قال روغل الفر في نص مؤثر وواضح كالعادة، الأسبوع الماضي، إنه ليس لروسيا-بوتين أي طموحات حقيقية للتوسع أو لإعادة تأسيس الاتحاد السوفييتي (“هآرتس”، 7/3). وحسب رأيه، ما كان يقف أمام عيون الرئيس بوتين في المواجهة الروسية – الأوكرانية في الفترة الأخيرة، رغبة شرعية في منع انضمام أوكرانيا للناتو والاتحاد الأوروبي، وهي الخطوة التي تعتبرها روسيا تهديداً وجودياً لها. بناء على ذلك، قال الفر، إن الرئيس الأوكراني فلودومير زيلينسكي أخطأ خطأ كبيراً عندما صمم على ألا يتكيف مع مطالب بوتين السياسية – العسكرية، لذلك وضع الدولة والشعب الأوكراني أمام خطر وجودي من الدرجة الأولى. لو أخذ في الحسبان المصالح الأمنية للدولة الجارة العظمى وبوتين، وهو ديكتاتور ظلامي ولكنه ذكي وواقعي بما فيه الكفاية، لرضي وترك أوكرانيا وشأنها.
يرتكز الفر في ادعاءاته على تحليل تفسيري لسياسة روسية قدمها البروفيسور جون ميرشهايمر من جامعة شيكاغو. ميرشهايمر شخص ضليع في مجال أبحاث العلاقات الدولية، ولكنه غير خبير بما فيه الكفاية، سواء في أبحاث التاريخ والثقافة الروسية أو، هذا مهم لموضوعنا بدرجة أكبر، في أعماق الخطاب الأيديولوجي والثقافي لروسيا المعاصرة. وفي النهاية، كل من يتابع التوجهات والتطورات في هذا الخطاب منذ سقوط الاتحاد السوفييتي، خاصة تحت حكم بوتين، لن يجد صعوبة في ملاحظة أن الدعوة للعودة إلى الماضي الإمبراطوري الروسي المجيد الذي كف، منذ فترة طويلة، عن أن يكون تعبيراً لمجرد تفكك نوستالجي، بل تحول إلى شعار حرب ملموس، ومؤخراً، إلى نوع من أمر طوارئ حقيقي. أجل، الحديث لا يدور هنا عن التوق إلى إعادة إقامة الاتحاد السوفييتي، بل السعي التدريجي والدائب إلى إعادة “روسيا التي ضاعت منا”، إلى مجدها، الإمبراطورية الروسية التاريخية.
المفهوم الإثنوغرافي الإمبريالي من أيام روسيا القيصرية المتأخرة يحظى باهتمام خاص. وبحسبه، يضم الشعب الروسي في داخله الروس الكبار (الروس) والروس الصغار (الأوكرانيين) والروس البيض (البيلاروسيين). من هنا جاءت فكرة القومية الأوكرانية التي تطمح إلى تقسيم الشعب الروسي من الداخل، والتي تعتبر أمراً غير شرعي كلياً.
بغض النظر عن فكرة الإمبراطورية الروسية، فإنه في حالة أوكرانيا يضاف الأساس القومي لخطاب “الحقوق التاريخية”، خطاب يفهمه كثير من الإسرائيليين. والدولة الروسية الأولى كانت كما هو معروف روسيا الكييفية. في كييف ولد ارتباط مصيري بين الروس والمسيحية الأرثوذكسية. وهناك فعلياً ولدت النواة التاريخية للأمة الروسية. من ناحية الخطاب القومي المتطرف الروسي، فإن كييف مثل الخليل بالنسبة للقوميين المتطرفين المسيحانيين اليهود، مدينة أجداد الأمة التي من الحق أن تنتمي لـ “الأمة التاريخية”، حتى لو كان التاريخ الملموس والقريب للمدينة يعكس واقعاً اجتماعياً – ثقافياً وقومياً لشعب آخر، يطمح إلى الحرية والاستقلال.
في روسيا المعاصرة، فإن مثل هذه الآراء لا تنتمي لدائرة صغيرة من المثقفين المتعصبين السلافيين. كثيرون جداً في أوساط مواطني روسيا العاديين سيردون بابتسامة أو حركة يد رافضة بخصوص فكرة أمة أوكرانية منفصلة. كثيرون جداً يرون سخافة في أن كييف، “أم المدن الروسية” مثل تعريفها الشائع (والدقيق بالتأكيد) في كتب التاريخ السوفييتية والروسية، ليست جزءاً من الدولة الروسية. وحسب رأيهم، هذا خلل تاريخي يجب إصلاحه.
كثيرون أيضاً يعتقدون أن معظم سكان أوكرانيا يأملون حقاً بالانضمام إلى الفيدرالية الروسية، ويعارضون من أعماقهم حفنة الروسبوفيين الذين يحكمون في كييف، ويمنعون بصورة متعمدة إعادة تأسيس تحالف “الشعوب السلافية الأخوة” تحت حكم موسكو. وبالنسبة للجماهير الروسية التي تجلس خارج المدن المزدهرة وتعيش في فقر وبدون أمل بالتغيير مثلما في الحقبة السوفييتية، يجب القول إن الدواء القومي والإمبراطوري قد يعطي معنى وأهمية للحياة، وهنا يكمن تفسير دعم معظم الروس لمحو الهوية الوطنية الأوكرانية.
إزاء كل ذلك، من السذاجة الاعتقاد بأن استسلام أوكرانيا لإملاءات روسيا من خلال الموافقة على الابتعاد عن العالم الغربي كان سيرضي شهية بوتين الوطنية المتطرفة والإمبريالية. بالعكس، المرحلة القادمة، ما بعد هذا التنازل، سيكون هناك تشكيل حكومة مؤيدة لروسيا، وهو ما سيفكك أوكرانيا من الداخل بالتدريج من خلال استخدام “استفتاءات شعبية” كاذبة، و”تثبت” للعالم بأن الحلم الجماعي للأوكرانيين هو التنازل عن فكرة الاستقلال والاندماج مع الأخوة السلافيين “الكبار”.
يقف أمام الرئيس زيلينسكي بديل التشبث بحق أوكرانيا في تقرير المصير، أي حقها في تقرير وجهتها من ناحية جيوسياسية وجيوثقافية، والمخاطرة بمواجهة عسكرية مع الدولة العدوانية العظمى. احتمالية تجاوز هذه المواجهة ضئيلة في الواقع، لكنها قائمة.
بين عملية تفكك طويلة، التي نهايتها فقدان مؤكد للاستقلال السياسي، وبين احتمالية ضئيلة للدفاع عن هذا الاستقلال والبقاء كأمة، اختار زيلينسكي الاحتمالية الضئيلة التي تتمثل بالحياة المستقلة. يبدو أنه ليس اختياراً شجاعاً فحسب، بل هو الخيار الواقعي الوحيد المحتمل ضمن الواقع الحالي.
القدس العربي