إعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ذي الجذور الإسلامية عن «العودة الطوعية» لـ»المهاجرين» السوريين المسلمين، مثال جديد على غلبة الهوية القومية على الدولة التركية، وإن حكمها حزب إسلامي منذ عشرين عاما، استُقبل فيها السوريون كـ»مهاجرين» من قبل «الأنصار» في بداية الأمر، لكن المقاربة الإسلامية للتعامل مع ضحايا الثورة السورية أخفقت في ساحة الاختبار، وتراجعت المشاعر الإسلامية أمام القومية، بينما استقبلت بلدان أوروبا الغربية كل من وصل إليها من اللاجئين السوريين، من دون ان يربطهم بهم عرق أو دين، وخاض اللاجئون البحار والأهوال للوصول لشاطئ الأمان الأوروبي، ليصبح اللاجئ السوري ينظر لأوروبا من أمام جامع إيا صوفيا بأنها بلاد الأنصار الواقعية، التي يصبو للوصول إليها مهما كلفه الأمر من مال ومخاطرة بعد 11 سنة من اختبارات الشعارات.
المقاربة الإسلامية للتعامل مع ضحايا الثورة السورية أخفقت في ساحة الاختبار، وتراجعت المشاعر الإسلامية أمام القومية
وعلى الرغم من الأعوام الثلاثة الأولى التي شهدت تضامنا كبيرا مع السوريين في تركيا، إلا أن جدران العزل سرعان ما ارتفعت على الحدود، وبات دخول السوريين ممنوعا ويقابل برصاص حرس الحدود التركي، وحتى من يتمكن من العبور لاجئا فإن السجن والترحيل بانتظاره، إلا إن كان من أصل تركماني سوري أو عراقي، فهنا يتحول اللاجئ «المسلم» إلى إنسان مرحب فيه كونه من عرق تركي نقي!
وحتى من حصل على الجنسية التركية من السوريين، فإنه ظل في كثير من المعاملات تركيا من درجة ثانية أو ثالثة، في عقود الإيجار في بعض أنواع العقارات التي تتطلب كفيلا تركيا، يطلب مكتب عقاري في محافظة بولو كفيلا تركيا «أصليا»، وفي عقد تملك مشترك لعقار آخر، ترفض عضوية سيدة سورية تحمل الجنسية التركية، لأن الملاك تفاجأوا بأنها ليست تركية أصلية، وفي أكبر بنك حكومي تنص السياسة التي تتلوها الموظفة على عميل تركي من أصل عربي وبعد إبلاغه بأن «لهجته تبدو ليست تركية أصلية» بأنه سيعامل مثل «اليابنجي» لأنه مجنس وليس أصليا، رغم أن كل هؤلاء المجنسين غيروا أسماء اجدادهم وعائلاتهم من ألقاب عربية إلى ألقاب تركية، عند تثبيت اسمائهم في شهادة الجنسية، في إجراء اتبعه موظفون حكوميون بشكل ممنهج، رغم أن اللغة التركية تتكون في نصفها تقريبا من مفردات عربية وفارسية، وعلى الرغم من أن تركيا تضم ناطقين بالعربية والكردية، عانوا لسنوات وبالذات الأكراد من ما عانى منه اللاجئون الجدد، لأنهم عرقية لا تنسجم مع دولة قامت على أساس قومي تركي، ولا تزال هذه القضية الكردية تشعل حربا منذ نصف قرن، لن تصل بتقديري إلى أي نتيجة، سوى ما وصلت إليه من قبل حروب الدولة القومية ذات الهيمنة العربية السنية في العراق منذ 1921.
حتى في عهد أكثر السلاطين تيمنا برمزية الخلافة الإسلامية، كان السلطان عبد الحميد يرفض مشاركة غير الأتراك في السلطة التشريعية الممثلة في مجلس المبعوثان الذي كان بمثابة البرلمان العثماني، وقال ذلك صراحة في مذكراته مبررا تعطيل إيقاف عمل (البرلمان) بأن ذلك سيجلب الشعوب المحكومة، ومنها العرب لمشاركة العثمانيين في السلطة، وقارن العثمانيون الرافضون للبرلمان العثماني دولة الخلافة بالاستعمار البريطاني الذي لا يسمح بمشاركة الهنود المحكومين في البرلمان البريطاني، وهكذا كان الموت هو مصير مجلس المبعوثان، بعد أقل من سنة واحدة على إطلاقه، وكذلك كان الموت في السجن هو مصير مهندس فكرة هذه الإصلاحات الديمقراطية مدحت باشا، الذي نفاه السلطان عبد الحميد لسجن الحجاز إلى أن توفي هناك. يكرر العرب أخطاءهم، لأن هناك من يقدم لهم قراءات تاريخية مزيفة تزين لهم الخضوع لقوميات أخرى تحكمهم لقرون تحت راية الشريعة وباب السلطان العالي، ثم تأتي تجربة كبيرة للعرب السنة كالثورة السورية، لتطرح سؤالا بسيطا؛ إن كانت كل هذه الدماء التي سالت والدمار الذي حل بهم، لم يمنحهم ملجأ آمنا في بلاد اخوة الدين، فماذا بقي من معنى لهذه الاخوة؟!
القدس العربي