هل تبدأ من أوكرانيا الحرب الباردة الثانية؟ بكلمات ثانية، هل تؤسس الأمة الحالية لانقسام عالمي جديد تمتد الصراعات التي يُطلقها من ميادين الجيو – سياسة إلى الاقتصاد والثقافة والآيديولوجيا على غرار الحرب الباردة الأولى؟
مسار الأحداث واستعصاء الوصول إلى حلول وسط يعطيان الانطباع أن أوكرانيا سواء تعرضت لغزو روسي أو أفلحت الجهود الدبلوماسية في إثناء الكرملين عن الإقدام على هذه المغامرة، فإن هذا البلد سيكون ساحة مواجهة كبيرة بين طرفي الحرب الباردة التي ترتسم معالمها. شيء شبيه بما حدث في برلين سنة 1948 عندما فرضت القوات السوفياتية حصارها على المدينة، أو عندما بني الجدار الفاصل بين برلين الشرقية والغربية في 1961، وفي كوبا أثناء أزمة الصواريخ في 1962.
حددت برلين وكوبا الحدود القصوى التي يمكن أن يصل إليها طرفا الصراع وأرستا تفاهمات يكون كل تجاوز لها بداية لحرب نووية شاملة. ثم انصرف الجانبان إلى استخدام ساحات كوريا وفيتنام والشرق الأوسط كميادين قتال جانبية لتنفيس الاحتقان الدولي. أضيف سباق التسلح والمباراة الآيديولوجية والنمو الاقتصادي إلى المنافسة العالمية التي انتهت بسقوط أحد أبرز رموز الحرب الباردة، جدار برلين في 1989.
من هذا المنظار، يتعين تناول الموقف الروسي المُطالب بضمانات أمنية تؤدي في حال تقديمها إلى تغيير البنية السياسية لحلف شمال الأطلسي. لكن هل تملك موسكو الأدوات الكفيلة بفرض مراجعة لنتائج الحرب الباردة الأولى قبل أن تدشن حرباً ثانية؟ يعمل الرئيس فلاديمير بوتين منذ سنوات على تحصيل موقع استراتيجي لبلاده مستنداً إلى قراءة تقول إن الغرب دخل مرحلة الانحطاط وإنه غير قادر على رد التحديات الكبرى التي تمثلها ظواهر مثل صعود الصين أو الأزمة البنيوية للرأسمالية الغربية وما تجلبه من تفاوت اجتماعي وصراعات داخلية ومنها قضايا اللاجئين والمهاجرين. في المقابل، تعفو القراءة هذه عن إدراج المثال العالمي البديل ضمن ما يجب أن يتوفر في ترسانة الأسلحة الرمزية التي سيتوجب على بوتين وحلفائه تقديمها، على غرار الآيديولوجيا الاشتراكية والماركسية التي شكلت دافعاً لتأييد شعوب وشرائح اجتماعية كبيرة للمشروع السوفياتي، على الأقل بين عشرينات وخمسينات القرن الماضي، قبل أن يتبدد وهجه.
وقد لا يصعب على روسيا القول إن نموذجها العالمي جاهز خلافاً لما يدعيه خصومها. ويتلخص في الدولة القوية التي يقرر مواطنوها شكل الحكم فيها في معزل عن الإملاءات الغربية والنماذج الجاهزة والمعدة مسبقاً التي يروج لها أنصار المنظمات غير الحكومية. لا شك أن خطاباً كهذا سيلقى آذاناً مصغية في عدد لا يستهان به من الدول، في أوروبا وخارجها. وما استقباله لأحد أبرز شخصيات هذا النوع من الكلام، الرئيس البرازيلي جايير بولسونارو، الذي يعتبر من صقور اليمين الشعبوي في أميركا اللاتينية، وفي ذروة الاستعدادات العسكرية حول أوكرانيا، سوى إشارة إلى أن مؤيدي التحرر من الوصاية الغربية على السياسات الداخلية للدول، ليسوا نادرين.
من جهته، يريد الغرب الظهور بمظهر القوة الموحدة القادرة على صد محاولة إسقاط الأمر الواقع الذي أرساه بانتصاره في الحرب الباردة. المتحدثون في «مؤتمر ميونيخ للأمن» في اليومين الماضيين، شددوا على رفض الذرائع الروسية واتهموا بوتين بافتعال الأزمة الحالية وبالمسؤولية عن أجواء التشنج التي تشهدها أوروبا منذ 2014 عندما غزت قواته شبه جزيرة القرم مستعيدة لغة التهديد والتهويل المسلح كأداة للتخاطب في القارة.
السؤال الأصعب في المعطى الحالي هو ذاك المتعلق بالصين. فإذا كانت بكين تؤيد علناً وضمناً كل خطوات بوتين في مواجهة الغرب في المسألة الأوكرانية، فإن انخراطها في حرب باردة ضد الغرب يبدو موضع شك عميق. الاقتصاد الصيني أكثر تشابكاً وتداخلاً مع الغرب والعالم عموماً من نظيره الروسي بما لا يقاس. وحجم الأضرار التي قد تلحق به جراء صدام سياسي واقتصادي مفتوح أكبر مما سيلحق بروسيا. عليه، ستختلف الحسابات الصينية رغم أن المشروع الصيني على المستويين الآسيوي والعالمي ليس بعيداً جداً عن طموحات بوتين، على ما بات معروفاً. يضاف إلى ذلك أن المساندة الدبلوماسية التي توفرها بكين لموسكو، لم تُختَبر بعد في ظروف صراع قاسٍ مع الغرب.
«العقوبات غير المسبوقة» التي يلوح المسؤولون الأميركيون بإنزالها بروسيا، مُصمَّمة لعزل الأخيرة عن الساحة الدولية، بيد أن هذا هو التصور النظري. يراهن الروس والصينيون على أن حلفاً عالمياً سيتشكل في حال مضي الغرب بنهج العقوبات الاقتصادية، وأن العديد من الدول من بينها الأعضاء في منظمة «بريكس» ستتقدم لإبداء المزيد من التعاضد فيما بينها. وسيمهد ذلك لمرحلة من الانقسام والصراعات العالمية قد لا تنتهي على النحو الذي انتهت إليه الحرب الباردة الأولى.
الشرق الأوسط