أي مستقبل للدور الأمريكي في آسيا الوسطى؟

أي مستقبل للدور الأمريكي في آسيا الوسطى؟

2015-635831943327712013-771
رفت الفترة الممتدة ما بين 29 أكتوبر و1 نوفمبر2015 حدثا مهما في تاريخ الدبلوماسية الأمريكية، حيث شهدت، ولأول مرة في التاريخ، زيارة وزير خارجية أمريكي لدول آسيا الوسطى الخمس بشكل متزامن، حيث تمخض عن زيارة جون كيري قرارات ذات أبعاد أمنية واقتصادية، تندرج في مجملها ضمن باب توسيع النفوذ الأمريكي بالمنطقة، مما يجعل من تحليل هذه الزيارة مدخلا رئيسيا لفهم المعضلات التي تعيق استراتيجية واشنطن في آسيا الوسطى.

 ولا تعد زيارة كيري الوحيدة من نوعها للمنطقة، إذ عرفت آسيا الوسطى توافدا متصاعدا لمختلف الفاعلين الدوليين خلال الأشهر القليلة الماضية، بدءا من زيارة الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، في يونيو الماضي، والتي ركزت على الشق الحقوقي في المنطقة، مرورا بزيارة رئيس الوزراء الهندي، ناريندرا مودي، في يوليو الماضي، وصولا للجولة المهمة التي قام بها رئيس الوزراء الياباني، شينزو آبي، أواخر شهر أكتوبر.
أبعاد زيارة كيري الأمنية والاقتصادية
انطلقت أولى جولات وزير الخارجية الأمريكي، جون كيري، من قيرغيزستان، حيث افتتح السفارة الأمريكية في بيشكيك يوم السبت 31 أكتوبر، وتبعها بزيارته لكل من كازاخستان، وتركمنستان، وطاجيكستان. غير أن المحطة الرئيسية والمهمة تمثلت في اجتماعات (c5+1) التي قادها كيري برفقة نظرائه من جمهوريات آسيا الوسطى، في سمرقند بأوزبكستان، والتي تمخضت عنها نقاط مهمة.
من الناحية الأمنية، أكدت مجموعة (c5+1) ضرورة التنسيق لمجابهة مختلف المعضلات الأمنية، بما فيها الإرهاب، والجريمة العابرة للحدود، والإتجار في المخدرات. وشكًل الانسحاب الأمريكي التدريجي من أفغانستان، وتصاعد خطر “داعش”، والحركات المتشددة في آسيا الوسطى، أهم النقاط المحورية المتعلقة بالجانب الأمني، حيث دعت الدول إلى تبني آليات للتنسيق الأمني والاستخباراتي.
من الناحية الاقتصادية، رحبت المجموعة بفكرة التعاون الاقتصادي المبني على أساس المنفعة المشتركة، وتبني مشاريع للنهوض بالبنية التحتية والطرق والمواصلات، بما يتيح ذلك من فرص للاستفادة والتعاون، مما سينعكس بالإيجاب على العلاقات السياسية، حيث أكد كيري أن التعاون الاقتصادي بين الولايات المتحدة وآسيا الوسطى نتاج تاريخ مشترك، وهو تصريح ذو دلالات مهمة، يندرج ضمن المنظور الأمريكي لطريق الحرير الجديد الذي تسعى واشنطن إلى إرساء دعائمه في المنطقة.
أما من الناحية الحقوقية، فجاء البيان الختامي محتشما، بعدما اقتصر حديث كيري عن عدم إضعاف التعددية في مواجهة التشدد. ويفهم من الصمت الأمريكي  تودد واشنطن لدول المنطقة، بعدما كان الملف الحقوقي سببا رئيسيا في توتر علاقتها بهذه الدول، خصوصا أوزبكستان، عقب اتهام الرئيس الأوزبكي، إسلام كريموف، السفارة الأمريكية بتمويل أحداث أنديجان في عام 2005.
آسيا الوسطى في التفكير الأمريكي
لا يخفى على أحد الأهمية القصوى التي تشغلها منطقة آسيا الوسطى (أوزبكستان، تركمنستان، قيرغيزستان، طاجيكستان، كازاخستان) في التفكير الاستراتيجي الأمريكي، بموقعها الجغرافي المتميز، لاسيما وأنها محاطة بقوى إقليمية، وفاعلين رئيسيين على الساحة الدولية ( روسيا، الصين، تركيا، إيران)، مما يجعل منها منطقة رئيسية للتحكم في طرق المواصلات والتجارة بأوراسيا، وبين شمال وغرب آسيا وجنوب شرقها، علاوة على احتياطياتها من المعادن في بحر الآرال، والبترول والغاز الطبيعي في كازاخستان وتركمنستان على بحر قزوين الذي يحتوي على ثاني أكبر احتياطي عالمي من النفط والغاز.
ويرى بريجنسكي في كتابه “رقعة الشطرنج” أن الرهان الرئيسي للولايات المتحدة هو السيطرة على المنطقة الأوراسية، انطلاقا من غرب أوروبا، مرورا بجمهوريات آسيا الوسطى ذات الأهمية الاستراتيجية الكبرى، وصولا إلى الصين، وهو ما يبرز الدور الكبير الذي تلعبه آسيا الوسطى كحلقة وصل، ونقطة ارتكاز في الاستراتيجية الأمريكية.
وعليه، تمثل هذه المنطقة مسرحا رئيسيا للصراع حول الطاقة في العالم، في ظل التقاء مشاريع تكاملية كالاتحاد الاقتصادي الأوراسي، والحزام الاقتصادي “طريق الحرير”، بعد توقيع الصين وروسيا بيانا للتعاون المشترك لإنشاء الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، والحزام الاقتصادي “طريق الحرير” في 8 مايو 2015، وسط رغبة أمريكية جامحة لتأسيس طريق حرير جديد، وفق المنظور الأمريكي، وقواعد التجارة الحرة، وبأجندة سياسية، تهدف أساسا لاختراق الحديقة الخلفية لموسكو، واحتواء النفوذ الصيني المتصاعد، والتحكم في أحد أهم مصادر الطاقة تجاه بكين. إذ تسعى الولايات المتحدة لإشراك فاعلين آخرين لمزاحمة الوجود الصيني، وجعلهم بديلا لها، كالهند وباكستان، وهو ما تجلى في توقيع رئيس الوزراء الياباني، شينزو آبي، في أكتوبر الماضي، لاتفاقيات تعاون اقتصادي، واستثمارات في آسيا الوسطى بقيمة تناهز 30 مليار دولار.
من ثم، فقد ازداد اهتمام واشنطن بهذه المنطقة كأحد أهم مسارح السياسة الدولية، وسط الانكفاء الأمريكي الواضح من منطقة الشرق الأوسط، بعد فك الارتباط بها من ناحية الطاقة، في ظل الاقتناع التام لصانعي القرار بالبيت الأبيض بأن أهم أهداف الفترة الحالية تتمثل في عدم سيطرة أي قوة على نفط وغاز الخليج، مع ترك هامش للتحرك والمناورة لقوى إقليمية، وهو ما يتحقق من دون الحاجة للتدخل العسكري لحل أزمات الشرق الأوسط، فضلا عن تنامي الصراع الطائفي، والحراك الجهادي، وتفكك الدولة الوطنية.
وتتمثل أهم أهداف الاستراتيجية الأمريكية في آسيا الوسطى في:
(*)ـ مزاحمة النفوذ الصيني المتصاعد، واختراق الحديقة الخلفية لروسيا عن طريق التأسيس لمشروع طريق الحرير، وفق المنظور الأمريكي، والعمل على تشييد شبكات للطرق والموصلات، وأنابيب للغاز في اتجاه بحر قزوين.
(*) تقييد سياسات الاتحاد الأوروبي، والصين، واليابان، الباحثة بدورها في آسيا الوسطى عن مصادر طاقة بديلة لمنطقة الشرق الأوسط.
(*) دعم استقرار المنطقة بالتأسيس لتعاون أمني واستخباراتي للقضاء على عناصر تأزمها، وخصوصا الإرهاب المتصاعد في حدودها مع أفغانستان.
(*) توسيع مجالات التعاون الاقتصادي، وتسهيل عملية الاندماج في السوق، وبناء شراكة اقتصادية عن طريق إبرام عقود استخراج النفط والغاز، واستغلال فرص الاستثمارات الواعدة في المنطقة، بما فيها السعي لمد شبكة خطوط كهربائية تربط باكستان، وأفغانستان، وقيرغيزستان، وطاجيكستان، مع العمل على تنويع مصادر الطاقة تجاه الحليف الغربي (الاتحاد الأوروبي) لفك ارتباطه الكبير بالنفط والغاز الروسيين.
(*) دعم التحول الديمقراطي في آسيا الوسطى وفق التصور الغربي، وضمان استقلالية المنطقة عن المظلة الروسية، ودفعها لرفض أي مشروع روسي للهيمنة عليها.
(*) الدعوة لاحترام حقوق الإنسان، وجعل هذه الأخيرة مدخلا للتأثير في سياسات المنطقة.
حدود النفوذ الأمريكي في آسيا الوسطى
لقد أصبح صانع القرار في البيت الأبيض يولي أهمية قصوى لتوطيد العلاقات مع دول آسيا الوسطى، بتأكيده ضرورة اتباع الحوار لحل مختلف القضايا، وإبدائه قلقه الشديد من الأوضاع الأمنية التي تهدد استقرار المنطقة، في ظل الهيمنة والتحكم الروسي في سياسات دولها. غير أن هذا التوجه الأمريكي يقف أمام معضلات معقدة تشكل عائقا أمام تحقق أهدافه الاستراتيجية في المنطقة.
 فمن ناحية، لا يعد انفتاح دول آسيا الوسطى على الولايات المتحدة تحولا استراتيجيا في سياساتها بقدر ما هو خيار تكتيكي للعب على الحبال، وتوسيع الخيارات، وتخفيف الضغط الروسي- الصيني في المنطقة، باستغلال ورقة واشنطن الباحثة عن موطئ قدم فيها، في ظل ما يمثله البعد الجغرافي من عامل مساعد لاختراق الأخيرة المنطقة، بعيدا عن هاجس الهيمنة الذي يؤرق بال صانعي القرار في عواصم دول آسيا الوسطى. غير أن نجاعة هذه الدول في الاستقلالية بقراراتها عن بكين وموسكو مرتبطة بما ستقدمه لواشنطن على الصعيدين الاستراتيجي والاقتصادي، وكذا بإدراكها لطبيعة المواجهة القائمة، وحجم التناقضات التي تحرك باقي الأطراف، وتسهم في صناعة قرارها.
من ناحية أخرى، فقدت واشنطن نقاطا عديدة في المنطقة لمصلحة روسيا والصين. فالانسحاب الأمريكي التدريجي من أفغانستان جعل دول آسيا الوسطى مكشوفة أمام التهديدات الإرهابية، في ظل التلاقي الفكري، والتنسيق اللوجيستي بين الحركات المتشددة في آسيا الوسطى، وأهمهما حركة أوزبكستان الإسلامية، وبين تنظيم القاعدة، وحركة طالبان في أفغانستان، وهو ما تراه دول المنطقة تخليا صريحا لواشنطن عن أمنها واستقرارها، تزامنا مع تنامي خطر ارتداد العناصر الجهادية في سوريا، في ظل فشل التحالف الدولي تحت قيادة الولايات المتحدة في القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، وتحقيق موسكو تقدما ملحوظا في هذا الجانب، وهو ما يدفعها للبحث عن إطار حمائي لمجابهة التحديات الأمنية القادمة من أفغانستان وسوريا، وذلك بتفعيل عملها من داخل منظمتي “شنغهاي للتعاون”، و “معاهدة الأمن الجماعي”.
ولا يقف توجس دول آسيا الوسطى من السياسات الأمريكية في المنطقة عند الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، والفشل في الحد من تنامي خطر “داعش”، وإنما يتعداه للدور الذي لعبته واشنطن، عبر الملياردير الأمريكي، جورج سوروس، فيما يعرف بـ” الثورات الملونة” في جورجيا، وأوكرانيا، وقيرغيزستان، مما ينمي من مشاعر الشك والريبة تجاه استغلال واشنطن ملف حقوق الإنسان، وتحريك قوتها الناعمة عبر مؤسسة سوروس في المنطقة.
هذا التباين في وجهات النظر لا يحجب المسعى الدبلوماسي لواشنطن، من خلال زيارة كيري، لجعل التعاون الاقتصادي أداة لتحقيق المصالح المشتركة بعيدا عن كل المسائل المعلقة، ومن ثم الانطلاق من لحظة تحقق تلك المصالح كنقطة ارتكاز لحل كل القضايا الخلافية. غير أن ارتباط تلك القضايا بالأمن القومي لدول آسيا الوسطى يعجل من بحثها عن بدائل واقعية، تحقق لها التنمية الاقتصادية، واستتباب السلم والأمن الإقليميين، وهو ما لا يتوافر لدى واشنطن بفعل بعدها الجغرافي عن المنطقة، وانسحابها التدريجي من أفغانستان.
وعليه، يواجه مشروع “طريق الحرير الجديد” الأمريكي في المنطقة تحديات كبيرة، بفعل تقاطعه مع مشروع الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، والحزام الاقتصادي طريق الحرير، في ظل التعاون الرسمي بين موسكو وبكين للربط بين المشروعين الأخيرين، وهو ما تجلى في الاتفاقية التي وقعها الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ونظيره الصيني، شين جين بينغ،  في الثامن من مايو 2015.
وبالرغم من تلاقي المصالح بين المشروعين التكامليين الصيني والأمريكي في المنطقة، فإن التباين في المواقف السياسية حول طبيعة الوجود الأمريكي وأهدافه يزيد من حتمية الصراع، حيث تعمل بكين على ضمان مصادر بديلة للطاقة، وهو ما يتجلى في توقيع شركة “CNPC” الصينية في مايو 2014 اتفاقية لاستيراد الغاز الطبيعي الروسي لمدة ثلاثين عاما بقيمة 400 مليار دولار عبر أنابيب “قوة سيبيريا”، مع سعيها لإنشاء خط أنابيب غاز إيران- باكستان- الصين.
كما تعمل كل من بكين وموسكو على مواجهة الاختراق الأمريكي لآسيا الوسطى، والتنسيق للحد من الفجوة التي أحدثتها الحالة الأفغانية، للحفاظ على مصالحهما في المنطقة، ونهج سياسة خارجية تدعو لتعدد الأقطاب، وتناهض الهيمنة الأمريكية. وفي هذا الإطار، تستغل موسكو علاقاتها التاريخية التي تجمعها بدول آسيا الوسطى، وارتباط اقتصادات هذه الدول بشكل مباشر بها في مجال الطاقة والتبادل التجاري، وتشغيل العمالة الأجنبية، إضافة إلى بحثها عن إطار حمائي لمجابهة التحديات الأمنية المتصاعدة، لتحييدها عن مسار السياسات الأمريكية، وهو ما تجلى بشكل واضح في رفض كل من أوزبكستان وقيرغيزيستان إعادة فتح القاعدتين العسكريتين: خان أباد”، و “ماناس” في وجه القوات الأمريكية.
تبقى الاستراتيجية الأمريكية في آسيا الوسطى رهينة حسابات ضيقة مرتبطة بمدى تفاعل دول المنطقة، وحدود التأثير الأمريكي في سياساتها، في ظل تنامي المحفزات الداخلية والإقليمية لبحث تلك الدول عن إطار حمائي يتجاوز مدى النفوذ الأمريكي، وسط تنسيق روسي – صيني أظهر فعالية كبيرة في معالجة مختلف التحديات.
سامي السلامي
مجلة السياسة الدولية