غداة الاعتراف الروسي باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الانفصاليتين عن أوكرانيا، يتواصل الغموض بشأن نوايا الكرملين المستقبلية.
وكشفت زلة لسان رئيس الاستخبارات الخارجية الروسية سيرغي ناريشكين عن أحد السيناريوهات المستقبلية وهو ضم الإقليمين الانفصاليين إلى روسيا، في تكرار لما حدث في القرم في عام 2014. إلا أن وزير الداخلية الروسي فلاديمير كولوكولتسيف تحدث عن ضرورة الاعتراف بالجمهوريتين وفق الحدود القائمة قبل اندلاع الصراع المسلح في بداية 2014. ذلك يعني أن الباب ما زال مفتوحاً أمام عملية عسكرية لاستعادة “الجمهوريتين الصديقتين” وكامل إقليم دونباس، ووصلهما بشبه جزيرة القرم.
تصريحات المسؤولين الروسيين صدرت في أثناء اجتماع لمجلس الأمن الروسي مساء الإثنين، والذي شكّل سابقة هي الأولى من نوعها في نقل وقائع اجتماع أمني لمناقشة قضية بالغة الحساسية على الهواء. وأقر الكرملين بأن بث الاجتماع على الشاشات يوم أمس، لم يكن مباشراً بل هو تسجيل، وفق المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف. وأكد أنه تم تسجيل الاجتماع قبل البث على الشاشات وخضع لعملية “مونتاج” وتم حذف بعض الفقرات، كما لم يتم عرض كلمات جميع المتحدثين. وانعقد اجتماع المجلس في ساعات النهار، بينما تم بث اللقاء على الشاشات قرب الخامسة مساء أمس الإثنين.
وأجمع الحضور في الاجتماع على ضرورة الاعتراف باستقلال الجمهوريتين الانفصاليتين انطلاقاً من نقطتين أساسيتين، وهما الوضع الإنساني المتدهور فيهما وضرورة حماية المواطنين الروس، وعدم التزام الحكومة المركزية في أوكرانياباتفاقيات مينسك بعد نحو 7 سنوات على إقرارها.
هجوم على النخبة الحاكمة في أوكرانيا
وبعدها بقليل، طُرح بُعد آخر لقضية الاعتراف حول إمكانية قيام روسيا بعملية أوسع وأشمل بكثير. ففي خطاب للرئيس الروسي فلاديمير بوتين مشبع بأفكاره القومية وطموحاته لإعادة الإمبراطورية الروسية، وبعد الهجوم الكاسح على مؤسس الدولة الشيوعية فلاديمير لينين ورفاقه، الذين أسسوا كياناً سياسياً مصطنعاً لم يكن موجوداً، وهو أوكرانيا، على حساب أراضي الإمبراطورية الروسية لاسترضاء القوميين، أعلن بوتين قراره الاعتراف باستقلال الجمهوريتين.
وواصل حملته السابقة بالتقليل من شرعية النخب الحالية الحاكمة في أوكرانيا التي جاءت وفق قوله نتيجة انقلاب غير شرعي في 2014، وذهب إلى أبعد من ذلك بالتلويح بأنه سيُري دعاة فك الارتباط الذين أعلنوا استقلال أوكرانيا في 1991 معنى فك الارتباط الحقيقي بالشيوعية.
هذا الكلام يعني أنه قد يُقدم على عملية عسكرية أوسع تشمل مناطق واسعة من أوكرانيا، في تنفيذ لما كان طرحه سابقاً في مقالة منتصف العام الماضي حين قال إن كل من دخل إلى الاتحاد السوفييتي يجب أن يخرج حسب الحدود التي دخل بها حين قيام الثورة البلشفية في 1917.
أوعز بوتين بإرسال قوات عسكرية لحماية جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك
وبعد توقيع بوتين على مرسوم الاعتراف بالجمهوريتين، وقّع مع رئيسيهما اللذين أحضرا إلى الكرملين على عجل رغم توتر الأوضاع، على اتفاقية صداقة وتعاون تضمّنت حق موسكو في بناء قواعد عسكرية في دونيتسك ولوغانسك، وحراسة الحدود مع أوكرانيا. وأوعز بوتين بإرسال قوات عسكرية لحماية الجمهوريتين.
وفي ظل الجدل الحاصل حول حدود الجمهوريتين الانفصاليتين، قالت وزارة الخارجية الروسية إن موسكو بحاجة في البداية إلى التصديق على معاهدات صداقة معهما قبل أن تكون بإمكانها مناقشة قضايا من قبيل الحدود الدقيقة لهما. وصادق مجلس الدوما (البرلمان) الروسي على مرسوم الرئيس بوتين، واتفاقيتي التعاون والصداقة، ومن المنتظر أن يوافق مجلس الاتحاد (الشيوخ) أيضاً.
من جهته، قال نائب رئيس لجنة الشؤون الدولية في مجلس الشيوخ أندريه كليموف، في تصريحات للقناة الحكومية “روسيا 24″، إن روسيا سوف تعترف باستقلال المناطق المسيطر عليها حالياً من قبل الانفصاليين. وفيما بدا أن رسالة كليموف تنطوي على تطمينات بأن موسكو لن تُقدم على خطوة إضافية بدعم الجمهوريتين الانفصاليتين عسكرياً لاستعادة باقي أراضي دونباس، فإن الخارجية أبقت في المقابل على حالة الغموض.
والمعلوم أن الجمهوريتين الانفصاليتين تبنتا دستوراً في عام 2014 لم يتضمّن إشارة واضحة للحدود، ولكنهما أقرتا قانون “حدود الدولة” الذي رسم حدود الدولتين في بداية ديسمبر/كانون الأول 2019. وجاء فيه أن الحدود هي تلك التي كانت قائمة حين نظمت سلطات الأمر الواقع حينها استفتاء للاستقلال عن أوكرانيا. وقال إن الأغلبية وافقت على تأسيس دولتين ضمن الحدود الإدارية السابقة لإقليمي دونيتسك ولوغانسك.
يشار إلى أن إعلان الانفصال استدعى حينها تدخلاً عسكرياً من الحكومة المركزية استردت نتيجته قرابة ثلثي مساحة إقليم دونباس حتى توقيع اتفاقيات مينسك في فبراير/شباط 2015
وبعد اعتراف روسيا بالإقليمين الانفصاليين كجمهوريتين مستقلتين، وتوقيع اتفاقيات تعاون وصداقة تتضمن بناء قواعد عسكرية وحماية أراضيهما، وفي ظل حالة الغموض التي أرستها تصريحات المسؤولين الروس، إضافة إلى عجز أوكرانيا عن خوض عملية عسكرية حاسمة لاستعادة الأراضي التي يسيطر عليها الانفصاليون يمكن رسم عدة سيناريوهات للخطوة المقبلة للكرملين.
الاعتراف بدونيتسك ولوغانسك ضمن حدود سيطرتهما
السيناريو الأول هو الاعتراف بالجمهوريتين ضمن الحدود على أساس السيطرة الفعلية للقوات الانفصالية، ومواصلة الدبلوماسية مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من أجل تحديد مستقبل أوكرانيا، وهي النقطة الأساسية التي تركز عليها روسيا في رسالة الضمانات الأمنية المرسلة لواشنطن وحلف شمال الأطلسي في منتصف ديسمبر/ كانون الأول الماضي.
وفي هذا السياق، قال رئيس لجنة رابطة الدول المستقلة في مجلس الدوما ليونيد كلاشنيكوف إن قانون الاعتراف بالجمهوريتين الانفصاليتين لا يحدد حدودهما، مستدركاً أنه يعتقد أن القانون “يشير إلى الدولة التي تمت الموافقة عليها في الاستفتاء القديم والوحيد (استفتاء 2014 لانفصال الإقليمين) الذي نظّم ضمن حدود أخرى غير تلك التي تشغلها حالياً جمهوريتا دونباس (لوغانسك ودونيتسك)”.
قانون الاعتراف بالجمهوريتين الانفصاليتين لا يحدد حدودهما
أما نائب وزير الخارجية الروسي أندريه رودنينكو، فقال للصحافيين إن روسيا تعترف باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين ضمن الحدود التي تمارس الجمهوريتان فيها سلطاتهما.
ويتضمّن هذا السيناريو العمل بشكل موازٍ على موضوعين أساسيين، هما إمكانية تشجيع مناطق أخرى من أوكرانيا عبر أفراد القومية الروسية والسياسيين المقربين من موسكو على القيام بتحركات ضد الحكومة المركزية في كييف بحجة وجود خطر من هجوم للقوميين المسيطرين حسب موسكو على القرار في الحكومة المركزية والمنتشرين في مناطق الشرق.
ومعلوم أن دونيتسك ولوغانسك تحركتا وطالبتا بالانفصال بعد تحذيرات من حملات انتقام على يد القوميين عقاباً على الاصطفاف مع الرئيس الأوكراني المطاح به فيكتور يانوكوفيتش في بداية 2014. والثاني خلق حالة من البلبلة في العاصمة كييف والعمل على إحداث شرخ ضمن النخبة الحاكمة، ومن جهة أخرى مواصلة التشكيك بشرعيتها وعدم قدرتها على إدارة الأزمة ما يخلق حالة فوضى تنتهزها روسيا للقيام بعملية انقلاب أبيض.
وفي حال نجحت روسيا في هذا السيناريو فإن الهدف النهائي هو تقسيم أوكرانيا إلى جزء غربي وآخر شرقي كما كان الحال في ألمانيا قبل انهيار جدار برلين، وهو تنفيذ مباشر لتلويح بوتين بأنه سوف يُري الذين دعوا إلى الانفصال عن الاتحاد السوفييتي ما تعنيه عملية التفكيك على حقيقتها. والأرجح أن روسيا حينها لن تقبل بأقل من السيطرة على “أم المدن الروسية” ومركز حضارة “روس الكييفية”، العاصمة الحالية كييف.
عودة إلى حدود ما قبل 2014
السيناريو الثاني يتضمن الاعتراف باستقلال الجمهوريتين الانفصاليتين ضمن الحدود الإدارية السابقة بداية عام 2014، وهذا يعني أن روسيا سوف تلتزم بحماية الجمهوريتين ومساعدتهما على استعادة باقي الأراضي. ويمكن لروسيا ضمن هذا السيناريو ألا تتعجل بالدعم العسكري المباشر وغزو أوكرانيا بانتظار تسوية دبلوماسية مع الغرب.
وفي هذا السياق، أكد الكرملين أن روسيا ستبقى منفتحة على الجهود الدبلوماسية بشأن أوكرانيا. وقال المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف للصحافيين: “ما زال الجانب الروسي منفتحا على الاتصالات الدبلوماسية على كافة المستويات… كل شيء يعتمد على خصومنا”، مشيراً إلى أن أي تحرّك تقوم به كييف لقطع علاقاتها الرسمية مع موسكو سيكون “سيناريو غير مرغوب به بدرجة كبيرة وسيزيد من صعوبة كل شيء”.
أكد الكرملين أن روسيا ستبقى منفتحة على الجهود الدبلوماسية بشأن أوكرانيا
ويمكن لروسيا افتعال حدث في أي وقت ليشكل ذريعة للغزو في حال فقدان الأمل بالدبلوماسية. وما يدعم إمكانية الاعتراف بالجمهوريتين ضمن كامل حدود دونباس، هو أنه يمنح موسكو إمكانية للسيطرة على ميناء ماريوبول الاستراتيجي وأهم ميناء لتصدير المعادن من دونباس وأجزاء واسعة من أوكرانيا. إضافة إلى أن السيطرة على دونباس تمكّن روسيا من السيطرة على كامل بحر آزوف وتجعله بحيرة مغلقة لها، ويتحول مضيق كيرتش إلى مضيق بسيطرة روسية كاملة ما يمنع السفن العسكرية الغربية من الدخول إليه.
ومن القضايا المهمة أن الاستيلاء على دونباس يمنح روسيا تواصلاً جغرافياً برياً مع شبه جزيرة القرم عبر الجمهوريتين الانفصاليتين، وحل مشكلة شح المياه الشديد التي تعاني منها شبه الجزيرة التي ضمتها روسيا في 2014، بعد إنشاء السلطات المركزية في كييف سدودا على الأنهار المغذية للقرم بالمياه، ووقف استجرار المياه من عدة مناطق إلى القرم.
غزو شامل للأراضي الأوكرانية
السيناريو الأخير هو غزو شامل للأراضي الأوكرانية من جبهات عدة. وعلى الرغم من وجود القوة العسكرية اللازمة لتنفيذ هذا السيناريو في أسرع وقت نظراً لوجود حشود عسكرية روسية تحاصر أوكرانيا من ثلاث جهات، إلا أنه الأقل حظاً في التنفيذ.
فروسيا ستتعرض لعقوبات قاسية في حال شنّت الحرب، وكذلك إمكانية تكبّدها خسائر كبيرة بعد تزود الجيش الأوكراني بأسلحة متطورة في الشهور الأخيرة واختلاف ظروف المعركة عما كانت عليه الحال في غزو جورجيا 2008. وعلى الرغم من أن احتلال أراضي أوكرانيا قد يكون مهمة سهلة وتحصل في أيام أو أسابيع، لكن استمرار السيطرة عليها سيعرّض روسيا لحرب استنزاف خصوصاً في الأجواء الغربية والشمالية.
استمرار السيطرة على أوكرانيا بحال غزوها سيعرّض روسيا لحرب استنزاف
مع الاعتراف بالجمهوريتين الانفصاليتين باتت روسيا تعترف وتموّل خمس جمهوريات في الفضاء السوفييتي السابق. ومن المؤكد أن حديث بوتين يثير مخاوف عدد من الجمهوريات السوفييتية السابقة وفي مقدمها كازاخستان وبلدان البلطيق التي توجد فيها أقليات عرقية روسية وازنة، ولهذا فإن الكرملين الحريص على “العالم الروسي” يعرّضه لمخاطر إضافية، ويفتح المجال على تدخّلات إضافية ربما يحدد الكرملين موعدها تزامناً مع افتتاح أو انتهاء ألعاب أولمبية مقبلة.
العربي الجديد