هل يمكن فهم ما جرى لطائرة الركاب الروسية التي سقطت فوق سيناء واستيعاب الدلالات الحقيقية لهذا الحادث، بمعزل عن الصراعات المحلية والدولية والإقليمية المشتعلة الآن في المنطقة وعليها؟ هذا سؤال مشروع تماماً، غير أن الإجابة عنه تتطلب استرجاع شريط الأحداث قبل أن نحاول البحث في دلالاتها.
ففي صباح يوم 31 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، أقلعت من مطار مدينة شرم الشيخ المصرية طائرة ركاب من طراز «إير باص 321» تملكها شركة «متروجيت» الروسية، متوجهة إلى مدينة سان بطرسبورغ، وكان على متنها 217 راكباً، جميعهم تقريباً من السياح الروس والأوكرانيين، إضافة إلى 7 آخرين هم أفراد طاقم الطائرة التي اختفت من على شاشات الرادار بعد 27 دقيقة من إقلاعها، ثم أعلن لاحقاً عن سقوطها فوق شبه جزيرة سيناء، وتم العثور على حطامها متناثراً على مساحة 13 كلم مربعاً وتبين لاحقاً أن جميع ركابها بمن فيهم طاقمها لقوا حتفهم، كما تم العثور على الصندوقين الأسودين وبدأت على الفور عملية فحصهما فنياً، وعلى معظم أشلاء الركاب التي وصلت بالفعل إلى أسرهم المنكوبة.
لا يحتاج المرء إلى التوقف كثيراً أمام كارثة يدرك الجميع أنها تشكل مأساة إنسانية مؤلمة، تترتب عليها تبعات مادية ومعنوية ثقيلة بالنسبة إلى أطراف عدة. غير أن الحاجة تصبح ماسة لتحديد حقيقة ما حدث للطائرة، وما إذا كان سقوطها ناجماً عن عُطل فني أم خطأ بشري أم عمل إرهابي، وتلك مسؤولية كبرى تتطلب توخي أقصى درجات الدقة والانضباط والأمانة العلمية والأخلاقية لأن النتائج المترتبة على تحديد المسؤول عن تلك الكارثة ثقيلة، وبالتالي لا تحتمل أي نوع من العبث أو المناورة. فإذا ثبت بالدليل القاطع أنه حادث إرهابي، يتعين حتماً تحديد الفاعل الحقيقي لهذه الجريمة بدقة لا تقبل اللبس أو التشكيك، وما إذا كان قد قام بها منفرداً أو بمشاركة آخرين، والكشف في الوقت نفسه عن أهدافه ودوافعه بكل وضوح وشفافية.
كان من الطبيعي أن يهتم العالم كله بكارثة من هذا الحجم وأن تتصدر أخبارها نشرات وكالات الأنباء العالمية على مدار الساعة، خصوصاً أنه لم تكد تمر ساعات على وقوع الحادث حتى أعلن تنظيم «داعش» مسؤوليته عنه، وبرره بالقصاص من روسيا، كما أعلن اعتزامه الكشف في الوقت المناسب عن الوسيلة التي استخدمت لإسقاط الطائرة. ولأنه سبق لمنظمات إرهابية كثيرة أن نسبت لنفسها أعمالاً تبيَّن فيما بعد أنها لم ترتكبها، إمعاناً في التضليل أو رغبة في رسم صورة مبالغ فيها عن قوتها، لم يتم التعامل في البداية مع بيان «داعش» كقرينة أو كدليل دامغ على وقوع عمل إرهابي، لكنه ظل مع ذلك واحداً من احتمالات كثيرة يصعب الجزم بصحة أي منها قبل إتمام الفحص الفني، وهي مسألة تستغرق شهوراً.
بعد أيام معدودة من وقوع الحادث، كان الرئيس عبدالفتاح السيسي قد غادر القاهرة متوجهاً إلى لندن، ولم تكن طائرته قد لامست أرض المطار بعد، حين راحت وسائل الإعلام العالمية تتناقل خبراً مفاده أن رئيس الوزراء البريطاني قرر إيقاف رحلات الطيران المتجهة إلى شرم الشيخ على أثر إبلاغه بمعلومات استخباراتية تشير إلى أن إسقاط الطائرة الروسية تمَّ بقنبلة تمكن تنظيم «داعش» من زرعها بمعاونة آخرين في مطار شرم الشيخ، وما هي إلا ساعات حتى كانت وسائل الإعلام الغربية تتبارى في نقل أكثر المعلومات المتاحة إثارة. فها هي صحيفة «صنداي تايمز» البريطانية تنقل خبراً مفاده أن «أبو أسامة المصري»، زعيم «أنصار بيت المقدس»، هو العقل المدبر لهذا الحادث البشع، وأن مسؤولين بريطانيين أبدوا استعدادهم لإرسال قوات خاصة إلى شبه جزيرة سيناء للمساعدة في قتله أو اعتقاله. ولإضفاء جو أكثر غموضاً، أشارت الصحيفة إلى أن هؤلاء المسؤولين ظلوا منهمكين بالتحقيق في احتمال تورط عناصر بريطانية متضامنة مع «داعش» بعد أن رصدت أجهزة الاستخبارات اتصالات إلكترونية بين متطرفين يتبادلون التهاني بلهجة مدينتي لندن وبرمنغهام!
كان من الطبيعي، في سياق كهذا، أن تغطي أخبار الطائرة المنكوبة وتوابعها على الأخبار المتعلقة بزيارة الرئيس المصري إلى بريطانيا.
وأخذت تفاعلات الحدث شكل محاولات لإلحاق ضرر متعمد باقتصاد الدولة المصرية المأزوم. فبينما راحت وكالات الأنباء تركز على الأخبار المتعلقة بنقل آلاف السياح البريطانيين من شرم الشيخ، إذا بالرئيس الروسي بوتين يقرر وقف رحلات الطيران المتجهة إلى مصر كلها، وليس إلى شرم الشيخ فقط، ويقوم بسحب جميع السياح الروس بدوره، لتتحول كارثة الطائرة المنكوبة إلى أزمة سياسية واقتصادية كبرى بالنسبة إلى مصر.
لم يكن سقوط الطائرة الروسية فوق سيناء أول كارثة يشهدها الطيران في العالم ولن يكون الأخير. وحتى إذا ثبت بالدليل القاطع أن الحادث جاء نتيجة عمل تخريبي متعمد نجم عن زرع قنبلة داخل الطائرة، وهو احتمال غير مستبعد لكنه لم يتأكد قطعياً بعد، فلن يكون أول حادث إرهابي يتعرض له الطيران المدني ولن يكون الأخير. فحادث إسقاط طائرة «بان أميركان» فوق مدينة لوكربي الاسكتلندية ما زال ماثلاً في الأذهان ويكاد يكون صورة طبق الأصل عن حادث الطائرة الروسية التي سقطت فوق سيناء منذ أيام، ومع ذلك اختلفت ردود الأفعال الدولية في الحالتين تماماً، باستثناء المطار الذي زرعت فيه القنبلة، حيث كان الأول أوروبياً، أما الثاني فكان مصرياً. ولأن المقام لا يتسع هنا للدخول في تفاصيل المقارنة، أكتفي بالقول إن الاستخبارات الغربية استغرقت حوالى سنتين قبل أن تتمكن من العثور على ما يكفي من أدلة لتوجيه الاتهام إلى استخبارات القذافي التي ثبت فيما بعد تورطها في الحادث الذي لم يترتب عليه أي تقييد لحركة الطيران أو إعادة جماعية للسياح!
ليس مستبعداً تورط «داعش» في زرع قنبلة على الطائرة الروسية، ولكن لماذا يستهدف «داعش» روسيا التي لم تتدخل عسكرياً في الأزمة السورية إلا منذ شهرين فقط ويتصرف وكأنه حليف للولايات المتحدة التي أعلنت الحرب عليه، ومعها 60 من حلفائها، منذ أكثر من عام؟ أليس من المحتمل جداً أن تكون أجهزة استخبارات تابعة لدول معادية للتدخل الروسي ولها مصلحة في الوقت نفسه في خلق أزمة بين روسيا ومصر قد تطورت بمساعدة من «داعش» أو من دون مساعدة؟ ألا يستحق هذا الاحتمال أن يبحث بمنتهى الجدية بعيداً من أي اتهامات سابقة التجهيز بتغليب عقلية المؤامرة؟
توجد أوساط عديدة في الداخل والخارج تبدو سعيدة بما جرى، لكن غالبية الشعب المصري سوف تُستنفر ضد الحصار الغربي، اعتقاداً منها أنه يستهدف مصر الدولة وليس النظام، ولذلك فمن الأرجح أن يلتف الشعب حول حاكمه في هذه المحنة.
أما تصرفات بوتين خلال الأزمة، فربما يرى فيها البعض لغزاً يحتاج إلى تفسير، لكن تلك قضية أخرى قد تحتاج إلى مقال آخر لمناقشتها.
حسن نافعة
صحيفة الحياة اللندنية