يستوجب تصاعد خطر التنظيمات الجهادية الإرهابية، من حيث أعدادها وكيفية انتشارها، فهم تطورها من جماعات تحتمي بالجبال والصحاري والأماكن الوعرة، وتعتمد وسائل تقليدية لتجنيد أتباعها وتنفيذ عملياتها الإرهابية، إلى شبكات منظّمة عابرة للحدود، اخترقت الفضاءات الرقمية وسخّرت الشبكة العنكبوتية لنشر أفكارها وتجنيد أنصارها وجعلت من الإنترنت ملاذا لترسيخ وجودها في العالم الواقعي عبر العالم الافتراضي، فيما تصاعدت لديها قدرة التشبيك المرن والعابر للدول عبر فيالقها وكتائبها الرقمية.
ويقدم تقاطع الفضاء الرقمي مع الحركات الجهادية المعولمة عدة مداخل تحليليلة: ينطلق أولها من تأثير الإنترنت في تحول الأنشطة العملية من تدريب وتجنيد وتخطيط وتمويل في مسار هذه الحركات، إلى توجه ثان يقترن بتوظيف هجومي للفضاء الإلكتروني عبر القرصنة والاختراق الإلكتروني، فيما يقوم المستوى الثالث على فحص استخدام الشبكة لأغراض دعائية محضة وكوسيط إعلامي واجتماعي ورمزي، يجعل من الإنترنت “اليد الخفية” للجهاد العالمي.
من زمن الكاسيت إلى لحظة الإنترنت
والواقع أن استعمال التنظيمات المتشدّدة للفضاء الرقمي ليس جديدا، حيث يمكن رصد أربع مراحل في استعمال الوسائط التقنية لغايات جهادية:
المرحلة الرقمية الأولى بدأت منذ التسعينات من خلال النشر الإلكتروني لأشهر المراجع والكتب الجهادية وشرائط الفيديو والتسجيلات السمعية، وكان المحفّز في تلك الفترة الصراع في البوسنة (1992-1995) والحرب في الشيشان (1994-1996)، حيث سلطت الإنترنت الضوء على “الجهاد”. ويعدّ بابار أحمد، وهو خبير بريطاني من أصول باكستانية في تكنولوجيا المعلومات، من أوائل “الجهاديين الإلكترونيين”، حيث أسس سنة 1996 موقع “عزام. كوم”، يمجّد فيه المقاتلين في البوسنة والشيشان وأفغانستان. وأسس شبكة تضم عدة مواقع مختصة في بث أخبار “جبهات الجهاد” على غرار “صوت القوقاز.نت” و“واقية. كوم”، وقد لعبت هذه المواقع دورا مهما في تجييش المسلمين الشباب في الغرب لدعم المجاهدين.
الرد على العدوان الإرهابي الرقمي يجب أن يكون بالأساس ردا فكريا رقميا من نفس الطينة
خلال المرحلة الرقمية الثانية استطاعت التنظيمات الجهادية استغلال مميزات الشبكة العنكبوتية بشكل مباشر، حيث اعتمد تنظيم القاعدة على الإنترنت وقام بتأسيس دار إعلامية حملت اسم “السحاب”، وهي مؤسسة مختصة في إنتاج مضامين إعلامية وأطلقت عدة مواقع يديرها التنظيم بشكل مباشر. وفي فبراير 2000 بادر تنظيم الجهاد المصري إلى إنشاء موقع “معالم الجهاد”، ثم قام بتأسيس موقع آخر بعد عدة أشهر، حمل اسم “النداء. كوم” الذي أصبح لسان تنظيم القاعدة الرقمي. ومن ثم، تضاعفت العشرات من المواقع الجهادية بشكل سريع، لكنها كانت كلها تتعرض لهجمات إلكترونية أو يتلقى مستضيفوها طلبات بإقفالها من طرف السلطات. وكان في تلك الفترة من السهل على الحكومات حجب هذه المواقع المشتّتة جغرافيا، وأيضا بسبب محدودية استعمال الإنترنت وغياب مواقع التواصل الاجتماعي مقارنة بما هو عليه الحال اليوم. وكان دارجا خلال تلك المرحلة ظاهرة منابر النقاش الإلكترونية، التي سرعان ما أصبحت، بين عامي 2003 و2004 وسائط إعلامية هامة للتنظيمات الجهادية.
المرحلة الرقمية الثالثة تتمثل في تمكن الشبكات الجهادية من التواصل السريع في ما بينها، حيث شكلت منابر النقاش رأس حربتها للاتصال والتواصل، كما شهدت أوج نشاطها في تشبيك أعضاء التنظيمات عبر ربط دائم ومتواصل بين المدافعين والأنصار والراغبين في الالتحاق. ومع اندلاع الحرب الأميركية على العراق، أصبحت هذه الفضاءات الرقمية معروفة لدى مناصري الجماعات الجهادية. وكانت تسهر عليها فيالق رقمية تقوم بتجنيد وتمويل ونشر الفكر الجهادي، والتدريب على آليات القتال والتنكر وصنع المتفجرات والمفخخات، وظهرت العشرات من المنابر خلال فترة ما بين 2003 و2010 ومن أبرزها “الحسبة” و“الإخلاص” و“الفلوجة” و“شموخ الإسلام” و“أنصار المجاهدين”. وبدورها أنشأت هذه المواقع منابر فرعية يديرها أفراد موزعون على جغرافيا متفرقة، ووصلت إلى أوروبا، أين تم تأسيس موقعي “شموخ الإسلام” و“أنصار الحق” اللذين أشرف عليهما الفرنسيان نبيل عمدوني ورومان لوتليي قبل أن تصدر العدالة أحكاما بحقهما، فيما واصل البعض الآخر هذه الدعاية عبر منتديات ومنابر أخرى مثل المنبر البلجيكي “منبر س.أ. س” الذي كانت تشرف عليه مليكة العروض، أو المنبر الجهادي “أنصار المجاهدين” الذي أشرف عليه فيصل الراي في أسبانيا.
|
ومع تطور شبكة الإنترنت تطور استعمال التنظيمات الجهادية، ممثّلة في القاعدة بالأساس، لهذه الشبكة العالمية والتي أصبحت أشبه بقاعدة إعلامية يتم من خلالها تقسيم العمل الدعائي والفكري والموضوعاتي عن طريق ما تمده به التنظيمات الجهادية المتطرفة من بيانات وأشرطة مصورة ورسائل صوتية، تتكفل بها دُور إنتاج مختصة كدار “الأندلس” بالنسبة إلى تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي، ودار “الملاحم” التابعة للقاعدة في جزيرة العرب، ودار “الفرقان” التابعة لتنظيم القاعدة في العراق، قبل أن يتم نشر مضامينها عبر منابر فرعية ومدونات ومواقع إلكترونية تابعة لجهاديين ومناصرين متنكرين على الشبكة.
وشكل العصر الرقمي الجهادي الثالث ذروة التفاعل الرقمي بين الجهاديين، حيث لا يقوم الأفراد الذين يرتادون هذه المنابر والمنتديات باستهلاك مضامينها الإعلامية فحسب، بل يشاركون أيضا وبشكل مكثف في انتشارها والقيام بتحويلها عبر واجهات فرعية صغرى موجهة لأعضاء من غير العرب. وبموازاة ذلك، ظهرت تدريجيا فضاءات جهادية رقمية موجهة للجمهور الغربي مثل المنابر الفرنكفونية “رباط دوت أورغ” و“منابر دوت أس أو أس” أو “أنصار الحق”.
استثمار مواقع التواصل الاجتماعي
المرحلة الرابعة بدأت منذ عام 2010 وهي مستمرة بالشكل الذي هي عليه اليوم، ويميّزها تطور شبكات التواصل الاجتماعي التي صاحبها ظهور شبكة اجتماعية جهادية وصولا إلى استعمال الهاشتاغات، ممّا مثل تقدما في الإرهاب الإلكتروني، حيث تتيح شبكات التواصل الاجتماعي تنويع أساليب الاتصال بمستخدمين جددا تجمعهم ميولات شخصية، وسهولة التعرف على مكونات شخصيتهم ومتابعة تحركاتهم. وقفزت الدعاية الجهادية من التعريف بأدبياتها إلى الاهتمام بإعداد بنوك معطيات تضم فاعلين محتملين في حروبها غير التقليدية.
وبالموازاة مع تطور الجهاد الإلكتروني ظهرت اللامركزية الرقمية لدى أتباع هذه التنظيمات، حيث شكلت مواقع اليوتوب وفيسبوك وتويتر مجالات لإطلاق مبادرات فردية تتحرك بكل حرية، وبمعزل عن وصاية مباشرة لهذه التنظيمات. ولم يعد التنظيم الرئيسي هو وحده من يقوم بنشر الأدبيات الجهادية، بل أتاح تحول الشبكة 0.1 إلى الشبكة 0.2 نوعا من التفاعلية سمحت للآلاف من المناصرين بالمشاركة في نشر مقاطع صوتية وخطابية وصور، وبالتالي بتنا نشهد تحولا في استخدام وسائط رقمية تسمح لهم بالمساهمة في المواقع، وتبادل المعلومات والوسائط في ما بينهم على نحو نشط، فيما لم يكن ذلك متاحا في مراحل سابقة.
من شأن مواجهة الشبكات الإرهابية في العالم الإلكتروني عبر الاستخدام المنظم للتكنولوجيا الرقمية أن يحد من تأثيرها، إذا ظهرت مواقع إعلامية وفكرية عربية ملتزمة تواجهها على الشبكة العنكبوتية
وإذا كان الفضاء الرقمي التقليدي المكون من مواقع إلكترونية ومنابر، ما يزال يحظى بأهمية لدى التنظيمات الإرهابية العابرة للدول، فإننا نلاحظ توجها متزايدا نحو وسائط التواصل الاجتماعي، حيث يقوم العديد من المنابر الجهادية بنشر دليل رقمي يشرح فيه الفائدة الاستراتيجية المرتبطة به، أما إذا تأملنا دور الإنتاج الإعلامي، مثل دار “الأندلس” بالنسبة إلى تنظيم القاعدة، و“الملاحم” و“الفرقان” أو“مركز الحياة الإعلامي” بالنسبة إلى تنظيم داعش، فإنها جميعا تملك حسابات تويتر، ويتم تزويدها عن طريق نشر بيانات ومقاطع فيديوهات وإعلانات رسمية حتى تطال جمهورا واسعا.
مواجهة رقمية
وساعد التطور الكبير في مجال التكنولوجيا والإنترنت تنظيم الدولة الإسلامية على تحقيق الانتشار سريعا، حيث ينفرد التنظيم بنشر أكبر حجم للمضامين الرقمية المنشورة على الشبكة، وهي تجمع بين إنتاج رقمي نصي كما يتجلى في مجلة “دابق” الشبيهة بمجلة “دار الإسلام” الفرنكفونية، أو مجلة القاعدة “إلهام” (إنسباير)، ويتفوق في إنتاج شرائط الفيديو والألعاب الإلكترونية وتطبيقات الهواتف الذكية على غرار “فجر البشائر” الذي يساعد أنصاره في تتبع رسائل التنظيم الموضوعة على تويتر. كما أن تتبع تغريداته تشي باستعمال مكثف، حيث استخدم التنظيم 45000 حساب إلى حدود عام 2014، وبلغت تغريداته 100.000 تغريدة يوميا.
ومن شأن مواجهة الشبكات الإرهابية في العالم الإلكتروني عبر الاستخدام المنظم للتكنولوجيا الرقمية أن يحد من تأثيرها، إذا ظهرت مواقع إعلامية وفكرية عربية ملتزمة تواجهها على الشبكة العنكبوتية، وذلك من خلال السعي إلى رفع الوعي العام للمواطنين والشباب، والرد على مزاعمها وأطروحاتها المضللة. والرد على العدوان الإرهابي الرقمي هو بالأساس رد فكري رقمي من نفس الجبهة.
د.حسين مصدق
صحيفة العرب اللندنية