السياسي العراقي القديم والجديد معا، لم يعرفا ولا تعرّفا يوما على معنى السياسة كممارسة سياسية حديثة. والقلّة الشاذة عن هذه القاعدة كانوا دوما من بين ضحايانا. الأحياء منهم والأموات. كانوا قلّة لا تكفي ولا تقوى على المواجهة في أزمنة الأوبئة والإجتياحات الكبرى. لكنّ لكلّ عصر أبطاله ومجانينه. الشجاعة هي نوع من التهوّر. وتعطيل ارادي للتفكير في لحظة. الآمال كانت دائما بعيدة ونائية وبطيئة الحركة في أرض الرسل والأنبياء وكهنة المعابد البابلية القديمة. أرض الرافدين قد دُنّست على مدى تاريخها الغابر، وسنابك خيل الغزاة عبثت بها مرّات، لكنّها بقيت واستمرّت كإسم وكإنتماء وكحضارة تعرفها وتعترف بها الحضارات القديمة والحديثة. الجنون ومعاقبة الذات هما مستلزمات الإدمان على الهزيمة والتعايش معها بذلّ. هل ثمّة زاوية باقية للعقل؟. آخر عصفور لا زال يزقزق في ثناياه كل صباح. لكنّ عقل السياسي عندنا هو في بطنه التي لا تشبع من أكل لحم أخيه ميتا أو حيّا. العقل السياسي لا يحبّ العصافير إلّا في الأقفاص. الحرّية تربكه.
الدنس كان يتسرب من الجبروت الكاذب لطغاتنا ومستبّدينا وما أكثرهم من المهد الى اللحد. من أوهامنا حولهم. من فوق لتحت. ثمّ بات يتسرّب بالعكس منذ أن بنينا للوهم بيتا وأقام بيننا. منذ متى؟. لم يعد ذلك مهمّا الآن. لقد كان في نفوس حكّامنا دوما شيء من ضغائننا ومن بارودنا المحلّي الكامن وشيء آخر من الكبريت المستورد غير الأمين. يجلبوه معهم مستترا في أرواحهم وجيوبهم وحقائبهم الدبلوماسية وفي أرصدتهم المالية ثمن بيع الروح للشيطان. “فاوست” لم يرسم لنا سوى صورة أولية لهذه المبايعة. فالصفقة قد تغيرت والشيطان والبائع أيضا.
هذا ما كان يحصل وما زال يحصل. شيء يتوحّد مع نفسه أو مع مثيله الأقرب بإستمرار وبتردّدات متناقضة وغامضة لا علاج لها لحدّ الآن. اضطراب شديد أو خفيف في وظائف الدماغ. يشبه الخبل ولكنه ليس كذلك. مقطوع عن المحيط غالبا. وله ردود افعال سريعة وسلبية.
التوحّد يشبه الهيستيريا أحيانا وله أعراض أخرى شبيهة بأعراض إزدواج الشخصية المرضي. أكثر أوجه الشبه مع ساستنا الأفاضل هو في التمسّك بالذات والتمحّور حولها. الدوران بإيقاعات وحركات وإيماءات روتينية ومتكررة. السياسي يدّعي بأنّه يرى ما لا يرى. على الأقل هو يرى ما تراه أنت بالمقلوب. ما هو أبعد من مدى الرؤية. لإيهام النفس وخداع الآخرين. أعراض شبيهة بالهلوسة البصرية. معاكسة الماضي والحاضر والمستقبل. الزمن غائب. التدمير بهدف البناء. إنّها لعبة المصالح الأنانية المتوحّدة مع نفسها أيّها العراقي البائس والمغلوب على أمرك. أبن الطوائف والصرائف والمناحات التاريخية الطويلة. أنت تراها فقط، لطما ودروشة وعقابا وأرثا من الثأر والإنتقام العابرين للعصور بلا توقّف ولا مراجعة. وهناك من يراها فرصته السانحة للثراء الفاحش في مزاد الدماء المفتوح حيث الضحايا وجلّاديهم يصرخون معا بصوت واحد نصفه مسروق ونصفه غائب عن الوعي.
في هذه الحفلة التنكرية التي تقيمها المنطقة الخضراء منذ 2003 بإعتبارها عاصمة السياسة ومقرّ الأسرار والعقارات والصفقات والمناورات والأحضان الدافئة والقريبة من السفارات الأجنبية، تكاد الأقنعة أن تلتصق بالوجوه. لا وجوه بدونها. الوجه والقناع قد توحّدا. الكذب له عدّة وجوه مدرّبة لسنوات طويلة ولكنّها تفقد كلّ ملامحها في لحظة السقوط والإنهيار. البلاهة وحدها هي كلّ ما سوف يتبقّى على وجوه مذعورة. هي بعض من أقدارنا وأوهامنا وشعاراتنا الغبيّة.
وغالبا ما يكسب الغبي رهانه في المعارك الصغيرة. وحتّى في المعارك الكبيرة أحيانا. ولكن ليس في الحروب الطويلة أبدا. الأمثلة كثيرة. السياسة العراقية الحاكمة لا يمكن وصفها الاّ بالبدائية. وعلى الأرجح بالشاذّة عن جميع القواعد العملية التي نعرفها ونفهمها.
ولكن هل هي أقدار مرسومة لنا سلفا بأن نعلي شأن الشواذ والبدائيين والجهلة؟.
وهل يمكن تغيير مسار الأمور بتدخّل من قبل البشر؟. الإجابة المنطقية هي: نعم بالطبع. وذلك بسيطرة مفاهيم الحقّ وسيادة القانون والعدالة الإجتماعية وبث الشعور بالمسؤولية بين الأفراد وإعلاء شأن القيم السياسية الحديثة التي تعاقب وتجرم وتخوّن التلاعب والتزوير والسرقة للمال العامّ. مال المجتمع ورأس مال وجوده وإستمراره. فهي تعني الصحة والتعليم والتنمية والخدمات التي تحوّلت الى أرصدة شخصية في البنوك الخارجية التي ستضيع آثارها يوما كما ضاعت غيرها من قبل.
أغلب ساستنا عاشوا في ظلال تلك المفاهيم ردحا طويلا من الزمن في بلدان اللجوء والمهجر دون التأثر بها ومحاكاتها وإستيعاب أبعادها الإنسانية العميقة إلّا شكليا. عند الحاجة وعند لزوم ما يلزم. عند تقويض الديموقراطية بالآليات الديمقراطية نفسها. الحاكمون منهم هذا اليوم في العراق هم ممّن كان يفضّل السراديب المظلمة على النور الكاشف للحضارة. يستلهم مثالبها القريبة لروحه ويترك جانبا صراحتها وإيمانها بالإنسان وبقدراته. أخذوا ما يناسبهم منها وما يرضيهم كذوات فردية وأنانية وتركوا تسامحها ومراجعتها الدائمة للأخطاء وتصحيحها للذات.
لذلك فإنّ ساستنا بحاجة للأقنعة والتوحّد معها لأنّهم أضاعوا “المشيتين”. الغربية والشرقية معا. هم كانوا دائما من ورثة اللونين الأبيض والأسود. القيم المادّية والأملاك الدنيوية غربا وتجارة الروحانيات شرقا. تبرير الدنس القديم متاح ومتوفر كما لم يكن من قبل. المخبأ السرّي للغرائز الفالتة لا مكان له على الخرائط ولا يمكن أن تستدلّ عليه البوصلات. لا مكان له سوى في أعماقهم المريضة فقط. المتّوحد غالبا ما يتبع غريزته. يتعلّم الأشياء ببطء شديد وبحكم قوّة العادة والتعوّد لا بأحكام العقل والمنطق الغائبين. تعلّق المتوحّد بلعبته المفضلة لا تشبه سوى تعلّق السياسي بالسلطة. الفارق الوحيد هو أنّ المتوحّد ليس لديه حسّ التملّك. المتوحّد نقي وبريء والسياسي ليس كذلك. فهو فاقد لكلّ شيء سوى التملّك. الأملاك أساس المُلك. صباح الخير أيتها العدالة.
العراق : السّياسي ومرض التوحّد
نقلا عن ايلاف