطينية من دون تحفّظ[7]. كما اضطرت الإدارة الأميركية إلى التراجع أيضًا عن تصريحات الناطق الرسمي باسم الخارجية، جون كيربي، الذي أرجع انفجار الأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى عدم مراعاة إسرائيل “الوضع القائم” في الحرم القدسي الشريف ومحاولة تغييره[8].
أما إسرائيليًا، فقد أثبتت التجارب التفاوضية التاريخية مع نتنياهو، منذ منتصف التسعينيات من القرن الماضي، أنه غير معنيٍ بأي تسوية مع الفلسطينيين. كما أنّ توتر العلاقة والنفور الشخصي المتبادل بينه وبين أوباما، وتركيبة الحكومة الإسرائيلية اليوم التي تعد من أكثر الحكومات يمينية في تاريخ إسرائيل، يقلل من إمكانية حدوث أي اختراق سياسي. ومما يجدر ذكره، أنّ حكومة نتنياهو تملك أغلبية برلمانية بمقعدٍ واحدٍ فقط في الكنيست، وهو ما يجعلها رهينةً لأحزابٍ يمينية ودينية متشددة لن تقبل بوقف الاستيطان ولا بقيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على حدود عام 1967 وعاصمتها “القدس الشرقية”.
أما بالنسبة إلى الفلسطينيين، فإنّ حيثيات المشهد لا تقلّ تعقيدًا؛ فمن جهة، يستمر الانقسام الفلسطيني، ويمتنع الرئيس الفلسطيني عن عقد اجتماع لقيادة الفصائل التي أُقِّرت كقيادة لمنظمة التحرير بعد اتفاقيات المصالحة الأخيرة، وهناك صراع بين الأجنحة داخل حركة فتح ومؤسسات السلطة والمنظمة، وهناك انقسام واقع بين الضفة الغربية وقطاع غزة؛ وهو ما يعني عمليًا عدم وجود من يملك اليوم القدرة والشرعية اللازمتين لبدء عملية تفاوضية مع إسرائيل. ومن جهة أخرى، بدا واضحًا من عمليات المقاومة الفردية الأخيرة في القدس وغيرها من مدن الضفة الغربية المحتلة اتساع حجم الهوة بين الشارع الفلسطيني والقوى الحزبية والسياسية الفلسطينية؛ كأنّ الشارع الفلسطيني أخذ يرسم خيارات جديدة بعيدًا عن رهانات التسوية وعن حسابات الفصائل المختلفة وخلافاتها ومصالحاتها. إنّ هذه الأسباب مجتمعة لا تشجع على إطلاق تحرّك جديد يمكن أن يفضي الى نتيجة على صعيد “العملية السلمية” بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
خاتمة
يمكن القول إنه في حال استقر الأمر على التفاهمات التي سبق ذكرها، فإنّ ذلك لن يساهم إلا في تعزيز السيطرة الإسرائيلية على المسجد الأقصى والحرم القدسي الشريف. فنتنياهو يريد فرض قواعده للوصول إلى الحرم الشريف وليس احترام البروتكولات المعمول بها منذ عام 1967، لأنّ تعبير “احترام الوضع القائم” الذي تمت الإشارة إليه في التفاهمات الأخيرة قد يجري تأويله إسرائيليًا على أنه الوضع القائم الذي جرى فرضه مؤخرًا على الفلسطينيين[9].
ويتخوّف الفلسطينيون أيضًا من أن تستخدم إسرائيل الكاميرات لمراقبة المصلين واعتقال الناشطين منهم[10]، وهو الأمر الذي أشار إليه نتنياهو، عمليًا، بقوله: إنّ الكاميرات ستستخدم “أولًا لدحض الادعاءات بأنّ إسرائيل تخرق الوضع الراهن، وثانيًا لإظهار من أين تأتي الاستفزازات بالفعل، ومنعها مسبقًا”[11]. وينطلق نتنياهو من قبوله فكرة الكاميرات من اعتبار أي دفاع فلسطيني عن الأقصى سيكون استفزازًا يجب رصده.
إنّ التحرك الأميركي لم يأت من دون أفقٍ سياسي فحسب، بل إنّ ميزان القوى القائم حاليًا في القدس قد يحوّل نتائج زيارة كيري لمصلحة تثبيت الواقع الجديد الذي فرضته إسرائيل. ومن هنا، جاء التوافق الأميركي – الإسرائيلي على رفض المقترح الفرنسي لوضع مراقبين دوليين في الحرم القدسي الشريف للتأكد من احترام إسرائيل “للوضع القائم” فيه.
وفي المحصلة، فإنّ المراهنة على أي دورٍ أميركي موضوعي تجاه القضية الفلسطينية، هو أمر غير ممكنٍ عمليًا وغير متاحٍ واقعيًا، ليس لأنّ إدارة أوباما تودّع قريبًا ولايتها الدستورية فحسب، وإنما أيضًا لأنّ الولايات المتحدة أثتبت على مدى الخمسين عامًا الماضية أنها منحازة لإسرائيل، حتى إن اختلفت الأخيرة مع بعض الإدارات الأميركية حول درجة الانحياز المطلوب.
[1] “Remarks to the Press With Jordanian Foreign Minister Nasser Judeh,” U.S. Department of State, October 24, 2015, at:http://www.state.gov/secretary/remarks/2015/10/248703.htm
[4] Carol Morello, “Kerry cautiously optimistic after meeting Israeli prime minister,” The Washington Post, October 22, 2015, at:http://wapo.st/1LPB472
[6] “Conversation With Harvard’s John F. Kennedy School of Government Director of the Belfer Center for Science and International Affairs Professor Graham Allison,” U.S. Department of State, October 13, 2015, at:http://www.state.gov/secretary/remarks/2015/10/248187.htm
[7] “Press Briefing by Press Secretary Josh Earnest,” The White House, Office of the Press Secretary, October 14, 2015, at:http://1.usa.gov/1H4f3ff
[8] “Daily Press Briefing by Spokesperson John Kirby,” U.S. Department of State, October 14, 2015, at:http://www.state.gov/r/pa/prs/dpb/2015/10/248215.htm
[9] Matthew Rosenberg and Alison Smale, “Kerry, Meeting With Netanyahu, Sounds a Cautious Note of Optimism,” The New York Times, October 22, 2015, at: http://nyti.ms/1MOkwZz