كان فك الارتباط الأمريكي بمجرى الأمور السياسية في العراق بعد انتخابات العام الماضي بمثابة سوء تقدير مكلف، ولكن لا يزال بإمكان واشنطن تحقيق أهدافها في العراق من خلال دفع السياسيين إلى تشكيل حكومة نزيهة وقادرة تكون مسؤولة أمام مواطنيها وتركّز على إنهاء عزلة البلاد بدلاً من التفضيلات السياسية الفردية.
قبل الاجتماع الأخير للرئيس بايدن مع رئيس وزراء العراق مصطفى الكاظمي في “قمة جدة للأمن والتنمية”، أشاد الرئيس الأمريكي بالعراقباعتباره “منصة للدبلوماسية” على الرغم من “الجمود السياسي” المستمر فيه. والرئيس محق في كلا الأمرين، فقد استضافت بغداد محادثات بين إيران والمملكة العربية السعودية حتى مع مواصلة كفاحها من أجل تشكيل حكومة بعد مرور ما يقرب من عام على انتخابات تشرين الأول/أكتوبر 2021. ومع ذلك، يغفل هذا التوصيف دور واشنطن في الأزمة السياسية، أي فشلها في تعزيز حكومة متعددة الطوائف والأعراق تحمي سيادة العراق، وتُوجّه البلاد بعيداً عن فلك إيران، وتحافظ على المصالح الأساسية في مجالَي الطاقة والأمن.
من التفاؤل الانتخابي إلى عدم الانخراط
لا ينبغي التقليل من شأن الإنجازات السابقة التي حققتها إدارة بايدن في العراق. أولاً، لم يعد العراق مسرحاً رئيسياً للتنفيس عن التوترات الأمريكية الإيرانية (على الرغم من أن طهران قد تعتبر ذلك مجرد توقف تكتيكي). علاوةً على ذلك، عملت الإدارة الأمريكية مع شركاء مختلفين ومع “بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق” (“يونامي”) ذات الصلاحية، من أجل مساعدة بغداد على الوفاء بوعدها بالمضي قدماً في إجراء انتخابات مبكرة – وهو التعهُّد الذي قطعته حكومة تصريف الأعمال برئاسة الكاظمي في أعقاب احتجاجات عام 2019 التي أرغمت حكومة سلفه التي كانت تخضع لتأثير المليشيات على الاستقالة. وضاعفت عملية التصويت التي جرت في تشرين الأول/أكتوبر الماضي من هزيمة الميليشيات المدعومة من إيران، والتي تعمل تحت قشرة رقيقة من الهيكلية الحزبية.
ولكن بدلاً من المضي قدماً في هذا التصحيح المرحب به في المسار، انسحبت إدارة بايدن بعد الانتخابات. واليوم، لا يزال يتعين على الأحزاب العراقية تشكيل حكومة جديدة، [بينما] تتعارض الاتجاهات الحالية مع أهداف الولايات المتحدة. ولا يزال الحُكم المتعدد الطوائف قائماً، ولكن الانقسامات العميقة داخل الأحزاب الشيعية والكردية والسنية وبين هذه الأحزاب نفسها، تطغى على هذا الحُكم بشكل متزايد. وفي حين يتنافس السياسيون على السلطة، لا يزال الشعب العراقي يعاني من عواقب الفساد المستمر وسوء الخدمات.
وكان السياسي الرئيسي على الحلبة منذ تشرين الأول/أكتوبر هو الزعيم الشيعي المتقلب المواقف مقتدى الصدر، الذي تَمكّنَ من الفوز بالأكثرية بسبب مزيجٍ من اللامبالاة من قبل الناخبين التي أدت إلى إقبال ضعيف على التصويت، وتقسيم أصوات المزيد من الفصائل الليبرالية من خلال تنافس مرشحيها ضد بعضهم البعض في نفس الدوائر الانتخابية. ونظراً لافتقار الصدر إلى الشهامة المطلوبة في النصر، فسرعان ما أخاف منافسيه وأعطاهم سبباً للاتحاد ضده. وأصبح “الإطار التنسيقي” الناتج بقيادة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي يشكل مجموعةً مظلة للأحزاب الشيعية التي عارضت هيمنة الصدر. ومع ذلك، اعتقد عدد من المراقبين الأمريكيين أنه مع قيام الشركاء المناسبين من الأكراد والسنة بتخفيف دوافعه الشعبوية، لا يزال بإمكان الصدر منح العراقيين فرصة جادة في تشكيل حكومة جديدة أكثر قابلية للمساءلة أمامهم من مساءلتها أمام طهران.
وتحقيقاً لهذه الغاية، برزت الحاجة إلى مزيد من الدفع والتوجيه من واشنطن، التي وَضعت جانباً العلاقة العدائية السابقة تجاه الصدر ورحّبت بهدوءٍ بانتصاره. إلا أن إدارة بايدن كانت تخشى أن يُنظر إليها على أنها تتدخل في عملية تشكيل الحكومة، فاعتمدت بالتالي على كفاءة الجهات الفاعلة العراقية، التي سرعان ما عادت الكثير منها إلى اعتماد سياسات قصيرة النظر تخدم مصالحها الذاتية. لقد ولّت الأيام التي كانت تقوم فيها واشنطن بإدارة المساومات بشكل دقيق في أعقاب الانتخابات العراقية. ولكن عندما تغاضت إدارة بايدن عنها، كررت خطأً أمريكياً شائعاً في العراق وهو: التقليل من شأن نفوذها وترك المجال مفتوحاً أمام الجهات الفاعلة التي لا تشاركها رؤيتها. ويُظهر إهمال الولايات المتحدة [لمجرى التطورات السياسية في العراق] في العام الماضي كيف خرجت الأمور عن مسارها وكيف أصبح أصدقاء واشنطن في العراق جزءاً من المشكلة.
المأزق السياسي
كان أحد الأخطاء الرئيسية في حسابات البيت الأبيض هو وضع القليل من الضغط على الكاظمي للتخلص من الفساد وعَكْس السياسات غير المستدامة التي تُضخمّ القطاع العام وتعيق التنوع الاقتصادي. فحالما بدأ الكاظمي يطمح بولاية ثانية، سعى إلى الحفاظ على الوضع الراهن لتجنب استعداء الكتل السياسية الخبيثة التي كان بحاجة إلى دعمها. ونتيجة لذلك، أصبحت الميليشيات التي قتلت آلاف المتظاهرين وشوّهتهم أكثر قوة اليوم، وتُواصل مهاجمة البنية التحتية الخاصة بالحكومة والطاقة. كما تصاعدت الهجمات المباشرة من قبل إيران وتركيا. وبسبب عجز الدولة العراقية عن مواجهة الميليشيات أو إجراء إصلاحات، ازداد ضعفها في عهد الكاظمي.
وقد تعثّرت الأحزاب العربية السنية أيضاً. ففي وقتٍ مبكرٍ عملت معاً بمساعدة تركيا، ونجحت في الضغط لكي يصبح محمد الحلبوسي رئيساً للبرلمان. ولكن حالما ضمن الحلبوسي منصبه، لم يرَ حافزاً كبيراً لدفع الفصائل الشيعية والكردية على اختيار رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء المقبلَين.
ورئيس الجمهورية كردي وفقاً للأعراف، إلّا أن الحزبين الكرديين الرئيسيين لم يتفقا بعد على مرشح. وبدلاً من أن يتحدا لزيادة نفوذهما فيما يتعلق بحقوق الطاقة الوطنية والعائدات والأمن، انقسما بين المعسكرين الشيعيين المتعارضين – فقد وقف زعيم «الحزب الديمقراطي الكردستاني» مسعود بارزاني إلى جانب الصدر على أمل تجريد منصب الرئاسة من منافسه برهم صالح. وعلى الرغم من أن إعادة توحيد الأكراد لن تكون كافية لرأب الصدوع العميقة في بغداد، إلا أن الخلاف بينهم جعلهم يواجهون المأزق السياسي. ومع ذلك، فشلت واشنطن في استخدام نفوذها الملحوظ معهم، والذي يشمل تقديم مساعدات سنوية مباشرة تبلغ 240 مليون دولار.
وبينما تعثّر الصدر بعد الانتخابات، أعاد خصومه رص صفوفهم وتحديد أهدافهم. فمن خلال نشر شبكة نفوذهم داخل الدولة، بدأوا بتحويل مركز السلطة، ودفعوا بـ”المحكمة الاتحادية العليا” الخاملة منذ فترة طويلة إلى إصدار سلسلة من الأحكام الحاسمة – وعلى الأخص، منح الأقليات في مجلس النواب حق النقض (“الفيتو”) على اختيار رئيس الجمهورية وإلغاء الأساس القانوني لـ قطاع النفط والغاز في كردستان. كما منعوا حكومة تصريف الأعمال برئاسة الكاظمي من تمرير ميزانيات جديدة، مما مكّن الميليشيات في «قوات الحشد الشعبي» من الحفاظ على مكاسبها السنوية الحالية غير المتوقعة والبالغة 2.7 مليار دولار.
ورداً على ذلك، سحب الصدر كتلته البرلمانية وتخلى عن شركائه السياسيين السنة والأكراد. وفي 27 تموز/يوليو، جعل أنصاره يقتحمون البرلمان ويحتلونه ويدعون إلى الثورة، محذراً من قدرته على تأدية دور المفسد أيضاً.
التداعيات السياسية
نظراً لتقاعس الولايات المتحدة جزئياً عن اتخاذ أي إجراء، تَمكّن الخاسرون في انتخابات العام الماضي من إبطال النتائج بشكل منهجي. وقد تؤدي اللعبة الجارية التي يخوضها الصدر لكسب السلطة في قاعات مجلس النواب إما إلى إطالة أمد المأزق السياسي أو حدوث نتائج عكسية، مما يمكّن “إطار التحالف” المنافس من المضي قدماً في تشكيل حكومته الخاصة بمساعدة شريكَيْ الصدر اللذين تخلى عنهما، أي البارزاني والحلبوسي.
لذلك فقد حان الوقت لانخراط واشنطن بشكل أكثر مباشرة بدلاً من اعتمادها حصراً على سفيرتها القديرة في بغداد. وبالإضافة إلى اعتماد إدارة بايدن بقوة أكبر على شركاء الولايات المتحدة وربما فتح مجالات التواصل مع الصدر، عليها التواصل مع الجهات الفاعلة الأخرى. وتستحق معظم عمليات التواصل أن يتم النظر فيها طالما أنها لا تضفي الشرعية على الميليشيات غير الخاضعة للمساءلة.
على سبيل المثال، لم يقدّم “الإطار التنسيقي” مرشحاً لرئاسة الوزراء الذي من الواضح لن يكون مقبولاً على واشنطن (على سبيل المثال، المالكي أو هادي العامري)، بل اختار بدلاً منهما محمد شياع السوداني، الذي هو وزير سابق مقرّب من المالكي ولكنه غير معروف بالفساد أو البلطجة. وإذا كان “الإطار” مستعداً لتشكيل الحكومة المقبلة، فقد يتمكن المسؤولون الأمريكيون من التأثير على سلوكه عبر الاستفادة من حاجته إلى الشرعية الدولية.
وفي سياقٍ متصل، على واشنطن دعم اقتراح رئيس «إقليم كردستان»نيجيرفان بارزاني باستضافة الفصائل الشيعية المتنافِسة لإجراء حوار في أربيل. ومن خلال تأييد صالح – كرئيس جمهورية للحكومة الاتحادية، وهو منصب يمكن أن يكون محورياً في أوقات الأزمات عندما تشوب جميع المؤسسات الأخرى عدم الثقة والحزبية – بإمكان الأكراد توحيد جبهتهم وتأدية دور معتدل فعال في بغداد.
وتشير هذه الاحتمالات إلى إدراك أوسع نطاقاً لسياسة الولايات المتحدة في العراق: فإعطاء الأولوية لأي سياسي فردي وتفضيله على النظام أمر محكوم عليه بالفشل. وقد عانت البلاد على السواء في ظل حُكم رؤساء وزراء عديمي الرحمة والفعالية، ويتخلى حالياً العديد من كبار عناصر الجهات الفاعلة في العراق عن مسؤولية الوظائف العامة لصالح التحكم بالأمور خارج الكواليس. فمنذ فترة غير طويلة، كانت الميليشيات تقصف منزل الكاظمي، لكنها استطاعت استمالته منذ الانتخابات من دون إطلاق أي رصاصة عليه. وسيكون من الحكمة أن تركّز واشنطن أكثر على مجرى الأمور، حتى في الوقت الذي تستتمر في مراقبة الجهات الفاعلة.
ويُنصَح بشكل خاص باتباع هذه المقاربة حالياً لأن مظالم المحتجين الذين ثاروا في عام 2019 لم تختفِ. وتحاول الفصائل العراقية المختلفة تشتيت انتباههم من خلال اتخاذها بعض الإجراءات مثل قوانين مكافحة التطبيع مع إسرائيل أو هجمات الميليشيات القومية على القوات التركية وشركات النفط الأجنبية، ولكنّ ذلك لن يبدد سخطهم الكامن. وإذا تفاقم مجدداً إحباط المحتجين من المشاكل الاقتصادية والبيئية في البلاد، فقد يستهدفون هذه المرة النظام بأكمله، وليس رئيس الوزراء فقط.
وبناءً على ذلك، يجب ألا تخجل واشنطن من الإعراب عن دعمها للشعب العراقي. ويبدأ النهج الأكثر نشاطاً من خلال دفع السياسيين إلى تشكيل حكومة نزيهة وقادرة تكون مسؤولة أمام مواطنيها وتركّز على إنهاء عزلة البلاد. وعلى وجه الخصوص، يجب تسريع الجهود المبذولة لربط العراق بدول «مجلس التعاون الخليجي»، بدءاً من الربط بشبكة الكهرباء ووصولاً إلى العلاقات المصرفية التي تساعد في الحد من غسيل الأموال وهروب رأس المال. وإذا كان للعراق أن يصبح مُصدّراً موثوقاً للنفطويطوّر إمدادات الغاز الطبيعي الخاصة به بدلاً من استيرادها من إيران، فمن الضروري أن يبدأ بجذب المستثمرين بدلاً من صدّهم. ولا يزال العراقيون يعتمدون على الولايات المتحدة لدفع ديمقراطيتهم الناشئة نحو الوظائف والازدهار والخدمات. وسبق أن أبدوا رأيهم في صناديق الاقتراع، وقد حان الوقت لأن تستجيب الولايات المتحدة لندائهم.
معهد واشنطن