رهانات الأمن الغذائي تربك الآليات الاقتصادية في الجزائر

رهانات الأمن الغذائي تربك الآليات الاقتصادية في الجزائر

يعكس إيعاز الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون إلى وزير العدل بإعداد نصوص تشريعية تجرّم تصدير المواد المستوردة، إرباك رهانات تحقيق الأمن الغذائي من قبل السلطة للآليات الاقتصادية في البلاد، ما يحيل إلى غياب الاستشراف والتخطيط لاستباق الأزمات.

الجزائر – التبس الاقتصاد بالسياسة في نتائج اجتماع مجلس الوزراء في الجزائر المنعقد تحت إشراف الرئيس عبدالمجيد تبون، لما أدرج متطلبات الحفاظ على الأمن الغذائي بسبب التذبذب المسجل في الأسواق العالمية، في خانة الآليات الاقتصادية، حيث تم الإيعاز إلى وزير العدل بتحضير نصوص تشريعية تجرم تصدير المواد المستوردة، بينما العملية تدخل في صلب الآليات الاقتصادية، وكان الأجدر توجيهها لتعزيز محاربة التهريب والحفاظ على المقدرات الوطنية.

وأوعز الرئيس تبون إلى وزير العدل بإعداد نصوص تجرم أعمال تصدير مواد غذائية أساسية على غرار السكر والزيت والعجائن ومشتقات القمح، في إطار خطة ترمي إلى تعزيز الأمن الغذائي المحلي، والمحافظة على الواردات من التصدير، حيث كان يستفيد أصحابها من هامش الدعم الحكومي لتلك المواد، لتحقيق عائدات إضافية لحساباتهم.

وجاءت مفردات “العمل التخريبي للاقتصاد الوطني” الواردة في بيان رئاسة الجمهورية، لتضفي الطابع الأمني والسياسي على العمل الاقتصادي، الذي حاول مجلس الوزراء تسويقه للرأي العام، عبر “حظر تصدير المواد الغذائية غير المنتجة محليا”، بغرض الحفاظ على توازنات الأمن الغذائي للبلاد.

قرار تبون يكرّس غياب التخطيط والاستشراف، والاكتفاء بإضفاء الطابع الأمني والسياسي في طريق تحقيق الأمن الغذائي

وتستورد الجزائر في الغالب جل المواد الاستهلاكية، سواء كمواد أولية أو مواد مصنعة أو نصف مصنعة، وتُقصَى تماما بموجب هذا القرار أي عملية لاستغلال تلك المواد وإعادة تصديرها كما كان حاصلا في الزيت والسكر والعجائن ومشتقات القمح، حيث كانت شركات خاصة كـ”سيفيتال” و”لابال” وغيرهما، تقوم بتصدير كميات محدودة إلى بعض الأسواق العربية والأفريقية، كلبنان وموريتانيا.

ولا زال الدعم الحكومي للمواد الاستراتيجية وذات الاستهلاك الواسع، يدخل في صلب صراع لوبيات داخلية، ففيما يعمل مصنعون محليون على استغلال المواد الأولية التي تستوردها الدولة والمدعومة من طرف الخزينة العمومية، وإعادة إنتاجها كمواد قابلة للتصدير، والاستفادة من هامش الدعم في تحقيق عائدات إضافية، تصر الحكومة على إبقاء ذلك الدعم في الداخل وتوجيهه إلى الأسواق المحلية.

وكانت تقارير لبنانية، قد تحدثت في الآونة الأخيرة، عن وقف الجزائر لصادراتها من السكر والزيت إلى أسواقها، وإن كانت الكميات محدودة، في خطوة تبعث برسائل مفادها أن المسألة تنطوي على إرادة سابقة للحكومة الجزائرية، للحفاظ على وارداتها لأسواقها المحلية، وحظر أي عملية تصدير لغير المواد المنتجة محليا.

وأعلنت الجزائر على لسان وزير التجارة كمال رزيق، خلال الأسابيع الأخيرة، عن رفع صادراتها خارج المحروقات إلى أربعة مليارات دولار، وأنها تطمح لبلوغ سقف الـ15 مليار دولار خلال العام الجاري، لكنّ مختصين في الاقتصاد والمالية ذكروا بأن الأمر ينطوي على ضبابية، كون الحكومة لم تكشف عن البيانات والكميات والمواد المصدرة.

وتعاني المواد الجزائرية المصدرة من منافسة قوية في الأسواق الدولية، من طرف منتجين إقليميين وعالميين، حيث يحجب التمر والزيت التونسي على نظيره الجزائري ويستحوذ على أسواق مهمة، الأمر الذي يحدّ من إمكانيات التصدير في الجزائر المقتصر إلى حدّ الآن على مواد حصرية كالإسمنت ومواد البناء والألمنيوم.

وترجمت حادثة اقتحام عناصر أمنية من قوات التدخل السريع لباخرة لنقل المسافرين كانت متوجهة من الجزائر إلى مرسيليا الفرنسية خلال الأيام الماضية، نوايا الحكومة الجزائرية في الصرامة وضبط حركة المواد الغذائية ذات المصدر المستورد، حيث أعلن بيان مديرية الأمن، أن العملية أسفرت عن حجز كميات من مشتقات القمح كانت مهربة من طرف مسافرين جزائريين نحو فرنسا.

وبين داعين إلى تطبيق الآليات الاقتصادية والتجارية وتنظيم العملية بشكل يحقق العائد للممارسين وللخزينة العمومية، وبين متشبثين بالخطاب الشعبوي القائل بمحاربة مؤامرة المساس بالأمن الغذائي، يبقى الالتباس قائما بين السياسي والاقتصادي وبين محاربة التهريب وبين الدفع بالاقتصاد المحلي إلى الأمام.

وفيما ألح تبون على الحكومة بضرورة إعداد قانون جديد للاستثمار يكون جاهزا في غضون شهر، على أن يحمل محفزات جديدة للرأسمال المحلي والأجنبي، ويحافظ على استقراره على الأقل لمدة عشر سنوات، تبقى المنظومة التشريعية وعدم الاستقرار يمثلان الهاجس الأول لماكنة جلب الاستثمارات للبلاد.

الرئيس تبون يقرر إعداد نصوص تجرم أعمال تصدير مواد غذائية أساسية على غرار السكر والزيت والعجائن ومشتقات القمح، في إطار خطة ترمي إلى تعزيز الأمن الغذائي المحلي

ولم توفق الحكومات المتعاقبة في إرساء خارطة حقيقية تحدد من خلالها عناصر الخطة الاقتصادية والحاجيات المحلية، حيث تبقى السوق الجزائرية من بين أهش الأسواق العالمية، فرغم مرور ثلاث سنوات على وقف استيراد السيارات والمركبات بعد تجميد ورشات التركيب، لا زال دفتر الشروط حبيس أدراج الحكومة وفي كل مرة يتم تعديله، كما لم تستطع الحكومة ضبط توقعات السوق ووتيرة الاستهلاك، إذ بالموازاة مع الإجراءات الأخيرة لمجلس الوزراء تتوجه إلى استيراد كميات من البطاطا بغية كسر الأسعار، وكميات أخرى من اللحوم لنفس الغرض لاسيما وأن شهر رمضان على الأبواب.

ودخلت اللحوم المجمدة في لائحة الحظر الجديدة، على أن تتم الاستعانة بالمنتوج المحلي الذي لم يحقق الطلب المحلي بحكم أسعاره الملتهبة والتي لا تتوافق مع القدرة الشرائية للجزائريين، فرغم أن البلاد تضم نحو 24 مليون رأس، إلا أن اللحوم تبقى في غير متناول الكثير من المستهلكين، ولذلك كان الاستثناء يفتح أمام استيراد النوع المجمد وحتى الطري لكسر الأسعار، ولا يستبعد العودة إليه في ظل الاضطراب الذي تعيشه الأسواق المحلية، وحساسية السلطة تجاه السلم الاجتماعي.

وسبق للحكومة الجزائرية خلال العام 2020 تحت ضغط جائحة كورونا واهتزاز الأسواق، أن قررت حظر تصدير تلك المواد قبل أن تتراجع عن القرار مطلع العام الماضي، وها هي الآن تعود إلى نفس القرار، الأمر الذي يكرس حالة الارتباك وغياب التخطيط والاستشراف، والاكتفاء بإضفاء الطابع الأمني والسياسي على العملية، ففي كل مرة يتم اللجوء إلى القضاء لإصدار نصوص جديدة لتجريم الاحتكار والمضاربة لمحاربة الندرة، حيث صارت العقوبة تصل إلى الـ20 عاما حبسا نافذا، وها هي الآن تتجه إلى تجريم تصدير مواد غذائية بدعوى الحفاظ على الأمن الغذائي وبعيدا عن التقاليد الاقتصادية المعمول بها في مختلف الأسواق.

العرب