النيجر تقبل استراتيجية فرنسا الجديدة في الساحل الأفريقي ولا تكتفي بها

النيجر تقبل استراتيجية فرنسا الجديدة في الساحل الأفريقي ولا تكتفي بها

تبدو دولة النيجر غير واثقة من نجاح الاستراتيجية الجديدة التي بلورتها فرنسا عقب سحب قواتها من مالي، ما جعلها لا تكتفي بوجودها ضمن التكتل الجديد البديل عن قوة الساحل المشتركة بل تتجه أيضا إلى تنويع الوسائل والشراكات تحسبا لأسوأ السيناريوهات المحتملة مع توسع نشاط الجماعات الجهادية.

في الوقت الذي رحبت فيه نيامي بإعادة هيكلة التحالفات في منطقة الساحل والصحراء، وهو ما جرت ترجمته باستقبالها قوات عملية برخان التي انسحبت من مالي كي تعزز قدراتها الدفاعية في مواجهة هجمات الجماعات الإرهابية المستعرة، كان رئيس النيجر محمد بازوم يوطد تعاونه مع نيجيريا للاستفادة من خبراتها وإمكانياتها وتحييد أجنحة من الفصائل الإرهابية بفتح حوار معها ضمن سياسة الأيدي الممدودة.

أعادت فرنسا هيكلة استراتيجيتها في الساحل الأفريقي باستبدال انخراطها العسكري المباشر بشبكة تكتلات بين وكلاء إقليميين في مقدمتهم النيجر، الأمر الذي صدق عليه البرلمان مؤخرا بينما رفضته المعارضة وجرى ضم نيجيريا إلى التحالف مع استبعاد مالي.

وبناء على اتفاق مع نيامي أعادت باريس نشر قواتها المنسحبة من مالي في النيجر وربما يتوجه عدد منها إلى تشاد وموريتانيا، ويتراوح عددها بين 2500 إلى 3 آلاف جندي فرنسي.

الأيدي الممدودة
النيجر تجد نفسها أمام تحديات وجودية تتعلق بقدرتها على إدارة أمنها الإقليمي والحفاظ على كيان الدولة

لم يبدد هذا التطور في الاستراتيجية الفرنسية مخاوف النيجر التي تُعد أفقر دول العالم وتتهددها مخاطر هائلة في ما يتعلق بأنشطة الجماعات الإرهابية بالمنطقة التي تتحرك بغرض إعادة التموقع والانتشار وتعلية سقف الأهداف على ضوء التحولات الأخيرة والتغييرات التي طرأت على خرائط تمركز وانتشار القوات الفرنسية.

ورغم أن فرنسا لم تنسحب بالكامل من منطقة الساحل الأفريقي وأبقت على جزء من قواتها بالنيجر، إلا أن الأخيرة تجد نفسها أمام تحديات وجودية تتعلق بقدرتها من عدمه على إدارة أمنها الإقليمي والحفاظ على كيان الدولة فضلا عن حماية النظام السياسي القائم، وهي سياقات لا تحتمل التعويل على أوضاع متغيرة وسياسات تتحول وفقا لحسابات قوى دولية.

وخشي رئيس النيجر بازوم من أن تطرأ على الاستراتيجية الفرنسية الجديدة في الساحل الأفريقي تحولات أخرى باتجاه تقليص أكبر لحضورها العسكري، وكما انسحبت من مالي ربما تنسحب مستقبلا من النيجر ما يعرض بلاده لتهديدات أمنية فائقة إذا تُركت مكشوفة تواجه الجماعات المسلحة وحدها دون سند.

ولذلك طرح مقاربته السلمية مع بعض الفصائل المسلحة والاتجاه نحو تشكيل قوة مهام مشتركة متعددة الجنسيات في بحيرة تشاد بجانب الترحيب بالقوات الفرنسية المنسحبة من مالي.

فرنسا أعادت هيكلة استراتيجيتها في الساحل الأفريقي باستبدال انخراطها العسكري المباشر بشبكة تكتلات بين وكلاء إقليميين في مقدمتهم النيجر

ولا تُعد المسارات الثلاثة التي مضت بها النيجر متناقضة، كما تبدو في الظاهر، فسعيها للحوار مع المتطرفين عائد لقلقها المتنامي من تداعيات انسحاب القوات الفرنسية من مالي خاصة في منطقة تيلابيري التي تقع بمنطقة المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو ويسيطر على مساحات واسعة منها تنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى، وهذا سر العمليات الأخيرة التي نفذها التنظيم خلال الأيام الماضية ضد أهداف في مالي وبوركينا فاسو، أما ما يقلق النيجر فهو أن عناصر التنظيم من تلك الجهة صاروا على بعد مئة كيلومتر فقط من العاصمة نيامي.

وشهد شهرا مارس وأبريل الماضيان هجمات مكثفة سقط خلالها العشرات من الأشخاص بهذه المنطقة الواقعة بالمثلث الحدودي جنوب غربي النيجر والتي انسحبت منها القوات الفرنسية، ولذلك دعا الرئيس بازوم لحوار مع أجنحة تمارس العنف والإرهاب بغرض تحييدها.

وجرى الإفراج عن قياديين بجماعات إرهابية من ضمنهم عناصر من بوكو حرام، وقال الرئيس بازوم في خطوة هي الأولى من نوعها منذ بدء الهجمات الإرهابية في النيجر قبل نحو ثلاثة عقود “حددت 9 قيادات إرهابية ونصحت بالإفراج عن السجناء واستقبلتهم في ما بعد في القصر الرئاسي لأنني أسعى للسلام”.

عكست هذه السياسة الناجمة عن مخاوف استعادة الجماعات المتطرفة المسلحة ثقتها بنفسها بعد الانسحاب الفرنسي توخي رئيس النيجر المسك بأدوات وبدائل عديدة للتعامل مع معضلة الإرهاب وعدم السير على خط واحد، حيث يرسل للجماعات الإرهابية التي فتح معها بابا للسلام والحوار رسالة مفادها أنه من خلال التعاون مع فرنسا ونيجيريا ليس ضعيفا وفي حال الإخلال بالعهود والالتزامات فهو جاهز لخيارات القوة والحرب.

ولم تتوقف الهجمات الإرهابية التي يشنها جهاديون تابعون لتنظيمي القاعدة وداعش على طول الحدود الثلاثية الممتدة لأكثر من 1400 كيلومتر مع مالي وبوركينا فاسو، رغم إطلاق نيامي مبادرة الأيدي الممدودة للحوار مع الجماعات المتطرفة وإطلاقها سراح عدد من قادتها وعناصرها.

وأبدى تنظيم داعش اهتمامه بالحفاظ على وجود قوى له في غرب أفريقيا من خلال إكمال العشرات من عناصره تدريبات لهم داخل أحد معسكرات التنظيم بمنطقة بحيرة تشاد، ويرجع تمسك داعش بالتمركز في مناطق سيطرته على حدود النيجر مع نيجيريا إلى أن الجهاديين يتخذونها كجسر عبور لوجستي لإمداداتهم.

لذا فإن سياقات مبادرة الحوار مع داعش وغيره من الجماعات التكفيرية المسلحة بالمنطقة محفوفة بعدم الثقة من قبل السلطات في النيجر؛ وذلك لعدم حدوث استجابة عملية ومُطمئنة على الأرض لمبادرة الرئيس بازوم “الأيدي الممدودة” نظرا لماضيها العنيف ومسؤوليتها المباشرة عن قتل الآلاف من الأبرياء وتشريد أعداد من سكان البلدات والقرى الحدودية.

نيجيريا تُعد الفاعل الرئيس في تأسيس قوة المهام المشتركة متعددة الجنسيات بمنطقة بحيرة تشاد

وبينما يتشكك المسؤولون في النيجر في جدوى السياقين، أي استقبال القوات الفرنسية المنسحبة من مالي وفق استراتيجية باريس الجديدة بالساحل الأفريقي وفتح حوار مع فصائل إرهابية منتمية لداعش والقاعدة، يراهنون في المقابل بصورة أكبر على المسار الثالث وهو توثيق وتوطيد التعاون مع نيجيريا.

وتُعد نيجيريا هي الفاعل الرئيس في تأسيس قوة المهام المشتركة متعددة الجنسيات بمنطقة بحيرة تشاد وتملك أكبر اقتصاد في أفريقيا، ما دفع رئيس النيجر نهاية مارس الماضي للدعوة إلى إنشاء قوة عسكرية إقليمية مشتركة معها لمكافحة الإرهاب وتكريس الاستقرار في الساحل الأفريقي.

ويرجع تعويل النيجر على الشراكة والتعاون مع نيجيريا للرغبة في الاستفادة من خبراتها وقدراتها الأمنية في محاربة مقاتلي بوكو حرام ومحاولة تكرار هذا النموذج في منطقة الساحل، حيث تواجه النيجر تهديدات على حدودها الغربية المتاخمة لبوركينا فاسو ومالي من قبل تنظيم الدولة الإسلامية في غرب أفريقيا والجماعات الأخرى الموالية للقاعدة.

وتعاني النيجر من بؤرة إرهابية على حدودها الجنوبية مع نيجيريا وهي الحالة التي حققت فيها تقدما ملموسا بالتعاون مع أبوجا ضد بوكو حرام ضمن قوة المهام المشتركة التي تضمهما مع الكاميرون وتشاد، ما جعل رئيس النيجر راغبا في تكرار هذا النجاح على الجبهة الغربية.

وتئن النيجر على حدودها الجنوبية مع نيجيريا حيث تخوض مواجهات مكثفة ضد جماعة بوكو حرام، ونجحت في تحقيق بعض التقدم على هذه الجبهة، وهو ما يعود إلى قوة المهام المشتركة متعدد الجنسيات في منطقة بحيرة تشاد، وتضم قوات من النيجر وتشاد الكاميرون ونيجيريا، ويبدو أن رئيس النيجر يسعى لتكرار هذا النموذج على الجبهة الغربية.

يخشى مسؤولون في النيجر من الاضطرابات والتغييرات في مشهد السلطة عقب شن الإرهابيين عمليات نوعية كبرى يجري تحميل الحكومة المسؤولية عنها لتساهلها وعدم اتخاذها إجراءات كافية لتفاديها ومنعها.

وتمثل حالة بوركينا فاسو هاجسا مقلقا للمسؤولين في النيجر، وهما البلدان المتجاوران اللذان يجمعهما هدف تطويق تمرد الفصائل المسلحة التابعة للقاعدة وداعش، حيث اندلعت احتجاجات شعبية واسعة النطاق في بوركينا فاسو وحدث تذمر في صفوف القوات المسلحة والقوى الأمنية بعد الهجوم النوعي الذي شنه إرهابيون يستقلون دراجات نارية وسيارات دفع رباعي في نوفمبر العام الماضي على نقطة أمنية في إيناتا أقصى شمال البلاد ليقتلوا 53 شرطيا لم يكونوا في وضع يسمح لهم بجاهزية الدفاع عن أنفسهم، وكشفت تقارير أمنية لاحقا أنهم كانوا لا يملكون حتى الطعام.

وجرى اتهام السلطات في بوركينا فاسو الواقعة إلى الغرب من النيجر وإلى الجنوب من مالي بالتقاعس عن مواجهة التهديد الإرهابي الذي ظل يتنامى منذ عام 2015 وصولا لانتشاره في جميع أقاليم البلاد باستثناء بلاتو سنترال وكاديوجو، حيث تقع العاصمة واغادوغو، ما مهد لحادثة إيناتا، ما اضطر رئيس البلاد لإقالة الحكومة خوفا مما هو أسوأ بعد أن ساد السخط داخل صفوف القوات المسلحة منذرا باحتمالية حدوث انقلاب عسكري.

وتحرص السلطات في النيجر على ألا تصل الأوضاع على أراضيها إلى هذا الحد، كما جرى في بوركينا فاسو وقبلها في مالي، وكان التمهيد لحدوث انقلابات عسكرية واهتزاز استقرار الحكومات بدول إقليم الساحل نتيجة واضحة ومباشرة لنشاط الجماعات المسلحة والفراغ الأمني وعدم قدرة القوات الحكومية على الرد والقيام بمسؤولياتها في الوقت المناسب.

ولا يهدد اتساع الخطر الإرهابي في النيجر الديمقراطية الناشئة فحسب، بل مسألة بقاء الدولة ذاتها بالنظر إلى ما تعانيه من أزمات اقتصادية واجتماعية جعلتها على رأس قائمة أفقر دول العالم، ما يمنح الجماعات المسلحة الموازية فرص القيام بدور البديل القادر على استقطاب أعداد كبيرة من المهمشين والعاطلين عن العمل والذين يعانون من ظروف معيشية صعبة.

العرب