شاركتُ عام 2011، في تنظيم طاولة مستديرة حول العلوم الاجتماعية في الشرق الأوسط، وقد عُقدت الندوة بالجامعة الأمريكية في بيروت. وكان عالم الاجتماع المعروف سامي زبيدة من المشاركين فيها. يومها دار حديث بيني وبين الرجل حول الدستور العراقي، بسبب اطلاعه على كتاب “مراجعات في الدستور العراقي” الذي أشرفت على تحريره عام 2006. ولا زلت أذكر العبارة الصادمة التي قالها لي حينها: “هل العراق بحاجة إلى دستور؟”، ليسألني بعدها: “هل تعتقد فعلا أن أحدا في العراق سيحترم شيئا اسمه الدستور؟”
لقد ظلت فكرة الدستور فكرة “عرضية” في تاريخ العراق الحديث؛ فدستور عام 1925 الذي عرف باسم “القانون الأساسي العراقي” كان مجرد إنفاذ لصك الانتداب البريطاني على العراق الذي أعلن عام 1920 في سياق معاهدة الصلح التي وُقّعت في سيفر، والذي تضمن في المادة الأولى التزاما بوضع قانون أساسي للعراق يُسنُّ “بمشورة الحكومة الوطنية”! ويُسهّل “تدرج العراق وترقيته، كدولة مستقلة”!
وبالتالي كان هذا الدستور نتاج “رغبة” مزدوجة؛ رغبة سلطة الاحتلال البريطاني، للإيفاء بالتزاماتها ولإضفاء شرعية على النظام الذي قامت بصناعته، ورغبة القوى الماسكة بالسلطة من أجل شرعنة وجودها ورؤاها.
وكانت الفقرة الأكثر طرافة في هذا الصك، هي الفقرة السادسة عشرة التي نصت على أنه “لا شيء مما في هذا الانتداب يمنع المنتدب من تأسيس حكومة مستقلة إداريا، في المقاطعات الكردية، كما يلوح له” لكن دستور عام 1925 أغفل هذه الفقرة تماما، بعد أن تبدلت وجهة النظر البريطانية بشأن وضع الكرد في العراق، فبدلا من “الاستقلال الإداري” للمقاطعات الكردية، خلا الدستور من أي إشارة إلى الكرد في متنه، بعد أن قررت بريطانيا “دمج” الكرد في دولة عراقية مركزية واحدة، نتيجة لتحولات العلاقة البريطانية الكردية بين عامي 1920 عندما وضعت هذا الصك، وبين العام 1925 عندما تمت كتابة الدستور، وتساوقا مع محاولة اصطناع “الدولة/ الامة ” التي شكلت النموذج السياسي الأبرز بعد الحرب العالمية الاولى، وهو النموذج الذي اعتمده المؤسسون الأوائل للدولة العراقية، ولم يُواجَه باعتراض بريطاني!
بعد ثورة/ انقلاب 1958، وصولا إلى عام 2003، مع ما عرف بالدساتير المؤقتة ( 1958، و 1963، و 1964، و 1968، و 1970)! تحول الدستور في العراق إلى إجراء شكلي لا محتوى حقيقي له، يكتب كجزء من متطلبات استكمال مشهد السلطة، ولغرض إضفاء نوع من الشرعية على النظام القائم والذي جاء، في الأغلب، بعد انقلابات عسكرية أو شبه عسكرية.
فقد تم إعلان دستور 1958 المؤقت يوم 27 تموز/ يوليو 1958، أي بعد 13 يوما فقط من لحظة الثورة/ الانقلاب! والرواية الأشهر عن كتابة هذا الدستور أن مسودته الأولى قد كتبها المحامي ووزير العدل في العهد الملكي حسين جميل في يومين فقط! ويروي حسين جميل نفسه أن مسودته “قبلت في مجلس الوزراء دون مداولة، و لم تناقش مواده مناقشة مستفيضة وعميقة، ثم إنّه لم يعرض على الرأي العام أو على غيرنا من القانونيين لإغنائه بملاحظاتهم، وقد أُقر حرفيا”!
وللتعريف بحقيقة هذا الدستور يكفي أن نقارن بين المادة 23 منه التي نصت على أن “القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون ولا يجوز لأي سلطة أو فرد التدخل في استقلال القضاء أو شؤون العدالة”، وبين المادة 27 منه التي قررت أن كل القرارات والبيانات والمراسيم الصادرة بعد يوم 14 تموز/ يوليو لها “قوة القانون”، وبهذا شُرعنت “محكمة الشعب” التي شكلها عبد الكريم قاسم، بموجب مرسوم جمهوري بتاريخ 20 تموز/ يوليو 1958!
هل ثمة حاجة، إذا، للعراق وللعراقيين إلى دستور لا يحترمونه و لا يلتزمون به من الأصل شعبا وسلطة؟
بالتأكيد اختلفت طريقة كتابة دستور عام 2005 عن كل سابقاتها، كما اختلفت طريقة إقراره، لكن الحقيقة المؤكدة أن طريقة التعاطي معه كانت واحدة!
بداية لم يكن هناك أي فكرة حول “الدستور” لدى السياسيين العراقيين الأعضاء في مجلس الحكم، وكان الأمريكيون يريدون تشكيل إدارة انتقالية معينة تتولى السلطة في العراق لزمن غير محدد، وقد وقّع الطرفان العراقي والأمريكي، اتفاقا حول ذلك يوم 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 2003! لكن إصرار السيد علي السيستاني على كتابة دستور من لجنة منتخبة أربك الجميع؛ ففي إجابته عن سؤال لصحيفة لوس أنجلس تايمز يوم 1 آب/ أغسطس 2003 قال السيد السيستاني أنه “لا صلاحية لأية جهة في تعيين أعضاء مجلس كتابة الدستور، بل يلزم أن يكون منتخبا من الشعب العراقي عن طريق صناديق الاقتراع”! وفي بيان لاحق صدر عن مكتب السيد السيستاني بتاريخ 27 كانون الأول/ ديسمبر 2003 أوضح اعتراضه على اتفاق 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 2003، وقال إنه يجب أن يعرض قانون إدارة الدولة المؤقت على جمعية منتخبة لإقراره! وكرر بيان لاحق التأكيد مرة أخرى على أن “أي قانون يعد للفترة الانتقالية لن يكتسب الشرعية إلا بعد المصادقة عليه من الجمعية الوطنية المنتخبة”!
وقد اضطر الجميع للخضوع لإرادة السيد السيستاني، حيث ضُمّن قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية الذي دخل حيز التنفيذ يوم 31 كانون الأول/ ديسمبر 2003 آلية كتابة “دستور” عبر “ممثلين منتخبين”! ولكن القوى السياسية السنية الرئيسية قاطعت هذه الانتخابات، وهو ما اضطر الجميع، أمريكيين وعراقيين، إلى انتهاك أحكام قانون إدارة الدولة المؤقت نفسه، وإلى انتهاك شروط السيد السيستاني، من خلال “تعيين” شخصيات سنية غير منتخبة، ومن خارج إطار الجمعية الوطنية في لجنة كتابة الدستور، في تواطؤ جماعي أسس لمرحلة لاحقة اتسمت بانتهاكات متكررة ومنهجية للدستور!
الدستور فكرة غربية لتنظيم الدولة والمجتمع، أما في عالمنا العربي، فلا يزال يُنظر إليه، اجتماعيا وسياسيا، على أنه مجرد “بدعة”، وأن الحكم في حقيقته هو إرادة الحاكم، أو تواطؤ الحاكمين! وفي العراق، لا أحد يحترم الدستور، لا سلطات الدولة، ولا مؤسساتها، ولا القوى السياسية، بل لا أحد اليوم يهتم بالاعتراضات التي تُوجه اليه حول انتهاكه لمواد الدستور، فالجميع متيقن أن الانتهاكات تصدر من الجميع، ويتواطأ معها الجميع! أما المجتمع نفسه الذي “بصم” على دستور لم يقرأه من الأصل، و “صمت ” على انتهاكاته اليومية، فهو لا يكتفي بعدم احترام الدستور وحسب، بل لايزال مستعدا لسحقه، مقابل رشوة من السلطة، أو مجرد وعد بها!
القدس العربي