الجلبي بيت أسرار التحالف الإيراني الأميركي لاحتلال العراق

الجلبي بيت أسرار التحالف الإيراني الأميركي لاحتلال العراق

احمد-الجلبي

رحل أحمد الجلبي عن عمر ناهز السبعين عاماً؛ لتحاط وفاته بالشكوك، هل مات حتف أنفه أم مسموماً؟ هل باتت الحسابات الأميركية الإيرانية في العراق، المتناقضة حيناً والمتوافقة حيناً آخر، أصعب من أن تحتمل وجوده؟

الجلبي، معارضاً وفي السلطة، كان مثار جدل مستمر، لم ينقطع حتى بعد الغزو الأميركي للعراق والذي لعب فيه الدور الأبرز، ثم بعد إسقاط النِّظام العراقي السابق، بل تجددت الاتهامات بخصوصه حول المال والفساد والهيمنة على وثائق وممتلكات ومؤسسات الدولة.

وإذا كان هناك مِن دور فعّال يُحسب لأحد في تهديم البنية السياسية للدولة في العراق عن طريق الغزو الأمريكي فيعود إلى الجلبي، وبهذا لم يكن هناك مِن دور أساسي للإسلاميين الذين اتخذوا مِن إيران قاعدة لهم وظلوا طوال الحرب العراقية-الإيرانية وما بعدها يراهنون على اللاعب الإيراني، لكن بعد زوال النظام والدولة قطف الإسلاميون والإيرانيون من خلفهم الثمرة.

الصيرفي والسياسة

بدأ اسم أحمد الجلبي يظهر في الإعلام بفضيحة بنك البتراء الأردني الذي كان قد ساهم في تأسيسه، غير أنه ظل يُدافع عن نفسه، مع أن حكماً مِن قِبل محكمة أردنية صدر ضده بعد انقلاب شركائه عليه متسبباً بضرر بالغ للعديد من أصحاب رؤوس الأموال العراقيين بسبب انهيار البنك، لكن الأهم والأخطر هو ما تردد من أن الجلبي كان قد موّل بأموال البنك ذاته ميليشيات لبنانية في الثمانينات كان على اتصال بها في ذلك الوقت.

الصيرفي الذي هرب من الأردن لم يُعرف اسمه في عالم السياسة أيضاً قبل حرب الكويت وانعقاد مؤتمر المعارضة العراقية في بيروت مطلع التسعينات، ومن ثمة تشكيل المؤتمر الوطني العراقي الذي جمع قوى المعارضة ليظهر فيه سياسيون جدد كان أبرزهم أحمد الجلبي.

لكن ولاء الجلبي كان دائما لإيران، إيران الشاه أولا ثم إيران خميني وخامنئي، فلا ينكر الجلبي أنه كان متآمرا على الحكم في العراق منذ نهاية الستينات وأنه شارك في مؤامرة عبدالغني الراوي لقلب نظام الحكم التي دعّمها الشاه، وأكد الجلبي أنه كان طرفا فيها كما اعترف بنفسه في لقائه الصحفي الطويل مع غسان شربل قبل سنوات.

سرعان ما دبّت الخلافات في ذلك المؤتمر وعصفت به الولاءات للدول حتى ظل في أواسط التسعينات مجرد اسم وشعار، ولم يبق حول أحمد الجلبي إلاّ القليل من المستفيدين، وتوقفت جريدة “المؤتمر” عن الصدور ودبّ اليأس إلى المعارضة والكل يشير إلى أحمد الجلبي متهماً إياه بصرف المال الذي منحته الدول للمعارضة العراقية، وكان هو يرد بالقول إن إعلان الصرف سوف يضر بنشاط المعارضة داخل العراق، لكن هذا لم يقنع أحداً.

همس الجلبي والأذن الأميركية

عاد الجلبي مرة أخرى لإقناع الأميركان باحتضان المؤتمر الوطني، فأخذ يفتش عن أعضاء من مقاهي لندن والعواصم الأوروبية بغض النظر عن إمكانيات الأشخاص، فكان الاهتمام بالعدد أكثر من أيّ شيء آخر وعقد الاجتماع بضواحي لندن لهذا الغرض ثم في أميركا.

الجلبي ينقل عنه أنه قال حال سقوط بغداد “سقطت دولة السنة”، ولم يترك فرصة لتكريس النبرة الطائفية إلا واستثمرها، رغم هيئته الليبرالية، مطلقا العنان للعامل الطائفي الذي أخذ يتأجج بذريعة التسلط الشيعي والانكفاء السني

وما إن أعيد الاعتبار للمؤتمر بإصدار قانون 1998 القاضي بإسقاط النظام العراقي حتى استغنى الجلبي عن معظم هؤلاء المعارضين الذين جمّعهم وبينهم أصحاب عمائم لا أهمية لهم، وحين تولى بوش الابن الرئاسة جرى التفكير على الفور وبشكل حثيث وجاد باستخدام القوة وغزو العراق، فمنح المؤتمر أموالا لهذا الغرض وقد شارك فيه الحزبان الكرديان الاتحاد الكردستاني والديمقراطي الكردستاني وشخصيات مستقلة، حتى جاءت الفرصة حين استهدفت طائرات بن لادن برجي مركز التجارة العالمي في جزيرة مانهاتن في نيويورك.

عمل أحمد الجلبي ما بوسعه كي يستمر الحصار على العراق ويضيق الخناق على الرئيس صدام حسين، على الرغم من تبعات ذلك الحصار على الشعب العراقي، بمنع دخول التكنولوجيا والأدوية رغم إعلان النفط مقابل الغذاء ذلك الشعار الذي جعل العراقي يأكل ليعيش لا أكثر، فانحدر مستوى التعليم الذي كان يعيش عصراً ذهبياً مصنفاً دولياً من بين أفضل النظم في المنطقة، فقد أشيد به من قبل منظمات عالمية عديدة، وفي أواسط الثمانينات كان قد تجاوز الحدود المتوقعة عربياً وإقليمياً لترتفع معدلات الالتحاق الإجمالية إلى مستوى 100 بالمئة وتتحقق المساواة بين الجنسين في معدلات الالتحاق الكامل وتنخفض نسبة الأمية بين الفئة العمرية 15-45 إلى أقل من 10 بالمئة، كما رفعت الحكومة في ذلك الوقت مبلغ الإنفاق في مجال التعليم إلى 6 بالمئة من الناتج القومي الإجمالي و20 بالمئة من ميزانية الحكومة العراقية التي خصصت 620 دولارا أميركيا للإنفاق الحكومي على تعليم الطالب الواحد.

وبفعل الحصار أخذت البنية التحتية للعراق بالتآكل تحت ضغط المعارضة وعلى رأسها الجلبي الذي كان يبرر الأمر بأن فك الحصار سيؤدي إلى تقوية النظام، لكن هذا لم يمنع من اعتبار الحصار جريمة دولية بحق العراق وشعبه وما زالت آثارها مغفلة عن الدراسة والبحث الذي يفترض أن يكشف تبعاتها الخطيرة على المجتمع العراقي.

صمت القبور

على الرغم من كثرة الاتهامات التي طالته وما كان يُكتب ضده في الإعلام فإن الجلبي كان يلوذ بالصمت المطبق لامتصاص النقمة ضده، وإذا رد يوماً فإنه كان يرد ببرود على اتهامات بسرقة المال والعمالة والخيانة.

كان الجلبي في زحمة ما يقال ويكتب ضده مشغولاً بإقناع الأميركان بإسقاط النظام، كان يتحدث عن ألمانيا كنموذج ما بعد النازية. وربما كانت فكرة اجتثاث البعث من إيحاءات تلك الفكرة. إلا أنه بعد التعصب لقانون الاجتثاث عاد مؤخراً وانتقدها ولم يعترف كعادته بأخطائه، مكتفياً بالقول إن ما حصل كان موافقاً للمرحلة أو أنه أدى غرضه، والحقيقة أن أغلب ما حصل من إرهاب وفوضى كان سببه ذلك القانون الثأري.

لكن العراقيين لم يغفروا للجلبي دوره ولم تمرّ مناسبة دون أن يتعرض فيها لنقد أو هجوم، وذات مرة لم يتمالك أحدهم نفسه عندما شاهد الجلبي في حفل تأبين فصاح قائلاً «لا لعملاء أميركا»، لحظتها التفت الجمهور صوب الهتاف، إلا الجلبي استرسل بكلمته التأبينية غير مكترث. ذلك الذي هتف في وجه الجلبي، لم يلبث أن عاد إلى بغداد ورشح نفسه في الانتخابات وقدم قائمته أسوة بالجلبي وأسس مؤسسة أفاد بها البغداديين.

لا شك أن الجلبي عاش سنواته الأخيرة وهو يتجرع المرارة ويشعر بالغبن لا سيما حين يرى الآخرين يقطفون ثمار مشروعه في إسقاط النظام والاستيلاء على السلطة وإدارة البلاد؛ بينما لم يتحقق هذا كلّه كما رسمه في ذهنه، بل أمسى نائباً لمَنْ ظل يعترض على المشروع حتى قُبيل الحرب. فقد جرت العادة أن يتبوأ قائد الانقلاب المركز الأول ثم يأتي الأقربون. لكن هذه المرة حصل شذوذ في السياسة العراقية ومن المحتمل أن يكون قائد الانقلاب بلا مقعد في البرلمان في الانتخابات الأولى وفي الثانية أما في الثالثة فلم يجد سبيلاً يدخله البرلمان إلا مستظلاً بعباءة الإسلاميين.

المنصة الطائفية

اعتلى الجلبي منصة الطائفية وأخذ يتحدث في الحقوق الشيعية من دون الرغبة في دولة دينية مبادراً إلى تأسيس البيت الشيعي وتشجيعه لإصدار البيان الشيعي قُبيل أبريل من العام 2003 من قبل مَن يدّعون بأنهم متفتّحون درسوا في الجامعات الأوروبية والأميركية، استمر الجلبي في دوره هذا مستغرقاً فيه إلى أبعد حد وأخذ يظهر على الشاشة يجاري اللاطمين بلطم صدره على الحسين.

وحاول جعل الحق الشيعي ممراً إلى بلوغ المرام متجاهلا سيرة أسرته في عهدٍ مارسَ الطائفية بجدارة من سن قانون الجنسية والتمييز الملموس حتى وصلت ذروتها في ما بعد. حينها كان جده عبدالحسين الجلبي وزيراً مزمناً وعضواً في مجلس الأعيان حتى وفاته أواخر الثلاثينات، أما والده عبدالهادي الجلبي فقد عين وزيراً ونائباً لرئيس مجلس الأعيان حتى تموز 1958، وشقيقه رشدي الجلبي بدوره تولى الوزارة عدة مرات. وقد تمتع الجميع بلقب الجلبي الأرستقراطي (كلمة تركية تطلق لتعظيم الأعيان) الذي خلعه العثمانيون على العائلة لمركزها المالي والاجتماعي رغم سلوكها الطائفي ضد الشيعة لا معهم.

كانت لآل الجلبي أملاك واسعة، حتى أن مدينة الحرية غربي بغداد عُرفت سابقاً بمدينة الهادي نسبة إلى والده الذي نجا مما حصل في صبيحة 14 تموز 1958 لوجوده صدفة في طهران. تطرح هذه الخلفية أن تفاعل الجلبي الطائفي لم يؤخذ بجديّة حتى داخل الائتلاف الشيعي مثلما لم يؤخذ عداؤه المفاجئ للأميركيين بجدية بعد أن رمى بكل ثقله لإقناعهم بالحل العسكري ثم حاول تغيير الصورة أمام العراقيين بافتعال مواجهات معهم والهتاف ضد الاحتلال.

هندسة الغنائم

الاستحقاق الانتخابي ليس هو الأمثل بالعراق الحالي لذا كان لا بد أن يحسب الجلبي حسابه خارج صناديق الاقتراع التي لم يؤثر فيها الترغيب بقائمته بشعار «كل عراقي يأخذ حصة من النفط». فتراجعت مكانة الجلبي كثيراً وهو يناقض ليبراليته وخطابه في وحدة العراق بهندسة الضرر الطائفي الإقليمي، وباعتماده على حاشية أسرعت إلى اغتنام الغنائم وهزت صورته بين العراقيين.

دعايته الطائفية تعمل كماكينة لإيجاد قاعدة شعبية له، ليس في العراق وحده بل في المنطقة العربية كلها، ولا ينسى البحرينيون أنه قام بدعم حملة إغاثة إلى البحرين، أطلق عليها اسم “المختار” على متن سفينة اسمها “رقية”، في إشارة إلى ابنة الإمام الحسين

وكان يمكن لحاوٍ مثل الجلبي يلاعب الأفاعي والنيران أن ينجو بشكل أو بأخر، إن لم تكن تلك النار هي نار الطائفية التي لا تترك يابساً ولا أخضر، لا زرعاً ولا ضرعاً، لم يكتف بدعايته الطائفية؛ طموحاً في إيجاد قاعدة شعبية له، إنما قام بدعم سفينة إغاثة إلى البحرين (المؤتمر 5 يونيو 2011).

كان يعلم ما خطورة عنونة القافلة بـ”المختار” وفي ظرف البحرين الدقيق، والعراق الأكثر دقة؛ ذلك أن اسم المختار الثقفي ارتبط بالثأر، وأن يكون محمولاً على متن سفينة اسمها “رُقية”، في إشارة إلى ابنة الإمام الحسين، لا يُفسّر إلا أنها متجهة إلى قتلة الحسين. فانظروا كيف يتمّ استدراج الناس إلى الفتنة.

يُنقل عن الجلبي أنه قال حال سقوط بغداد “سقطت دولة السُنَّة”، مع أن الرجل لا يبدو عليه الانفعال الطائفي مثلما تجده يفيض من دواخل الطائفيين السُنَّة منهم والشيعة في الوقت ذاته، وهكذا أخذ اللعب على الوتر الطائفي بذريعة التسلط الشيعي والانكفاء السُنَّي يصنع الفتنة في العراق مستهلاً المقاومة المزعومة بجز الرقاب أملا بالردِّ الشيعي حتى يتحقق الهدف، وكان العراقيون، وبالأخص أبناء طائفته، أكثر استغراباً وإحباطاً من غيرهم، فالظاهر في إطلاقه هذا أنه حوَّل حزب “البعث” إلى حزب “سُنَّي”.

تدمير الدولة

كان مقصد الجلبي تدمير الدولة العراقية التي تم تأسيسها (1921)، وبعد عودته إلى العراق مع الجيش الأميركي كان أول ما مارسه وسط تلك الفوضى وغياب الدولة ومؤسساتها السيطرة على مؤسسات منها نادي الصيد وبساتين في الكاظمية وأراضٍ كثيرة بذريعة أنها أملاك عائلته، وتمت الهيمنة عليها عن طريق الحمايات التي رافقت الجلبي، وجرى طرد الفقراء المستفيدين منها وهم من الشيعة بطبيعة الحال، ما وضع الجلبي نفسه، وهو غير المعروف من قِبل عراقيي الداخل، تحت الشبهات، وبعد تفكك الدائرة المحيطة به، من الأقربين، تكاثر ظهور فضائحه، وكان منها ما يخص البنوك وما يخص المؤسسات والمال وحتى الإرث الثقافي للعراق.

رحل أحمد الجلبي بعد عشاء في نادي الصيد، وبعد أن عاش لغزاً من الألغاز في ظهوره المفاجئ على الساحة العراقية السياسية الذي اختتمه بموته بهذه الطريقة الغامضة، فهل مات الجلبي موتاً طبيعياً أم مات مقتولاً؟ وإذا صح الاحتمال الأخير فمَن الذي قتله؟ ومن المتضرر منه في داخل المؤسسة الحاكمة؟ وأيّ دولة لم تعجبها مواقف الجلبي الجديدة من الطائفية ومن بناء دولة مدنية، هذا ما ستكشفه الأيام القادمة، مع العلم أن الخطايا سرّها عميق في العراق الجديد، ومنها خطايا الجلبي ومؤسسته المالية والميليشاوية، فكاتم أسراره ما يزال موجوداً في الصورة.

صحيفة العرب اللندنية