مع بدء المناقشات بين المسؤولين في الغرب حول سبل إيقاف الاعتماد على إمدادات الطاقة الروسية يبدو أن اللجوء إلى القارة الأفريقية لإمداد أوروبا بالغاز الطبيعي هو البديل المحتمل مقابل مساعدة دول القارة التي تعاني الفقر والصراعات طويلة الأمد على تحقيق أهدافها التنموية، لكن هذه العملية قد تستغرق سنوات أخرى وربما عقودا.
برلين – يخوض الغرب نقاشات مستعجلة لبحث سبل الحد من الاعتماد على الطاقة الروسية، لكن نجاح العملية سيستغرق وقتا طويلا رغم وجود بدائل خاصة في أفريقيا لتعويض الغاز الروسي.
وبدأت النقاشات بالتزامن مع إعلان الولايات المتحدة والمملكة المتحدة حظر صادرات الطاقة الروسية وإعلان الاتحاد الأوروبي أنه سيخفض واردات الغاز الروسي بمقدار الثلثين بحلول نهاية العام. لكن هناك عقبات ستعترض الغرب أبرزها الغاز الذي تعتمد عليه ألمانيا وأجزاء أخرى من القارة العجوز، حيث أعلن السياسيون من واشنطن إلى برلين أنهم سيضاعفون جهودهم في التحول إلى طاقة الرياح والطاقة الشمسية.
ويعتقد مراقبون وخبراء أنه رغم أن إنتاج الطاقة المتجددة سيكون جزءا من حل طويل الأمد إلا أن فكرة أنه سيحل محل النفط والغاز الروسيين على وجه السرعة تبقى هدفا صعب المنال لعدة اعتبارات.
ويمكن لطاقة الرياح والطاقة الشمسية أن تحلا محل بعض الغاز الروسي المُستخدم لتوليد الكهرباء فقط عندما تهب الرياح وتشرق الشمس، مما يتطلب قدرة توليد احتياطية كبيرة، والكثير منها يتطلب الغاز الطبيعي.
إمدادات كبيرة
كما أن الكهرباء ليست سوى جزء من معادلة الطاقة، ولا تُستخدم غالبية النفط والغاز الروسي في محطات توليد الطاقة ولكن لتدفئة المنازل وتشغيل المصانع والسيارات والشاحنات والطائرات والسفن.
ويرى هؤلاء المراقبون والخبراء أنه إذا كانت الدول الغربية لا تريد أن تتوقف اقتصاداتها، فإن عليها البحث عن مصادر أخرى للنفط والغاز والالتفات إلى أفريقيا الغنية بالنفط والغاز.
فيجايا راماشاندران: على ألمانيا النظر لأفريقيا إذا تريد مناقشة أمنها الطاقي
وقالت فيجايا راماشاندران، وهي مديرة الطاقة والتنمية في معهد بريكثرو بكاليفورنيا، “ستحتاج أوروبا إلى إمداد كبير وموثوق به من الوقود الأحفوري غير الروسي في المستقبل المنظور. ويحتاج أي نقاش جاد حول أمن الطاقة إلى التركيز بسرعة كبيرة على مصدر الإمدادات المستقبلية غير الروسية. وبالنسبة إلى أوروبا، وخاصة ألمانيا والدول الأخرى الأكثر اعتمادا على الإمدادات الروسية، سيكون جزءا من الحل لأوروبا أن تتوقف عن التطلع إلى الشرق وتشرع في النظر جنوبا إلى أفريقيا”.
وانتهجت الحكومات المتعاقبة في برلين سياسة أدت إلى تزايد اعتماد البلاد على النفط والغاز الروسيين، واتبعت بذلك سبُلا أبرزها إيقاف تشغيل جميع المفاعلات النووية المتبقية باستثناء مفاعلين نوويين.
ومن المرجح أن يظل الغاز مصدرا مهما للطاقة في ألمانيا لسنوات وربما لعقود حيث يمثل 25 في المئة من إجمالي استهلاك الطاقة الأولية في البلاد، وتشكل الواردات 97 في المئة من الإمدادات القادمة من روسيا أساسا، ثم هولندا والنرويج.
وتمتلك ألمانيا نفسها إمدادات كبيرة من الغاز الطبيعي يمكن الوصول إليها عن طريق التكسير الهيدروليكي، لكن برلين حظرت هذه الطريقة. ولئن كانت ألمانيا تريد التخلص التدريجي من الطاقة الروسية فإنه ليس من الواضح كيف سيواصل الألمان تدفئة منازلهم وتشغيل مصانعهم.
ويعتبر الغاز الطبيعي رخيصا وموثوقا به، ويعدّ أساسيا في العديد من القطاعات ولا يقتصر على توليد الكهرباء. وفي ألمانيا استُخدم 44 في المئة من الغاز لتدفئة المباني في سنة 2020، بينما استهلكت العمليات الصناعية 28 في المئة. وهو أفضل وأرخص المواد الأولية لصناعة الأسمدة النيتروجينية الاصطناعية، والتي تعد ألمانيا أحد مصدريها المهمّين (تعتبر روسيا وحليفتها بيلاروسيا من منتجي الأسمدة الرئيسيين أيضا). ويستخدم الغاز أيضا في التكرير وإنتاج المواد الكيميائية، وفي العديد من عمليات التصنيع الأخرى.
وعلى ضوء ذلك يبدو من الصعب استبدال كل هذا بالطاقة الخضراء في وقت قريب.
وأعلنت ألمانيا بالفعل أنها ستزيد من استخدام الفحم الذي تجاوز طاقة الرياح ليصبح أكبر مصدر لإنتاج الكهرباء على مستوى العالم في 2021. وسيكون بعضه من نوع الفحم البني (أو اللّيجنيت الأسوأ من الفحم التقليدي) المنتشر في الريف الألماني. لكن ألمانيا وضعت نفسها في مأزق بسبب سياساتها المتعلقة بالطاقة، وخاصة قرار استبدال الطاقة النووية بالغاز الروسي؛ فليس أمامها اليوم الكثير من الخيارات.
النظر إلى أفريقيا
المستقبل الطاقي
يجرّ العمل على التخلي عن الغاز الروسي ألمانيا إلى التفكير في مستقبلها الطاقي على المدى الطويل، وهو ما قد يجعلها تعيد النظر في موقفها الراهن من الطاقة النووية الخالية من الكربون وغير الروسية، علاوة على أنها ستكون بحاجة إلى إمدادات كبيرة من الغاز الطبيعي في المستقبل المنظور.
واعتبرت راماشاندران في تقرير لمجلة “فورين بوليسي” الأميركية أنه “إذا كانت ألمانيا جادة في مناقشة أمنها الطاقي فعليها أن تنظر إلى أفريقيا التي تمتلك كميات كبيرة من الغاز الطبيعي”.
وتُعد الجزائر منتجا رئيسيا للغاز وتتمتع باحتياطيات كبيرة غير مستغلة، وهي مرتبطة بإسبانيا من خلال العديد من خطوط الأنابيب تحت البحر. وتعمل ألمانيا والاتحاد الأوروبي على توسيع سعة خط الأنابيب الذي يربط إسبانيا بفرنسا، حيث يمكن أن يتدفق المزيد من الغاز الجزائري إلى ألمانيا وأماكن أخرى. كما ترتبط حقول الغاز الليبية بإيطاليا عبر خط أنابيب.
وقالت راماشاندران “يجب على أوروبا المساعدة بشكل عاجل في استغلال الحقول الجديدة في كل من الجزائر وليبيا، ودعم زيادة إنتاج الغاز في البلدين”.
وتركز خطوط الأنابيب الجديدة قيد المناقشة حاليا على مشروع خط أنابيب شرق البحر المتوسط ، والذي سينقل الغاز من حقول الغاز البحرية الإسرائيلية إلى أوروبا.
لكن أكبر المصادر الأفريقية تقع جنوب الصحراء، بما في ذلك نيجيريا التي تمتلك حوالي ثلث احتياطيات القارة وتنزانيا. كما اكتشفت السنغال مؤخرا حقولا بحرية كبيرة. ولم يُستغل الغاز في أفريقيا بقدر كبير، سواء للاستهلاك المحلي أو للتصدير بحسب راماشاندران التي اعتبرت أنه على ألمانيا دراسة هذه الفرص.
نائب الرئيس النيجيري جادل لصالح الدور الحاسم الذي يلعبه الغاز الطبيعي، بصفته وقودا انتقاليا نظيفا ومحركا للتنمية في نيجيريا ودول أفريقية أخرى
وسينقل خط الأنابيب المقترح العابر للصحراء الغاز من نيجيريا إلى الجزائر عبر النيجر، ويمر عبر بعض الأراضي الشاسعة التي تصعب السيطرة عليها. وفي حالة اكتمال المشروع سيرتبط خط الأنابيب الجديد بخطوط الأنابيب بين المغرب العربي وأوروبا عبر البحر المتوسط وميدغاز وغالسي التي تزود أوروبا من مراكز نقل على ساحل البحر المتوسط الجزائري.
وسيكون طول خط الأنابيب العابر للصحراء أكثر من 2500 ميلا ويمكن أن ينقل ما يصل إلى 30 مليار متر مكعب من الغاز النيجيري إلى أوروبا سنويا، أي ما يعادل ثلثي واردات ألمانيا لسنة 2021 من روسيا.
لكن من المرجح أن يستغرق إنشاء خط الأنابيب عبر الصحراء عقدا أو أكثر، وسيشكل العديد من التحديات لأنه يمر عبر مناطق ابتليت بالصراعات والتمرد.
ورغم ذلك قالت راماشاندران “لا ينبغي تجاهل فرص المشروع إذا كانت أوروبا تريد أن تأخذ أمن الطاقة على محمل الجد. فمن غير المرجح أن يسدّ مصدّرو الغاز الحاليون الفجوة، كما أكّد إعلان الأسبوع الماضي الذي صدر عن مجموعة من الدول المنتجة للغاز التي حددت أنها لن تكون قادرة على تعويض الغاز الروسي في أوروبا. وفي المقابل نجد نيجيريا متحمسة لتصدير بعض احتياطياتها البالغة 200 تريليون قدم مكعب من الغاز”.
وبالفعل جادل نائب الرئيس النيجيري يمي أو سينباجو لصالح الدور الحاسم الذي يلعبه الغاز الطبيعي بصفته وقودا انتقاليا نظيفا نسبيا ومحركا للتنمية الاقتصادية وعائدات النقد الأجنبي في نيجيريا ودول أفريقية أخرى.
وأضافت راماشاندران أن “الطريقة الأسرع بالنسبة إلى ألمانيا للاستفادة من الإمدادات الأفريقية تتمثل في شحن الغاز الطبيعي المسال من ساحل غرب أفريقيا. ولسوء الحظ، وكجزء من سياسة برلين المتمثلة في جعل ألمانيا تعتمد على الغاز الروسي، وبالتالي جعل روسيا أكثر اعتمادا على ألمانيا، لم تعمل الدولة على بناء محطة واحدة لاستيراد الغاز الطبيعي المسال”. وفي الأسبوع الماضي أعلنت برلين أنها ستغير أخيرا سياستها وتنشئ بنية تحتية للغاز الطبيعي المسال.
ويمكن أيضا بناء موانئ تحميل الغاز الطبيعي المسال بسرعة في أفريقيا. وأحد الأمثلة على ذلك هو حقل تورتو أحمين الكبير، وهو مستودع غاز بحري يمتد عبر الحدود البحرية بين السنغال وموريتانيا.
وتعمل مصانع التسييل العائمة فوق حقل الغاز البحري على إنتاج الغاز وتسييله وتخزينه ونقله إلى ناقلات الغاز الطبيعي المسال التي تشحنه مباشرة إلى البلدان المستوردة. وعندما يبدأ تشغيل الحقل في العام المقبل سيضع السنغال وموريتانيا بين أكبر منتجي الغاز في أفريقيا. وسيكون الإنتاج الأولي من هذا الحقل صغيرا، إلا أنه من المقرر أن يتضاعف في غضون بضع سنوات، حيث يقع الحقل داخل حوض كبير من الغاز الطبيعي مع احتياطيات ضخمة جدا. وسيستمر توسع إنتاج الغاز في أماكن أخرى من أفريقيا أيضا، مع خطط لمشاريع في تنزانيا وموزمبيق ودول أخرى خلال السنوات القليلة المقبلة.
وأوضحت راماشاندران أنه “يمكن لألمانيا أن تضرب عصفورين بحجر واحد؛ يمكنها أن توقف تمويل حروب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الوحشية وتخصص أموالها لمساعدة أفريقيا على التطور والاندماج اقتصاديا. وكان التفكير في إمكانية تحقيق التنمية دون قطاع الطاقة التقليدي حتى الآن جزءا من قصر النظر في سياسة الطاقة الألمانية. وفي الواقع فعل الممثلون الأوروبيون في البنك الدولي ومؤسسات التنمية متعددة الأطراف الأخرى العكس، مع الضغط بقوة لإيقاف تمويل مشاريع الغاز الطبيعي في العالم النامي. وتكمن حجتهم المنافقة في أن الدول النامية يجب أن تزيل الكربون على الفور بينما يكثفون إنتاج الفحم وغيره من الوقود الأحفوري. ويعدّ هذا غير منطقي أكثر في ضوء حقيقة أن أفريقيا جنوب الصحراء تولد حاليا 4 في المئة فقط من انبعاثات الكربون العالمية وستظل مفتقرة إلى الطاقة على مدى عقود قادمة، حيث يستهلك الشخص العادي في بلدان مثل غانا وكينيا ونيجيريا طاقة أقل سنويا من استهلاك ثلاجة أميركية واحدة. ولن يولد تمويل تطوير الغاز الطبيعي في أفريقيا نموا اقتصاديا تعدّ البلدان في أمس الحاجة إليه فحسب، بل سيكون مفيدا لجهود أوروبا في التنويع بعيدا عن روسيا أيضا”.
العرب