لماذا تفشل الأمم؟

لماذا تفشل الأمم؟

B_RkbX5W4AAPdyf

يأتي هذا الكتاب في إطار سلسلة من الدراسات التي صدرت في الفترة الأخيرة حول قضية فشل الدولة، وتغول الرأسمالية العالمية، وكيف يقود الفشل المؤسسي والضعف النظمي واتباع تعليمات مؤسسات التمويل الدولية إلى انهيار محقق في الكيانات السياسية القائمة التي تحمل صفة الدولة في العالم.

ويناقش هذا الكتاب في فصوله الـ15 حزمة من القضايا المتعلقة بالفقر والعوامل التي تعرقل التنمية، ودورها في إضعاف الدول والمجتمعات، ودور الأنظمة الحاكمة وسياساتها “الحمقاء” في هذا الأمر، كما يناقش -في المقابل- كيفية تحقيق الازدهار والرخاء، وأهمية الإصلاح المؤسسي في تحقيق ذلك.

والكتاب -الذي استغرق من مؤلفيه نحو 15 عاما في البحث لأجل تأليفه- يقدم أفكاره من خلال نماذج حالة تطبيقية، وهي من أهم أدوات إيصال الفكرة والتأكيد على صدقية الأدلة التي يقدمانها، سواء في ما يتعلق بعوامل الفشل أو عوامل النجاح.

وقد اختار المؤلفان نماذج مختلفة في مواقعها الجغرافية ومواضعها التاريخية، وكذلك في خلفياتها الدينية والثقافية من أجل استخلاص القوانين العامة التي تحكم النجاح أو الفشل في عملية التنمية ومكافحة الفقر، وموضع عامل الضعف المؤسسي والفساد في هذا الإطار.

ومن هذه النماذج تجربة محمد علي باشا الكبير في مصر، والدولة العثمانية، وكوريا الجنوبية مقارنة بـكوريا الشمالية، والصين، والاتحاد السوفياتي السابق، وبريطانيا، وإنجلترا.

وفي هذا الصدد، يقول روبنسون إن جوهر فكرة الكتاب أن “المجتمعات الناجحة اقتصاديا تتدبر أمر تطوير حزمة أو مجموعة من المؤسسات التي ترعى وتوجه المواهب والكفاءات والطاقات لدى مواطنيها”.

ويمكن اعتبار مقدمة الكتاب من أهم ما فيه لأن فيها جانبا تطبيقيا مهما بدوره وحداثيا، يدلل بها الناشر على أهمية ما جاء في الكتاب على النحو السابق، حيث تتناول المقدمة مشهد الثورة المصرية في ميدان التحرير، ويرصد كاتب المقدمة فيها البواعث الاقتصادية والاجتماعية التي دفعت المصريين إلى الثورة، ويقول إن المصريين بأكملهم -بمسلميهم ومسيحييهم ومن مختلف الفئات المجتمعية- قد خرجوا إلى ميدان التحرير في 2011 لأسباب تتعلق بقضية تزايد معدلات الفقر، بجانب الفساد الذي كان يمتص أي عوائد للتنمية وسوء توزيع الثروة في مصر.

ثم يبدأ الكتاب بتناول نموذج تمهيدي للرسالة التي يريد المؤلفان -وكلاهما باحث في مؤسسة ماساتشوستس للتكنولوجيا- إيصالها، وهي كيف يلعب الفساد السياسي والضعف المؤسسي دوره في تحقيق الفقر، وبالتالي انتشار الاضطرابات الاجتماعية، وذلك من خلال المقارنة بين مدينتين تحملان الاسم نفسه نوجاليس، الأولى في ولاية أريزونا الأميركية، والثانية في ولاية سونورا المكسيكية.

ويخلص المؤلفان من خلال هذا النموذج المقارن إلى أن الدول الفقيرة لا تعاني الفقر بسبب مواقعها الجغرافية أو ثقافاتها، أو لأن حكامها لا يدركون السياسات السليمة لتحقيق الازدهار لشعوبهم.

ثم يناقش الكتاب بعد ذلك العوامل التي تقف خلف مشكلة الفقر والازدهار من خلال تناول نموذج الكوريتين، حيث يقول إنه على الرغم من أنه قبل الحرب الكورية، وتقسيم شبه الجزيرة الكورية كانت كل المراكز الصناعية في الشمال، أما الآن فإن كوريا الشمالية تعاني مجاعة واسعة النطاق وسوء التغذية مع تدهور كبير في مستوى المعيشة مقابل ازدهار اقتصادي ومعيشي في كوريا الجنوبية.

“على الرغم من أنه قبل الحرب الكورية وتقسيم شبه الجزيرة الكورية كانت كل المراكز الصناعية في الشمال فإن كوريا الشمالية الآن تعاني مجاعة واسعة النطاق وسوء التغذية مع تدهور كبير في مستوى المعيشة مقابل ازدهار اقتصادي ومعيشي في كوريا الجنوبية”

ويرد الكتاب ذلك إلى طبيعة الاقتصاد الكوري الشمالي المركزي التخطيط الذي أعاق الفرص والحوافز لدى المواطن الكوري الشمالي، بينما العكس حاصل في كوريا الجنوبية، حيث الانفتاح وإتاحة الفرص أمام جميع المواطنين.

واستمرارا لتأكيده على دور المؤسسات المنفتحة أو الشمولية في توجيه الواقع المجتمعي والاقتصادي نحو الفقر أو الازدهار فإنه يتناول تجارب حالة من الدول الصناعية المتقدمة في مجال بنية الضمان الاجتماعي والرفاه الاقتصادي والمجتمعي مثل بريطانيا، حيث يرصد الكتاب تجربة إنجلترا منذ القرن الـ17 وحتى الآن في مجال التطور المؤسسي، ويرد كل ما حققته بريطانيا في الوقت الراهن إلى هذا الأمر.

ومن القوانين التي استخلصها المؤلفان في كتابهما أن المؤسسات السياسية -وليست الإدارية أو البيروقراطية والاقتصادية فحسب- تشكل بدورها أساس الهياكل الاقتصادية الناجحة أو الفاشلة.

ويركز في السياق على نقطة الاستيعاب والدمج لكافة ألوان الطيف السياسي والمجتمعي والديني، وغير ذلك في العملية التنموية وداخل المؤسسات نفسها أو ما يصفه بالمؤسسات الشاملة للجميع.

وتنبثق عن ذلك قوانين أخرى ذات صلة، وعلى رأسها التوزيع الشامل والعادل للثروة، ويورد أمثلة من جنوب أفريقيا بعد انتهاء حقبة التمييز العنصري، وكذلك بريطانيا في مرحلة نهضتها، لكي يدلل على دور المؤسسات السياسية وعملية التوزيع العادل للثروة في تحقيق الازدهار الشامل.

ولكنه لا ينكر كذلك أهمية وجود “دولة مركزية فعالة” تقوم بتزويد مواطنيها باحتياجاتهم الأساسية، وتحقيق الضمان الاجتماعي، والحفاظ على القانون والأمن العام.

ويقارن بين جنوب أفريقيا والصومال في هذا الصدد، حيث يشير إلى أن تجربة جنوب أفريقيا الاستيعابية على المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية حولتها إلى دولة ناجحة اقتصاديا ومؤسسيا بخلاف الصومال، حيث قادت دكتاتورية محمد سياد بري بعد استقلال هذا البلد إلى تحويله لبلد فاشل منذ السبعينيات قبل انهيار الدولة بالكامل في مطلع التسعينيات.

وفي تناوله لبعض الحالات من العالم الإسلامي يوضح أسباب بقاء جميع الدول التي خرجت من رحم الدولة العثمانية في حالة من الفقر باستثناء الدول المصدرة للنفط، ويقول إن ذلك يعود إلى النموذج التنموي الذي تبنته الدولة العثمانية، حيث يقول إنه بدلا من تبنيها التغيير داخل المجتمعات التي تحكمها شعر الحكام العثمانيون في آخر مئتي عام من عمر الدولة الممتد عبر أكثر من خمسة قرون بالتهديد من هذا التغيير.

ويقول إن الدولة العثمانية قامت بمعاقبة رعاياها من خلال الفقر والاستغلال، فيما لم تكن المعارضة داخل الإمبراطورية العثمانية -كما يسميها- بنفس قوة المعارضة في إنجلترا القرن الـ17، وذلك ما منع تكرار النموذج الإنجليزي في الدولة العثمانية.

“يقارن الكتاب بين جنوب أفريقيا والصومال، حيث إن تجربة جنوب أفريقيا الاستيعابية على المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية حولتها إلى دولة ناجحة اقتصاديا ومؤسسيا بخلاف الصومال، حيث قادت دكتاتورية سياد بري إلى تحويله لبلد فاشل”

ويشير إلى أن ذلك الواقع تكرر في أميركا الوسطى وأميركا اللاتينية، حيث أدت سياسات المستعمر الإسباني والفرنسي والبرتغالي في عدم اعتماد نموذج سليم في مجال الحكم والتنمية أو توارثت هذه الدول المشكلات الحالية التي تعاني منها في مرحلة ما بعد الاستقلال.

وبشكل عام يظهر من الكتاب أن روبنسون يؤكد على أهمية الديمقراطية، وما تتيحه من إطلاق الحريات الفردية والمبادرات الذاتية، وسيادة القانون في خلق النموذج الاقتصادي الذي يقود إلى الازدهار ويقضي على الفقر، وذلك من خلال مناقشات المؤلفين المستفيضة للنماذج التاريخية المختلفة، حيث ينبذ تجارب الاتحاد السوفياتي السابق وكوريا الشمالية والصومال، في مقابل ذكر تجارب كوريا الجنوبية وبريطانيا وجنوب أفريقيا.

بل إنه يقول إن إنجلترا ظلت متخلفة حتى القرن الـ17 (1688)، حيث قاد التحام قطاعات واسعة من المجتمع من أجل وقف الحكم الملكي المطلق إلى تأسيس مؤسسات ديمقراطية شاملة للجميع قادت في النهاية إلى نجاح تنموي واقتصادي.

كما يصل إلى قانون آخر، وهو ضرورة أن تكون هناك رؤية شاملة للتطوير المجتمعي والسياسي والمؤسسي في حال ما إذا شهد المجتمع ثورة مجتمعية لتقييد الأنظمة المستبدة الحاكمة أو الإطاحة بها، أو ما أطلق عليه المؤلفان قانون “التناسق والترابط”.

وهنا تبرز مقارنة وضعها المؤلفان بين نموذج إنجلترا السابق ونموذج الثورة البلشفية في روسيا، حيث إنه بخلاف الحالة الإنجليزية لم تترافق الثورة البلشفية وهدف الإطاحة بالملكية في روسيا مع خطة شاملة لتطوير مؤسسات اقتصادية وسياسية تشمل جميع ألوان الطيف الموجود في المجتمع.

ولكن ثمة ملاحظة مهمة في هذا الصدد وهي أن الكاتب كان متحيزا ضد الأنظمة الاشتراكية والشيوعية التي كانت تحكم بشكل استبدادي، ولم يميز بين تجربتها السياسية والتجربة التنموية الناجحة التي ميزت بعضها مثل الصين.

كما لم يول اهتماما كبيرا بتجارب تنموية مهمة في العالم الثالث، من بينها نماذج في أميركا الجنوبية مثل البرازيل التي تجاوزت تبعات الحقبة الاستعمارية، وصارت من أهم نماذج التنمية المؤسسية السليمة في العالم الثالث.

عرض/أحمد محمود

المصدر : الجزيرة