لم تكن الرسالة التي وجهها المرجع الديني العراقي السيد كاظم الحائري رسالة عابرة أو ذات مدلولات مرحلية، بل هي تؤسس لنموذج جديد في التصدي لشؤون المرجعية التي من المفترض أن تعود إليها إدارة أمور المذهب والمعتقدين به في مسائلهم اليومية والحياتية على اختلاف المدارس الفقهية بين عمومية هذه الإدارة واتساعها لتشمل البعد السياسي، وخصوصيتها بما يعود إلى أمور المعاملات والعبادات.
فرسالة الحائري تعتبر سابقة في تاريخ المرجعية الشيعية، لأنها تضمن من ناحية خطوة تحدث للمرة الأولى وهي اعتزال المرجع لوظيفته الدينية وواجبه الشرعي بالنظر في شؤون الأمة وإرشادها، وما تضمنته من موقف سياسي يتعلق بالتطورات التي يشهدها العراق من ناحية أخرى، بخاصة ما يختص بالعلاقة مع زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر، وما نتج منها من تداعيات دفعت الأخير إلى إعلان اعتزاله العمل السياسي بناء على رأي المرجع.
وانقسم فقهاء الشيعة بين القول بالولاية العامة التي تشمل جميع مناحي الحياة الدينية والاجتماعية والتجارية والسياسية، والقول بالولاية الخاصة المتعلقة بالجانب العبادي ولا تشمل الجانب السياسي.
والالتزام برأي أي من الفريقين، يقوم بناء على مبدأ “التقليد” لهذا الفقيه أو المرجع، وما يعنيه ذلك من القبول والعمل بجميع فتاواه والأحكام التي يصدرها أو يعلنها.
لا شك في أن مبدأ التقليد في الفقه الشيعي ظهر بين أواخر القرن الرابع الهجري وبدايات القرن الخامس، بما هو عودة العامة إلى العالم والمشهود بعلمه في غياب الإمام المعصوم التي تزامنت مع تطور في الفكر الديني لدى الشيعة الإمامية التي بدأت تقول بالاجتهاد مع الشيخ الطوسي (محمد بن الحسن بن علي بن الحسن، 385-460 هـ) المعروف بشيخ الطائف وصاحب كتابي “الاستبصار” و”تهذيب الأحكام” اللذين يعتبران من الكتب الأربعة المعتمدة لدى المذهب الشيعي، ويعتبر المؤسس لطريق الاجتهاد المطلق في الفقه وأصوله. وقد ترسخ هذا المنهج داخل المذهب الشيعي، أي المنهج أو المدرسة الأصولية على حساب المدرسة الإخبارية، وصولاً إلى مرحلة السيد كاظم اليزدي (1247 – 1337 هـ) صاحب كتاب “العروة الوثقى” الذي تحول في عصر توليه لزعامة الحوزة الدينية في مدينة النجف إلى واجب على كل فرد ما لم يكن مجتهداً أو عالماً بالأمور الفقهية والأصول.
من هنا، يمكن الدخول إلى موقف زعيم التيار الصدري في خطابه الأخير الذي أعلن فيه اعتزال العمل السياسي التزاماً برأي المرجعية المقصود منها الحائري الذي يعتبر المرجعية الدينية والفقهية للتيار الصدري وزعيمه بناء على وصية والد مقتدى محمد صادق الصدر قبل وفاته، إذ أوصى أتباعه بالعودة في أمورهم إلى الحائري الذي وصفه بالأعلم، بخاصة أن “الأعلمية” تعتبر من شروط التقليد الأساسية لأي مقلد.
وتشكل مقولة “عمر بن حنظلة” الأساس الفقهي الذي تقوم عليه مسألة ولاية الفقيه، فالرواية التي ينقلها ابن حنظلة عن الإمام السادس لدى الشيعة الإمامية جعفر الصادق “أبي عبدالله” الذي يعتبر المؤسس للمذهب الجعفري، تقول في نصها “عن محمد بن يعقوب عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين عن محمد بن عيسى عن صفوان بن يحيى عن داوود بن الحصين عن عمر بن حنظلة قال: سألت أبا عبدالله عن رجلين من أصحابنا، بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة أيحل ذلك؟ قال من تحاكم إليهم في حق أو باطل، فإنما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنما يأخذ سحتاً، وإن كان حقاً ثابتاً له، لأنه أخذه بحكم الطاغوت، وما أمر الله أن يكفر به قال الله تعالى يريدون أن يتحٰاكموا إلى الطٰاغوت، وقد أمروا أن يكفروا به، قلت: فكيف يصنعان؟ قال ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه، فإنما استخف بحكم الله وعلينا رد، والراد علينا الراد على الله، وهو على حد الشرك بالله الحديث”.
ورافق هذه الرواية جدل حول صحتها، فمن الفقهاء الشيعة من ضعفها لوجود ضعف في سلسلة سندها عن داوود بن الحصين، إلى أن حسم المرجع السيد محمد باقر الصدر هذا الجدل وقال بصحتها في كتابه “دروس في علم الأصول، الجزء الثالث، صفحة 262 وما بعدها)، واعتمدها الشيخ حسين علي منتظري في التأسيس لنظرية ولاية الفقيه في كتابه “دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية، الجزء الأول، صفحة 427)، وهي الرواية التي شكلت أيضاً الأساس الذي بنى عليه السيد روح الله الخميني نظريته حول السلطة في كتابه “الحكومة الإسلامية”. وعلى الرغم من أن الجمهورية الإسلامية في إيران قامت على أساس ولاية الفقيه العامة، إلا أن الجدل بين الفقهاء الشيعة ومراجعهم من هذه المسألة ما زال مستمراً بين مؤيد وقائل بها، ورافض لها وقائل بالولاية الخاصة التي تتعامل مع شؤون المسائل العبادية ومعاملات المقلدين من الجماعة.
موقف الصدر الذي فاجأ الجميع كشف بعداً خفياً في حراكه ومواقفه السياسية على الساحة العراقية، كان الصدر حريصاً على إبعاده عن الأنظار، وهو وجود مرجعية فقيه له ولتياره السياسي يلتزم مواقفه وآراءه السياسية والدينية، وأن موقف الحائري في الفقرة (هـ) من رسالته التي تقول “على أبناء الشهيدين الصدرين (قدس الله سرهما) أن يعرفوا أن حب الشهيدين لا يكفي ما لم يقترن الإيمان بنهجهما بالعمل الصالح والاتباع الحقيقي لأهدافهما التي ضحيا بنفسيهما من أجلها، ولا يكفي مجرد الادعاء أو الانتساب، ومن يسعى إلى تفريق أبناء الشعب والمذهب باسم الشهيدين الصدرين (رضوان الله تعالى عليهما)، أو يتصدى للقيادة باسمهما وهو فاقد للاجتهاد أو لبقية الشرائط المشترطة في القيادة الشرعية فهو، في الحقيقة، ليس صدرياً مهما ادعى أو انتسب”، أصابت الصدر بإرباك حقيقي دفعته إلى إعلان الاعتزال وإنهاء الحراك الذي بدأه في مواجهة قوى الإطار الشيعي السياسية والحزبية والعمل على إرساء مشروعه السياسي وقيادة الدولة العراقية، لأن موقف الحائري سحب الشرعية أو الغطاء المرجعي الذي يعتمد عليه الصدر في مواجهة “الولائيين” من القوى الشيعية الذين يصفهم بأنهم أدوات في مشروع ولاية الفقيه بقيادة المرشد الإيراني السيد علي خامنئي، بخاصة أن الحائري أعاد مقلديه من التيار الصدري وأمرهم بالعودة إلى المرشد الإيراني في البند الأول من رسالته بقوله “على جميع المؤمنين إطاعة الولي قائد الثورة الإسلامية سماحة آية الله العظمى السيد علي الخامنئي (دام ظله)، فإن سماحته هو الأجدر والأكفأ على قيادة الأمة وإدارة الصراع مع قوى الظلم والاستكبار في هذه الظروف التي تكالبت فيها قوى الكفر والشر ضد الإسلام المحمدي الأصيل”.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الحائري بحكم تتلمذه على يد السيد محمد باقر الصدر المؤسس لحركة “الدعوة الإسلامية” لعب دوراً متقدماً في حزب الدعوة، وكان في مرحلة من المراحل زعيم شورى فقهاء الحزب. ولعل موقفه من ولاية الفقيه وتبنيه لهذه النظرية كانت الدافع لاستبعاده عن حزب الدعوة الذي لا يتبنى هذه النظرة، ولا يرى نفسه ملزماً بإطاعة أي مرجعية دينية غير مرجعيته الدينية الحزبية.
لا شك في أن الانسحاب من العمل السياسي بالنسبة إلى الزعيم الصدري سيكون صعباً ومكلفاً، لذلك وفي وقت أعلن فيه التزامه موقف “المرجع” والانسحاب من الحياة السياسية، إلا أنه ترك الباب موارباً للعودة إلى سابق نشاطه بإشارته إلى طاعة المرجع ملتزمة له طالما أن المرجع في موقع التصدي لشروط وواجبات المرجعية، أما وأنه اعتزل “المرجعية” فإن تنفيذ رأيه لن يكون ملزماً، بالتالي فإن نضوج الأمور والتطورات قد تشهد عودة متدرجة للصدر إلى الفعل السياسي. ولعل مؤشراتها بدأت بالظهور من خلال تغريدات وزيره محمد صالح العراقي الذي عاد ليطلق مواقف سياسية نقلاً عن مقتدى حول التعامل مع ضحايا الأزمة الأخيرة في المنطقة الخضراء أو مساعي الإطار التنسيقي لعقد جلسة برلمانية وانتخاب رئيس للجمهورية وتكليف رئيس للوزراء.
قد يكون الصدر في اعتزال الحائري تحرر من الإرث الذي تركه له والده والتزامه القبول به، ما يعني أنه لم يعد ملزماً مراعاة موقف هذه المرجعية في ولاية الفقيه، وأيضاً ستفتح الطريق أمامه لتقديم نفسه في المرحلة المقبلة كمجتهد صاحب رأي فقهي وشرعي يمكنه من الاستقلالية السياسية من دون قيود، وهذه الخطوة قد تقترن بإعلان الصدر عودته لمتابعة دروسه الحوزوية والدينية لنيل هذه المرتبة وتحصيل الاعتراف به داخل المنظومة.
اندبندت عربي