بعد أشهر من حرب المعلومات التي شنتها إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن وقامت على كشف ما قالت إنها خطط الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لغزو أوكرانيا، دخلت القوات الروسية الأراضي الأوكرانية وهي الآن على أبواب العاصمة كييف، والوضع يتطور بشكل سريع. ووجد الرئيس بايدن والغرب انهم أمام معضلة أسهموا بخلقها وأساءوا إدارتها، وظنوا أن الكشف عن المعلومات سيردع بوتين عن خططه، وتنافست الدول الأوروبية بفرض عقوبات شديدة طالت معظم القطاعات المالية والمسؤولين في النظام الروسي بمن فيهم بوتين ووزير خارجيته سيرغي لافروف. وسارع المعلقون للحديث عن خطورة «حرب بوتين غير المبررة» على أوروبا ومخاطرها على النظام العالمي. فقبل الحرب كان الحديث عن محاولات روسيا فرض نفسها على النظام العالمي وتصحيح أخطاء ما بعد الحرب الباردة، وما رأته ظلما من الغرب لها.
وكانت النقطة المحورية في تظلمات بوتين التي حاول تغليفها بسرد تاريخي اعتبر مشتتا ومجمعا من القرن التاسع عشر والإمبراطورية الروسية والاتحاد السوفييتي السابق تقوم على منع أوكرانيا، التي نفى وجودها في خطابه يوم الإثنين 21 شباط/فبراير من الانضمام للناتو واحتجاجه على حنث الغرب لوعوده بعدم توسيع الحلف العسكري شرقا وقريبا من حديقته الغربية.
ولعل ما أقلق النخب السياسية الغربية هو قرار بوتين بغزو جارته وإعادة شبح الحرب إلى أوروبا التي اعتقدت أنها تخلصت منه بعد ويلات الحرب العالمية الثانية. وبدأت غيوم الحرب الباردة بالعودة في خطاب بوتين الصدامي الذي ألقاه عام 2007 في مؤتمر ميونيخ للأمن وبغزوه أوكرانيا فقد اكتملت دورة العودة إلى الحرب الباردة والمواجهة والتنافس بين الدول الكبرى. وكل هذا سيترك تداعياته البعيدة المدى على الغرب في مجالات تتراوح من أمن الطاقة إلى الإستراتيجية النووية وأبعد من هذا. وستحرف الأزمة نظر الولايات المتحدة عن اهتمامها الرئيس وهي مواجهة الصين. ولو حصل التحول الكامل للمواجهة، فهناك مخاطر لتصعيد النزاع، ومع أن هدف خطاب بوتين الصارخ كان اوكرانيا إلا أن الجمهوريات السوفييتية السابقة التي انضمت إلى الناتو لديها مبررات الخوف. فابتلاع روسيا الكامل لبيلاروسيا عبر المناورة العسكرية الأخيرة التي ظلت القوات الروسية المشاركة فيها هناك أو نقلت إلى أوكرانيا تعني أن موسكو لديها قوات كافية لتهديد «ثغرة سوالكي» (وهي قطعة من الأرض تربط ما بين بولندا ودول البلطيق) حسبما حذر ستيفن هادلي الذي خدم مستشارا للأمن القومي في إدارة جورج دبليو بوش ما بين 2005- 2009 وهو ما يعني كما قال «حرب بين روسيا والناتو».
الهوس الأوكراني
وضرب بوتين الناتو فكرة مستبعدة، فهدفه الرئيس وهوسه الدائم كان أوكرانيا. وذكر مدير الاستخبارات الأمريكية «سي آي إيه» ويليام جي بيرنز في مذكراته الصادرة عام 2019 إنه التقى بوتين عندما كان سفيرا في موسكو عام 2008 كشف عن هوس بوتين بأوكرانيا: «ألا تعلم حكومتك أن أوكرانيا غير مستقرة وغير ناضجة ووجود الناتو مثير للإنقسام هناك؟» ووبخ بوتين بيرنز «ألا تعرف أن أوكرانيا ليست بلدا حقيقيا؟ جزء منها في شرق أوروبا وجزء هو في الحقيقة روسي». وأعاد بوتين هذه الكلمات بالضبط هذا الأسبوع عندما أعلن الحرب، وأوكرانيا تثير أعصابه. ويعتقد كما هو واضح أن روسيا لن تكون عظيمة بدون السيطرة على أوكرانيا، حسب ديفيد إغناطيوس في صحيفة «واشنطن بوست» (24/2/2022). وأكد إغناطيوس أن غزو أوكرانيا أنهى النظام العالمي الذي نعرفه من نهاية الحرب العالمية الثانية والترتيبات الأمنية في أوروبا بعد الحرب الباردة. وسيعتمد النظام القادم على نتائج الحرب الحالية، فلو هزم بوتين فسيظهر نظام جديد صلب ولو انتصر فالمخاطر ستكون عظيمة. وقال إن حرب بوتين لم تكن مثل الحرب العالمية الأولى مثل النائم الذي يمشي إليها بل انتقاما كهجوم الزعيم النازي أدولف هتلر على تشيكوسلوفاكيا عام 1939 مع أن بوتين لم يصل بعد درجة هتلر.
هل هو مجنون؟
ولا بد من الإشارة أن هناك قدرا من التعليقات التي حاولت التشكيك في حالة بوتين العقلية، فهو رجل على عتبة السبعين من عمره ويشعر أن لديه موعد مع التاريخ. وعزلته كما يقولون في بيته الريفي لحماية نفسه من كوفيد-19 أثرت على تقديره وجعلته يعتمد على مجموعة صغيرة من المسؤولين المتشددين في قضية أوكرانيا وهم وزير دفاعه ومدير مخابراته ورئيس مجلس الأمن القومي. وفي تقرير لصحيفة «الغارديان» (25/2/2022) جاء فيه إن قرار بوتين شن حرب أوروبية جديدة كارثية إلى جانب ظهوره الأخير الغريب، أثار تساؤلات في العواصم الغربية حول الاستقرار العقلي لزعيم بلد لديه 6000 رأس نووي. ويبدو منفصلا بشكل متزايد عن العالم المعاصر، مفضلا النبش في التاريخ والبحث الشخصي عن العظمة. وأشار التقرير إلى أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي يعرفه جيدا منذ 2017 علق في زيارته الأخيرة لموسكو ولقاء خمس ساعات على طرفي طاولة طولها 15 مترا قائلا إن «التوتر كان ملموسا». وقال ماكرون إن هذا ليس هو نفسه بوتين الذي التقى به آخر مرة في قصر الإليزيه في كانون الأول/ديسمبر 2019. كان «أكثر صرامة، وأكثر عزلة» وكان فيه «انجراف أيديولوجي وأمني». ووصف مسؤول في الإليزيه خطاب بوتين يوم الإثنين بأنه غير عادي ويعكس «جنون العظمة». وأشارت الصحيفة لاستخدام كثير من ساسة أوروبا كلمة «مجنون» لوصف بوتين، فيما قال نقاده إنه يعيش مفهوما انتقاميا استحدثه للواقع. وسواء كان رجلا منفصلا عن الواقع أم غير ذلك، فبوتين يسكنه غضب تراكم عبر السنين جراء معاملة الغرب له ولبلاده. ويشعر أن بلاده هي عرضة لمؤامرة ما أسماها «إمبراطورية الشر» وكان لافتا وصفه الحكومة في كييف بالنازيين الجدد. ورأت مجلة «إيكونوميست»(26/2/2022) أن بوتين صنع النزاع بنفسه، وهو مسؤول عنه. و«في القتال والبؤس القادم فسيسفك دم أوكراني وروسي كثير، وكل قطرة منها ستتناثر على يدي بوتين». واتهمت بوتين بأنه فقد العلاقة مع الواقع، وأنه كان معزولا وهو يحشد حوالي 190.000 من قواته على حدود أوكرانيا وكان السؤال الحاضر: ما الذي يريده هذا الرجل؟ ومن الواضح أنه كان يحن للحرب والسؤال: أين سيتوقف؟ ومن استمع لبوتين عشية الحرب، يعرف أنه لن يتوقف عند شيء. فعندما قرر التحرك، تجاهل حسابات المخاطر السياسية والمنافع اليومية. وقرر المضي بفكرة وهمية خطيرة بأن لديه موعد مع القدر.
ليس مجنونا بل غاضب
كل هذا لا يعني أنه «مجنون». ورأى جوناثان ستيل في صحيفة «الغارديان» (23/2/2022) أن تحركات الرئيس الروسي العسكرية هي خرق للقانون الدولي ولسيادة دولة جارة، ولكن يجب فهم ما يدور بعقله. ورأى ستيل أن كل ما قيل عن عزلته ومحاولته استعادة المجد السوفييتي وإنشاء حكومة دمى في كييف غير صحيح، فهو رجل عقلاني ويفهم التاريخ الأوروبي الحديث. ولأنه جاء من الاتحاد السوفييتي، فتحميله لينين مسؤولية التأكيد على القومية المحلية في رسمه الدستور الروسي أمر مثير للدهشة، كما أن انتقاده للنخة الوطنية بأنها المسؤولة عن تدمير الاتحاد السوفييتي حادة في نبرتها. ويرى أن المعلقين اجتزأوا كلامه حول نهاية الاتحاد السوفييتي باعتبارها «أكبر كارثة جيوسياسية في القرن» العشرين. وأضاف: «أي شخص لم يشعر بالندم على نهاية الاتحاد السوفييتي قلبه قاس ومن يريد إعادته لا عقل له». ويفسر أن أحداث الأسبوع الماضي هي تعبير عن نفاد صبره وفقدان السيطرة على أعصابه، فهو غاضب من الحكومة الأوكرانية، ويشعر أنها رفضت مرارا اتفاقيات مينسك عام 2014 التي منحت إقليمي دونيتسك ولوهانسك استقلالية كبيرة. وهو غاضب على ألمانيا وفرنسا الموقعتان على الاتفاقيات والولايات المتحدة لعدم ضغطها على الرئيس الأوكراني فولدومير زيلينسكي لتنفيذها. وهو غير راض من الولايات المتحدة لأنها لم تتفهم مظاهر القلق الأمني الروسية بشأن توسع الناتو ونشر الصواريخ على الحدود الروسية. وبالنسبة لمن يقولون إن الناتو له الحق بدعوة أي دولة للإنضمام، ذلك يرد بوتين أن سياسة «الأبواب المفتوحة» مشروطة بمبدأ ثان قبلته الدول الأعضاء في الناتو ويقوم على أن تعزيز أمن دولة يجب أن لا يكون على حساب أمن الدول الأخرى، مثل روسيا. وبنفس السياق انتقد الأكاديمي ستيفن وولت في مجلة «فورين بوليسي» (23/2/2022) التعليقات والمقالات في الغرب التي تمحورت حول رؤية تتعامل مع الوضع الأوكراني من خلال منظور أبيض-أسود. فهناك اجماع تقريبا أن بوتين هو أصل المشكلة وأن تظلمات روسيا لا قاعدة شرعية لها أيا كانت وان الحل المنطقي هو رفض الغرب تقديم أي تنازلات وبدلا من ذلك الوقوف أمام موسكو وحشد المزيد من القوات في أوروبا، وليس أوكرانيا وفرض عقوبات اقتصادية صارمة حالة مضي روسيا بالغزو.
القدس العربي