الغرب لا يزال لا يفهم بوتين

الغرب لا يزال لا يفهم بوتين

لندن – يتبنى الغرب في تقييمه للحرب على أوكرانيا مواقف توحي بعدم فهمه للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، رغم حكمه لروسيا لعشرين عاما سبقها توليه لمناصب أمنية مهمة وفترة رئاسية أولى دامت ثماني سنوات.

وينظر الغرب إلى المسائل الكبرى من زوايا لا ينظر إليها الكرملين، وهذا ما يؤكد محللون وباحثون أنه يجعل مهمة فهم النوايا الروسية وتطورات الحرب على كييف صعبة للغاية.

وتقول تاتيانا ستانوفايا، وهي باحثة غير مقيمة في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، إن معظم مناقشات اليوم لا تلتقي في الواقع حول كيفية مساعدة أوكرانيا على الفوز في ساحة المعركة، أو إجبار كييف على التنازلات، أو السماح للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بحفظ ماء الوجه.

وتذكر الباحثة خمسة افتراضات مشتركة حول كيفية رؤية بوتين إلى هذه الحرب، مشددة على أن الغرب يحتاج إلى النظر إلى الوضع بشكل مختلف إذا كان يريد أن يكون أكثر فاعلية في مقاربته ويقلل من مخاطر التصعيد.

تاتيانا ستانوفايا: الغرب يحتاج إلى النظر إلى الوضع بشكل مختلف

ويتمثل الافتراض الأول في أن بوتين يعرف أنه يخسر في أوكرانيا. وينبع هذا من الفكرة الخاطئة القائلة بأن الهدف الرئيسي لروسيا هو السيطرة على أجزاء كبيرة من أوكرانيا. وبالتالي، عندما يكون أداء الجيش الروسي سيئا، أو يفشل في التقدم، أو حتى التراجع، فإن هذا يرقى إلى الفشل.

ومع ذلك، فإن أهداف بوتين الرئيسية في هذه الحرب لم تكن أبدا الحصول على أجزاء من الأرض. فهو يريد تدمير أوكرانيا في ما يسميه مشروعا “مناهضا لروسيا” ومنع الغرب من استخدام الأراضي الأوكرانية كرأس جسر للأنشطة الجيوسياسية المناهضة لبلاده.

نتيجة لذلك، لا ترى روسيا نفسها على أنها فاشلة. ولن تنضم أوكرانيا إلى الناتو ولن تكون قادرة على الوجود السلمي دون النظر في المطالب الروسية بشأن الترويس (أو “نزع النازية” في الدعاية الروسية) و”نزع السلاح” مما يعني وقف أي تعاون عسكري مع الناتو. وتحتاج روسيا إلى الحفاظ على وجودها العسكري على الأراضي الأوكرانية ومواصلة مهاجمة البنية التحتية الأوكرانية لمتابعة هذه الأهداف. وليست هناك حاجة إلى تحقيق مكاسب إقليمية كبيرة ولا الاستيلاء على كييف حتى لو كان بوتين يحلم بها في البداية.

ويبقى ضم منطقتي لوهانسك ودونيتسك الذي تعتبره موسكو مجرد مسألة وقت، هدفا محليا إضافيا لجعل أوكرانيا تدفع ثمن الخيارات الجيوسياسية غير الصحيحة الموالية للغرب على مدى العقدين الماضيين.

أما الافتراض الثاني، فيذهب إلى أن الغرب يجب أن يجد طريقة لمساعدة بوتين في حفظ ماء الوجه، وبالتالي تقليل مخاطر المزيد من التصعيد، وربما استعمال النووي.

تخيل أن أوكرانيا تقبل بمعظم مطالب روسيا وتعترف بشبه جزيرة القرم على أنها روسية وأن دونباس مستقلة، وتلتزم بجيش أقل حجما، وتتعهد بعدم الانضمام إلى الناتو أبدا. هل سينهي ذلك الصراع؟

حتى لو بدا للكثيرين أن الإجابة هي “نعم”، فهم مخطئون. فقد تخوض روسيا معركة مع أوكرانيا، لكنها ترى من الناحية الجيوسياسية أنها تشن حربا ضد الغرب على الأراضي الأوكرانية. ويُنظر إلى أوكرانيا في الكرملين على أنها سلاح مناهض لروسيا في أيدي الغرب ولن يؤدي تدميرها تلقائيا إلى انتصار روسيا في هذه اللعبة الجيوسياسية المعادية للغرب.

لذلك، مهما كانت التنازلات التي يمكن أن تقدمها أوكرانيا، فإن بوتين سيواصل تصعيد الحرب حتى يغير الغرب مقاربته لما يسمى بالمشكلة الروسية ويعترف بأنّ جذور العدوان الروسي تعود إلى تجاهل واشنطن للمخاوف الجيوسياسية الروسية لمدة 30 عاما. وكان هذا هدف بوتين الحقيقي لفترة طويلة ولم يتغير. وينظر الغرب اليوم إلى المشكلة من منظور خاطئ. فهو يركز في سعيه لوقف الحرب على ذرائع موسكو المصطنعة لغزوها لأوكرانيا ويتغاضى عن هوس بوتين بما يسمى بالتهديد الغربي واستعداده للتصعيد لإجبار الحوار بشروط روسية. وليست أوكرانيا سوى رهينة.

ويتمثل الافتراض الثالث في أن بوتين لا يخسر عسكريا فقط، بل يخسر محليا أيضا، وقد يجعله الوضع السياسي في روسيا يواجه انقلابا قريبا.

لكن ستانوفايا تقول في تقرير لمجلة “فورين بوليسي” الأميركية إن العكس هو الصحيح في الوقت الحالي، حيث أصبحت النخبة الروسية قلقة للغاية بشأن تجنب الاحتجاجات وكيفية ضمان الاستقرار السياسي الذي توطد حول بوتين باعتباره الزعيم الوحيد القادر على تعزيز النظام السياسي ومنع الفوضى.

وتبقى النخبة عاجزة سياسيا وخائفة وضعيفة، بما في ذلك أولئك الذين يصورهم الإعلام الغربي على أنهم دعاة حرب وصقور. وتعتبر اتخاذ خطوة ضد بوتين اليوم بمثابة انتحار ما لم يبدأ بوتين في فقدان قدرته على الحكم (جسديا أو عقليا).

ويأتي التهديد الرئيسي لبوتين منه هو نفسه. وعلى الرغم من أن الزمن قد يكون يعمل ضده فإن استيقاظ النخبة قد يستغرق وقتا أطول بكثير مما يتوقعه الكثير من المحللين. وسيعتمد ذلك على مدى استمرار حضور بوتين اليومي في الحكم.

أما الافتراض الرابع، فيرجح خوف بوتين من الاحتجاجات المناهضة للحرب.

وتكمن الحقيقة في أن بوتين يبقى أكثر خوفا من الاحتجاجات المؤيدة للحرب وعليه أن يأخذ في الحسبان رغبة العديد من الروس في رؤية تدمير من يسمونهم النازيين الأوكرانيين. ويمكن للمزاج العام أن يدفع إلى التصعيد، مما يدفع بوتين إلى أن يكون أكثر تشددا وحزما، حتى لو كان ذلك نتيجة لدعاية الكرملين نفسه. ويعدّ هذا مهما للغاية، حيث أذكى بوتين نزعة القومية وأصبح يعتمد عليها أكثر فأكثر.

ضم منطقتي لوهانسك ودونيتسك الذي تعتبره موسكو مجرد مسألة وقت يبقى هدفا أساسيا لجعل أوكرانيا تدفع ثمن الخيارات الجيوسياسية غير الصحيحة

أما الافتراض الخامس فيتعلق بإصابة بوتين بخيبة أمل شديدة من المحيطين به وإلقاء الضوء على الملاحقة الجنائية لكبار المسؤولين.

ونوقشت هذه القضية بشكل مكثف في الغرب. وجاء ذلك من التكهنات حول اعتقال نائب رئيس الأركان السابق فلاديسلاف سوركوف وضابط الأمن الكبير المسؤول عن أوكرانيا سيرغي بيسيدا، وعمليات التطهير في الدائرة المقربة من بوتين.

وتؤكد الباحثة أنه يجب النظر إلى كل هذه الشائعات باحتراز شديد حيث لم يتأكّد أي منها. كما أنه من المحتمل أن يكون بوتين مستاء من مساعديه، لكنه لا يطهر دائرته الداخلية ما لم يرتكب أحد جرائم خطيرة.

ويعني كل هذا أن المعضلة الغربية مضللة في الأساس. ولا يمكن أن تؤدّي سوى إلى نتيجتين محتملتين. فإما أن يغير الغرب توجهه بشأن روسيا ويبدأ في أخذ المخاوف الروسية التي أدت إلى هذه الحرب على محمل الجد، أو ينهار نظام بوتين وتراجع روسيا طموحاتها الجيوسياسية.

ويبدو أن كلّا من روسيا والغرب يعتقد أن نظيره محكوم عليه بالفشل وأن الوقت في صالحه هو. ويحلم بوتين بمعاناة الغرب من الاضطرابات السياسية، في حين يحلم الغرب بإبعاد بوتين أو الإطاحة به أو وفاته.

وفي النهاية، تقول ستانوفايا إن التوصل إلى اتفاق بين روسيا وأوكرانيا ممكن فقط باعتباره امتدادا لاتفاق بين روسيا والغرب أو نتيجة لانهيار نظام بوتين. وهذا ما قد يشير إلى المدة التي يمكن أن تستمر فيها الحرب: سنوات، في أحسن الأحوال.

العرب