من المسلم به عادة في مضمار التاريخ الفكري أن الحركة التنويرية الكبرى التي عرفها العالم وعاشها طوال القرن الثامن عشر في أوروبا وأدت، فيما أدت، إلى اندلاع الثورة الفرنسية وما تلاها في العالم أجمع، بوصفها حركة احتجاجية سياسية كانت أول حركة في تاريخ البشرية تنطلق من كتابات مفكرين وسجالاتهم، من المسلم به أن تلك الحركة انطلقت من فرنسا من طريق روسو وفولتير وديدرو وغيرهم من كبار الموسوعيين. لقد كان هؤلاء “أول” من فكر بالسياسة من منطلق فكري في العصور الحديثة، بالتالي خلقوا ما سوف يعرف عادة بالتفكير الديمقراطي ولو بالاستناد، الغامض أو الواضح، إلى أفكار أرسطو وأفلاطون. بالتالي يعتبر التنوير نوعاً من عودة إلى فكرة الحكم عن طريق البشر على الضد من تفكير الكنيسة في الحكم بأنه تجلّ للعناية الإلهية. الفكر التنويري استناداً إلى هذا المنطق هو بالتالي فرنسي الهوية إغريقي الجذور. فإذا ما أراد أحد أن يوسع هويته هذه، يتوجه بأنظاره إلى ألمانيا باحثاً عن ممارسات تنويرية مماثلة هناك في أفكار وكتابات هيغل وكانط وربما موسى مندلسون وشيلنغ… ما يجعل تأسيس التنوير شراكة بين الفرنسيين والألمان الذي قد يضمون في أحيان كثيرة الهولندي باروخ سبينوزا إلى محفلهم. غير أن الإنجليز لا يبدو عليهم منذ حين أنهم يوافقون على ذلك كله!
عودة إنجليزية
فأوروبيو أقصى غرب القارة العتيقة، وحتى من دون أن يستعينوا على ذلك بامتدادهم الأنغلو – ساكسوني في الشمال الأميركي بدأوا يحتجون على تلك المقدمات كلها مطالبين بإعادة النظر في التاريخ الفكري الراسخ مؤكدين حصتهم الكبيرة في “كعكة التنوير”، بل واصلين في بعض الأحيان إلى تبني التنوير من ألفه إلى يائه، على أساس أنه صناعة بريطانية وبأن الوقت قد حان لعودة الحق إلى أصحابه. أو هذا على الأقل ما بدأت تنادي به أقلام كتاب إنجليز لا تفتقر إلى الجدية ولا إلى المحاجات المنطقية في زعمها أن التنوير والحداثة بالتالي بريطانيان. ولقد وصل هذا التأكيد إلى ذروته عند مفتتح القرن الجديد حين أصدر مؤرخ إنجليزي وأستاذ جامعي معروف كتاباً ضخما أثار جدلاً واسعاً في الأوساط الأكاديمية عنوانه “التنوير: بريطانيا وخلق العالم الحديث”. المؤرخ هو راي بورتر وأطروحته في غاية البساطة والثقة بالنفس وتنطلق كما أشار المعلقون على الكتاب يومها من قول موجه إلى المفكرين المنتشرين في القارة الأوروبية كما إلى غيرهم من مؤرخين وأكاديميين يرون رأيهم: “هل تعتقدون أن التنوير قد ولد في فرنسا؟ يحسن بكم إذاً أن تفيقوا من غفلتكم وتدركوا أن التنوير بريطاني”. فالمفكرون البريطانيون هم قبل غيرهم من فتح دروب الحداثة أمام الفكر الحديث!
نسف يقين راسخ
هكذا إذاً بكل بساطة نسف روي بورتر نحو قرنين من اليقين التاريخي في كتاب سرعان ما ترجم إلى العديد من اللغات وصدرت للرد عليه في فرنسا وألمانيا دراسات ومقالات خرجت أحياناً عن سياق السجال الأكاديمي. والحقيقة أننا لن نهتم هنا بتلك السجالات بقدر اهتمامنا بالطرح نفسه الذي يبدو مفاجئاً ولكن من دون أن يكون جديداً. وذلك ببساطة لأن الفكرة موجودة منذ زمن بعيد حتى وإن كانت قد افتقرت دائماً إلى ترابط يقوم على تسمية الأمور بأسمائها. ولعل أهم ما فعله بورتر عبر مئات الصفحات المكثفة التي يتألف منها الكتاب هو ذلك الربط. من اللافت أن بورتر انطلق في كتابه من سرد تصنيفي كان قد وضعه قبله بسنوات قليلة باحثان هما سيلار وييتمان في كتاب عنوانه “ما حدث عام 1966 وبعده” رتبا فيه الحراك الفكري التجديدي في بريطانيا بخاصة بعد معركة هاستنغز التي شهدت غزو الفايكنغ لإنجلترا وولادة الفكر السياسي الحديث. ويرى المؤرخان أن لئن كان صحيحاً أن التنوير يعود بجذوره إلى مدرستي غلاسكو ولندن، فإن الفكرة في حد ذاتها منفرة. وفي المقابل، رأى المؤرخان أن التنوير الحقيقي لا بد أن يكون فرنسياً حتى وإن أسفر في نهاية المطاف عن بحار من الدماء والعنف والدمار والقتل، ما يعزز المسلمة التاريخية التي تقول إن الحداثة لا بد لها من دم وعنف. لكن بورتر يأتي ليقول: أبداً، فالحقيقة أن الدماء والعنف الفرنسيين كان لهما من التأثير في بناء حداثة العالم أقل كثيراً مما فعلت أفكار نيوتن وآدم سميث وبخاصة جون لوك ودافيد هيوم ورفاقهم.
الفكر ومبدأ اللذة
بالنسبة إلى كتاب بورتر هؤلاء هم التنويريون الحقيقيون. لكن التاريخ أغمطهم حقهم سامحاً للفرنسيين بأن يستولوا ليس على أفكارهم، فالفرنسيون والألمان طبعاً مفكرون حقيقيون وأسهموا مساهمة أساسية في صنع الحداثة، لكنهم “أتوا بعد البريطانيين وإن كان التاريخ لم يعبأ بهذه الحقيقة كما ينبغي”. أما السؤال هنا فهو: لماذا؟ لماذا نال الأوروبيون مكانتهم التنويرية الكبيرة فيما ظل البريطانيون على الهامش في هذا السياق؟ والحقيقة أن هذا التساؤل الجذري هو الذي يشكل الجوهر الحقيقي للكتاب. أما الأطروحة الحاسمة التي يلجأ إليها بورتر هنا ويشتغل لاحقاً على تشعباتها فتقول: “إن المسألة تكمن في طبيعة الفكر الفلسفي، بالتالي الاجتماعي والاقتصادي الإنجليزي الذي ينطلق غالباً من نزعة فردية رهيفة ونمط عيش يقوم على مبدأ اللذة ومتعة الحياة بأكثر مما يقوم على تفكير ينطلق من المصالح الجماعية. كما يصب في اهتمام مفرط في ما يسمى المصلحة الشخصية ضمن إطار رأسمالية استهلاكية المنحى”. ولعل اللافت أكثر من أي شيء آخر في هذا الكلام هو استخدام بورتر لمفاهيم شديدة الجدة وتنتمي إلى الفكر السياسي – الاقتصادي المعاصر لتوصيف فكر بات عمره الآن يتجاوز المئتي عام، بل يعود في نظر بورتر تحديداً إلى عام 1688 بعد مرحلة السجالات الدينية الصاخبة مباشرة ليتوقف مع أولى إرهاصات الفكر الفوضوي والاشتراكي أواسط القرن التاسع عشر استطراداً حتى نهايات ذلك القرن، ما يعني طبعاً أن الحراك التنويري الذي انطلق في بلاد الإنجليز بدأ قبل مثيله الفرنسي ولسوف يستمر طويلاً من بعده، لكن المشكلة تكمن في أن فاعليته لم تصل اجتماعياً إلى المستوى الفرنسي ولا فلسفياً إلى المستوى الألماني حتى ولو تبدى من ناحية فوضويته الخلاقة وارتباطه بمبدأ اللذة أقرب إلى النهل من سبينوزا.
حروب نابوليون
ويرى بورتر أن من العلامات الرئيسية لتلك التنويرية الإنجليزية انتشار نوادي الكتب والبدايات الخلاقة للفنون الروائية وازدهار الحركات النقدية وإرث المسرح الإليزابيثي، حيث أن كل هذه النشاطات خلقت دينامية تنويرية – ظلت تفتقر إلى هذا التوصيف الذي سرعان ما احتكره الفرنسيون ومن بعدهم الألمان في رأي الكاتب – تواصلت بشكل مدهش وممنهج لن تقطعه سوى “تلك الغيمة السوداء” التي كانتها الحروب النابوليونية، التي بزغت فجأة لتضع حداً “سيكون مؤقتاً لحسن الحظ!” للاندفاعة التقدمية مشجعة على ازدهار وانتشار مدّ رجعي منع سمعة النهضة التنويرية الإنجليزية من أن تواصل اندفاعتها إلى الأمام. وكان من نتائج ذلك أن كثراً من المفكرين الإنجليز التقدميين قد غرقوا في مرحلة كآبة ويأس أثرت في صدقية فكرهم داخلياً وخارجياً. ويرى بورتر أن ذلك السلوك السلبي سيتواصل حتى بدايات القرن العشرين على رغم أن “مفكرين من طراز عالم الطبيعة والشاعر إيرازموس داروين حفيد صاحب نظرية التطور الشهير أكد باكراً أن الفكر التنويري البريطاني لن يلبث أن يسلك طريقه الإيجابي”، لكنه لم يفعل ذلك بمعنى أن يشكل تياراً مؤثراً في العالم، مفسحاً المجال لاحتكار التنوير من قبل الفرنسيين وفي ركابهم الألمان. وهو لن يفعل لسبب منطقي. فالعالم دخل القرن العشرين من أبوابه الواسعة وقد أضحى وربما بفضل الحركة الاشتراكية العالمية من ناحية وبفضل الحرب العالمية الأولى من ناحية ثانية، أضحى من الأممية والكوزموبوليتية إلى درجة لم يعد في إمكان أمة واحدة مهما كان من شأن مفكريها أن يمدوا نفوذهم عالمياً إلا بشكل تيارات متخصصة محددة لا يمكنها أن تشكل حراكاً جماعياً شاملاً… وهكذا قضي على التنوير الإنجليزي إلى الأبد.
اندبندت عربي