تضع الأزمات التي تشهدها علاقات فرنسا مع دول مثل مالي سياسة باريس تجاه القارة السمراء تحت المجهر، حيث تواجه تلك السياسة اختبار صمودها وفعاليتها خاصة في ظل المنافسة المحمومة مع قوى دولية أخرى تسللت إلى أفريقيا على غرار الصين وروسيا.
واشنطن – يثير التوتر الدبلوماسي الذي لم يهدأ بعد بين مالي وفرنسا تساؤلات عن مدى فعالية وصمود سياسات باريس تجاه القارة السمراء وخاصة دول منطقة الساحل والصحراء التي ترزح تحت وطأة الإرهاب وغيرها من المشكلات.
ورغم أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي أُعيد انتخابه لعهدة رئاسية جديدة، قد قام بخطوات كانت تستهدف ترميم العلاقة بين فرنسا ومستعمراتها السابقة في أفريقيا إلا أن العلاقة يبدو أنها تتجه إلى المزيد من التوتر.
فشل ماكرون
محاولات تعميق العلاقات الاقتصادية والأمنية بين فرنسا وأفريقيا بطرق أكثر إنصافا لم تحقق التوقعات المنتظرة
رغم خطوات الرئيس ماكرون التي استهدفت تدشين جسور تواصل جديدة وتحقيق المصالحة مع الدول الأفريقية خاصة في ما يتعلق بملفات الذاكرة المرتبطة بالاستعمار إلا أن جهوده لم تُكلل بالنجاح على ما يبدو.
وقال الباحث في إدارة السياسة والعلاقات الدولية بجامعة أوكسفورد كورنتين كوهين في دراسة نشرها معهد كارنيغي للسلام الدولي إنه “رغم سعي ماكرون منذ بداية توليه منصبه لتحقيق تواصل بين فرنسا وأفريقيا على قدم المساواة ما زالت رؤيته الخاصة بالمساعدات والشراكات المتبادلة بين فرنسا والدول الأفريقية لم يكتب لها النجاح”.
وتابع كوهين المهتم بالاقتصاديات السياسية لغرب ووسط أفريقيا وأميركا اللاتينية أن “ماكرون حاول في فترة رئاسته الأولى إحياء تواصل بلاده الدبلوماسي مع الدول في أنحاء أفريقيا، وكان هدف بعض أوجه هذا المحور القيام بصورة أكثر مباشرة بمعالجة ما خلفه الاستعمار الفرنسي في الدول الناطقة بالفرنسية”.
ونجحت قوى إقليمية بارزة في التسلل إلى أفريقيا وترسيخ نفوذها على غرار الصين ما خلق تنافسا دوليا قويا بين مجموعة من القوى الأخرى في أوروبا وغيرها على أفريقيا، ما بات يهدد النفوذ التقليدي لباريس في القارة.
ويقول كوهين إن ماكرون باتباعه لهذه الاستراتيجية سعى لتعزيز رؤية دبلوماسية فرنسية مع أفريقيا من خلال المزيد من المساعدات والمزيد من العلاقات القوية بين الشعبين الفرنسي والأفريقي على أساس روح من الشراكات بين أنداد.
ورغم أن جهود ماكرون خلقت فرصة لعلاقات متجددة، لم يكن هذا المحور سلسا كما كان يأمل، فالقصور البيروقراطي والتعقيدات في دوائر السياسة الخارجية أدت أحيانا إلى تباطؤ تحقيق هذه السياسات.
وفي بعض الحالات، بدا أن مناشدات ماكرون القومية أثناء حملته الانتخابية الأخيرة تُضعف محاولاته لإدخال تعديلات على تاريخ فرنسا الاستعماري المقلق.
من ناحية أخرى، لم تحقق محاولات الرئيس الفرنسي لتعميق العلاقات الاقتصادية والأمنية بين الشعبين الفرنسي والأفريقي بطرق أكثر إنصافا التوقعات المنتظرة، مما يدل على صعوبة توقع التخلي عن الممارسات السابقة.
ويرى كوهين أنه من أجل الحفاظ على زخم طموحات ماكرون بالنسبة إلى علاقات فرنسا مع الدول الأفريقية، يتعين عليه وعلى فريقه إلقاء نظرة جادة على ما تم إنجازه بشكل جيد وعلى ما يمكن تحسينه.
وأعاد كوهين، الحاصل على الدكتوراه في العلوم السياسية والعلاقات الدولية من معهد الدراسات السياسية بباريس الذي يلقي فيه إلى جانب جامعة السوربون محاضرات عن العلاقات الدولية والسياسات الأفريقية، إلى الأذهان ما قام به الرئيس الفرنسي أثناء جولة دبلوماسية في أفريقيا في نوفمبر خلال فترة رئاسته الأولى.
فقد وجه رسالة مفاجئة لطلبة الجامعة في واغادوغو ببوركينا فاسو. فبدلا من إعلانه أنه سوف يطوي صفحة سياسة فرنسا بالنسبة إلى أفريقيا، كما فعل معظم رؤساء فرنسا قبله، قال إنه لا توجد صفحة يتم طيها.
وأضاف أن هناك عهدا جديدا للعلاقات بين فرنسا وأفريقيا قد بدأ وأن هناك حاجة لأن يعيد الطرفان تحقيق علاقاتهما السياسية، والاعتراف بتاريخهما المشترك.
وأشار كوهين إلى أن من بين العقبات التي حالت دون تحقيق ما كان يصبو إليه ماكرون فشل السياسة الأمنية الفرنسية في منطقة الساحل التي يتولى أمرها الجيش في وضع طرق فعالة للقضاء على التطرف أو التكيف مع التحولات الاجتماعية والسياسية في المنطقة.
ويرى كوهين أنه سوف يتعين على ماكرون الاستفادة من القيود السابقة التي تعرضت لها السياسة الفرنسية في أفريقيا، كما أنه يمكنه الاستفادة من رئاسة فرنسا لمجلس الاتحاد الأوروبي والتي تنتهي في الثلاثين من يونيو الجاري في إمكانية إقامة شراكات سياسية طويلة الأمد بين فرنسا والدول الأوروبية الأخرى من جهة، وبين الدول والمجتمعات الأفريقية من جهة أخرى.
ويمكن لفرنسا مع شركائها الأوروبيين الوفاء بوعودهم بإعادة صياغة الرأسمالية. ويمكن لفرنسا مساعدة الدول الأفريقية على محاولة تعزيز إمكانياتها النقدية. وبالإضافة إلى توسيع نطاق الاستثمارات والمساعدات يمكن لباريس دعم حوار نزيه عن دور الفساد والتهرب الضريبي الذي يحرم الدول الأفريقية من 50 إلى 80 مليار دولار من العائدات كل عام.
وكان ماكرون قد وعد بأن لقاحات كوفيد – 19 ستكون رمزا لشراكة جديدة بين أوروبا وأفريقيا، ولم يتحقق ذلك. ومع ذلك يمكن أن يكون الوصول إلى السلع، وزيادة المساعدات الصحية مجالات رئيسية لاستمرار التعاون.
وفي ما يتعلق بالعلاقات بين الشعبين الفرنسي والأفريقي، فإنه في ضوء ماضي فرنسا الاستعماري وكشكل من أشكال التعويض الاستشرافي، يمكن لفرنسا إتاحة الفرصة لشباب ومواطني المستعمرات السابقة الالتحاق بنظام التعليم العالي الفرنسي بنفس الشروط المالية التي يتمتع بها المواطنون الفرنسيون والأوروبيون.
كما يمكن أن تشجع فرنسا الدول الاستعمارية السابقة الأخرى في الاتحاد الأوروبي على أن تفعل نفس الشيء بهدف تطوير الشراكات في أنحاء القارة لإرسال الطلاب للدراسة والعمل في أفريقيا.
ويقول كوهين في دراسته إن “فترة رئاسة ماكرون الثانية فرصة مناسبة لإعادة تصور تواصل فرنسا الدبلوماسي مع الدول الأفريقية. ورغم أن ماكرون أظهر رغبة واضحة في تعويض أخطاء الماضي، ما تزال بعض أوجه طموحات سياسته غارقة في أساليب عفا عليها الزمن في التعامل والتواصل”.
وأكد أنه “من ثم فإن تحديد الأساليب التي نجحت والأخرى التي لم تنجح خطوة أساسية نحو ضمان تعزيز فرنسا لنفوذها القوي لتحقيق شراكات على قدم المساواة ومكاسب متبادلة بالنسبة إلى الدول الأفريقية”.
العرب