الموقف التركي والإيراني من الحراك المسلح في العراق

الموقف التركي والإيراني من الحراك المسلح في العراق

د. معمر فيصل خولي*

مقدمة:

أدت سياسات رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي المنتهية ولايته، والتي استمرت لثمانية أعوام متعاقبة، المبنية على الإقصاء والطائفية والتهميش، وترسيخ سلطته الفردية من خلال توليه جميع الملفات الحيوية في الدولة العراقية، وتوليه أيضًا المسؤولية عن وزرات الدفاع والداخلية والأمن الوطني، وتحكمه بتفسير جملة من القوانين وتطبيقها؛ بدءًا بقانون الإرهاب الذي بات سيفًا مسلطًا يستخدمه للتخلص من معارضيه وخصومه السياسيين، مرورًا بانتشار قواته بشكل استفزازي في سائر الأحياء السنيّة في بغداد ومحافظات الأنبار، وصلاح الدين، ونينوى، وكركوك، وديالى، وممارسة جميع أنواع الإذلال والتنكيل والقتل والتعذيب ضدهم، وتغاضيه عن إرهاب المليشيات التي كانت تحظى بحماية رسمية، وتجاهله لمطالب الحراك الجماهيري الشعبي السلمي الذي بدأ في كانون الأول/ يناير عام 2012، واستخدام القوة العسكرية في فض الحراك، حيث قتلت قواته في 23 نيسان / إبريل 2013، 50 محتج وجرح أكثر من 110 آخرين في مدينة الحويجة بمحافظة كركوك.

كل تلك السياسات الموسومة بالفشل عززت حالة الاحتشاد السني، ومن ثم الحراك المسلح ضد حكومة نوري المالكي. ففي 10 حزيران/ يونيو2014، تمكن عدد من الفصائل المسلحة من السيطرة على الموصل ثاني مدينة في العراق، وتكريت ومناطق أخرى من حافظة صلاح الدين، وديالى في الشرق ومناطق في الشمال بالقرب من كركوك، فأصبحت كل منطقة العرب السنة تقريبًا خارج سيطرة حكومة نوري المالكي.

  ومن هنا تهدف هذه الورقة إلى التعرف على مواقفي الحكومة التركية المتوترة مع الحكومة المالكي والحكومة الإيرانية الحليفة لها من الحراك المسلح في العراق، إذ اتخذا موقفين على طرفي النقيض منه، وذلك بما ينسجم مع مصالح دولتيهما. أما أهميتها فتأتي، أولًا: بوصفهما من القوى المتوسطة الصاعدة في البيئة الإقليمية، والتي تتحمل مسؤولية حيال الأمن الإقليمي ولا سيما العراق. وثانيًا: باعتبارهما من الدول غير العربية المجاورة له، والذي يشكل لهما من الناحية الجيوسياسية في مرحلة ما بعد الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين وفي أثناء وبعد الاحتلال الأمريكي له، مجالًا حيويًا للتنافس بينهما.

 

 

الموقف التركي:

 على الرغم من تصريح رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان الذي اعتبر أن احداث العراق تحولت إلى حرب أهلية طائفية بين السنة والشيعة، إلا أن الموقف التركي الرسمي إزاء الحراك المسلح في العراق، اتسم بالصمت النسبي رغم النبرة العالية لخطابات اردوغان، منذ مشهد التغيير -الذي بات يعرف إعلاميًّا “بالربيع العربي”. وعليه، فإن لهذا الصمت أسبابه في التحليلات السياسية العربية، ولعل أهم هذه الأسباب:

أولًا: حرص الحكومة التركية على إتمام عملية الإفراج عن المخطوفين من رعاياها في مدينة الموصل: قام عناصر تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام في 11حزيران/ يونيو 2014، باقتحام القنصلية التركية في الموصل شمالي العراق، واختطفوا بعثتها بما فيهم القنصل العام “أوزتورك يلماز”، وعدد من جنود القوات الخاصة، وعلى الفور قامت الحكومة التركية بإجراء اتصال مباشر مع المختطفين لضمان أمن البعثة القنصلية، ولضمان سلامة بعثتها حظرت محكمة جنائية في انقرة على وسائل الاعلام في تركيا نشر اي معلومة حول أزمة المختطفين، وفرض القضاء القرار على جميع وسائل الاعلام بما فيها شبكة المعلومات الدولية “الانترنت”، من اجل الحفاظ على سلامة المواطنين الاتراك.

ثانيًا: رغبة تركيا في كسر تأثير إيران على العراق بعد عام 2003، حيث بدت الثانية وكأنها هي التي تصنع عمليًّا السياستين الداخلية والخارجية العراقية. ومن هنا رأت السياسة التركية في الحراك العراقي المسلح، مدخلاً لإعادة التوازن والحد من النفوذ الايراني في العراق، وليكون في نفس الوقت ردًّا على الضربة القاسية التي تلقتها سياساتها في العراق، حينما أقدم رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي بدعم من إيران في 19 كانون الأول/ ديسمبر عام 2011، بإصدار مذكرة اعتقال لنائب رئيس جمهورية العراق طارق الهاشمي بحجة تورطه بإعمال إرهابية ضد أهداف شيعية فيه.

ثالثًا: اكتفاء تركيا بعلاقاتها المتميزة مع إقليم كردستان العراق. فعلى المستوى السياسي، لم يعد الزعيم الكردي مسعود برزاني “الرجل العشائري” بنظر أنقرة  بل بات يستقبل فيها بحفاوة دبلوماسية. كما باستطاعته أيضَا أن يمارس دورًا مهما لدفع حزب العمال الكردستاني للقبول بحل دبلوماسي للمسألة الكردية في تركيا.

أما على المستوى الاقتصادي فقد شهدت تقدمًا ملموسًا، حيث يشكل الاقليم سوقًا وبوابة اقتصادية لتركيا في ظل سياسة الإغراء الاقتصادي التي اتبعها اربيل مع تركيا، فحجم التبادل التجاري بينهما بلغ ما يقارب 12 مليار دولار أمريكي، والشركات التركية استحوذت على النصيب الأوفر من المشاريع الخدماتية والعقارية الكبرى حيث هناك أكثر من ألف شركة تركية تعمل في الإقليم، ونسبة واردات الإقليم من تركيا تجاوزت 80 % من اجمالي الواردات.

 وعلى الرغم من هذا التقدم بصدد العلاقات الثنائية، إلا أنه لم يمنع  تركيا حينما أقدمت القوات الكردية من السيطرة على مدينة كركوك بعد انسحاب القوات المسلحة العراقية منها في 12حزيران/ يونيو 2014، ومن ثم دعوة – حتى لو كانت من باب المناورة الدبلوماسية-  رئيس إقليم كردستان مسعود برزاني للاستفتاء على استقلال الاقليم، أن تؤكد على موقفها الرافض لتقسيم العراق، وإقامة دولة كردية مستقلة لما له من تبعات يهدد استقرارها الداخلي، فضلًا عن رفضها في ضم مدينة كركوك الغنية بالنفط، والتي تعتبرها تركيا مدينة تركمانية، إلى إقليم كردستان العراق. لأن ذلك يعد من النواهي في السياسة الخارجية التركية حتى الآن. وقد يشهد المستقبل، تغييراً في البيئة الإقليمية لتركيا بدعم من الدول العظمى والكبرى في النظام العالمي، لجهة حدوث تحولات جيوسياسة، تفرض عليها التخلي عن النواهي لصالح المباحات.

رابعًا: اعادة تأهيل المكانة التركية من المشهد العراقي، وجعلها اكثر تأثيراً، حيث عملت ايران والساسة العراقيين الشيعة اعقاب الاحتلال الامريكي للبلاد، وعبر عمل ممنهج على تحجيم الحضور التركي وتقليص امكاناته التأثيرية.

 

الموقف الإيراني:

على خلاف موقف الاتراك من الحراك المسلح في العراق، اتسم الموقف الإيراني الرسمي منه بالوضوح التام ، لجهة وصف ما يحدث “بالإرهاب”. ولم تكتف بالوصف فقط رغم إدراكها بأنها لا تستطيع القيام بعمليات عسكرية واسعة في العراق، لأن ذلك من شأنه أن يستفز الدول السنية المجاورة، اذ قدمت ايران دعماً لوجستياً لحكومة المالكي، وتمكنت من استنفار مشاعر الشيعة العراقيين. واستدارت لتعزز اهتمامها نحو المجموعات الشيعية المسلحة التي بذلت جهدًا كبيرًا في تنظيمها وتدريبها خلال السنوات الماضية، مثل جيش بدر وجيش المهدي، وغيرها من المليشيات فدورها واضح على المستوى التخطيطي واللوجستي؛ حيث أن لقاسم سليماني (قائد فرقة القدس التابعة لحرس الثورة الإيرانية) وهيئة ركنه أثرًا واضحًا على التخطيط للعمليات العسكرية والقيام ببعض مهماتها، فقبل أيام شيّعت إيران طيارًا قالت إنه قُضي دفاعًا عن “حرم أهل البيت في سامراء”. ولم تورد الصحافة الايرانية تفاصيل عن مقتله واكتفت بنشر صور تشييعه في مدينة شيراز.

وهناك سببان يكمنان في إنحياز الموقف الإيراني لحكومة نوري المالكي وهما على النحو الآتي:

أولًا: الحفاظ على الهيمنة الايرانية على العملية السياسية، فالنتيجة الاستراتيجية الرئيسة للاحتلال الأمريكي للعراق، تمثلت بجعل إيران قوة إقليمية كبرى، وخلصت دراسة أجراها المعهد الملكي للشؤون الدولية في آب/ أغسطس من العام 2006 إلى ما يلي:” لقد ازالت الولايات المتحدة بمساعدة التحالف، الحكومتين المتنافستين لإيران في بيئتها الإقليمية، طالبان في أفغانستان وصدام حسين في العراق، وفشلت في استبدال أي منهما بمنظومات سياسية منسجمة ومستقرة” بحيث اضحى التأثير الإيراني في العراق اليوم أكبر من التأثير الامريكي.

ويعود أساس هذا التأثير إلى السياسة التي اتبعتها إيران تجاه العراق بعد احتلاله، حيث دعمت بكل قوتها لتثبيت أركان العملية السياسية، وأيدت قيام مجلس الحكم الانتقالي الذي شكله الأميركي بول بريمر منتصف تموز/يوليو 2003، رغم الانتقادات الكثيرة وعلامات الاستفهام العديدة التي أثارها ذلك الدعم، بسبب عداء إيران المعلن بالمطلق للولايات المتحدة، والتي تسميها إيران منذ الخميني الحكم في إيران في فبراير/شباط 1979، بـ”الشيطان الأكبر” في تأكيد على معاداتها لها.

وللمضي في نهج التأثير، حرصت الحكومة الإيرانية على دعم الحكومات المتلاحقة في العراق بعد عام 2003، والدستور الذي تم الاستفتاء عليه في 15 تشرين الأول/ اكتوبر عام 2005، وعلى مستوى دبلوماسية الزيارات، قام الرئيس الإيراني السابق محمود احمد نجاد في زيارة بغداد المحتلة من قبل القوات الأميركية في الثالث من آذار/ مارس عام 2008، ولقاء المسؤولين الحكوميين في بغداد تحت حماية القوات الأميركية، بهدف دعم الأحزاب الحاكمة والمدعومة من إيران.

وكان الحديث عن تغلغل إيران في العراق خلال سنوات الاحتلال الأميركي خجوًلا، لكنه سرعان ما أصبح واقع حال، لدرجة أن الوصف المتداول حالياً، يذهب إلى تأكيد الهيمنة الايرانية على مفاصل الأمن والاقتصاد والسياسة في البلاد.

ثانيًا: رفض تفكيكك الدولة العراقية، حيث تخشى إيران أن يقود الحراك المسلح لهذا الامر، لما يشكله من خطر جسيم على مصالحها الجيوستراتيجية، فهي من جانب، تخشى من قيام دولة سنية معادية تقطعها عن سوريا بشار الأسد وحليفها حزب الله في لبنان، وهذا سيقود حتمًا إلى الحد من نفوذها في دول الخليج العربي، ويضعف من خلاياها النائمة في تلك الدول.

ومن جانب آخر، تخشى من استقلال كردستان العراق، والذي من شأنه أن يدخلها في مخاطر حقيقة، خاصة مع مواطنيها الاكراد الذين تصل نسبتهم 10 % من مجموع المواطنين الإيرانيين، ومن المعروف أن مناطق الأكراد شهدت مواجهات كبيرة على مدى العقود الماضية بين قوات الأمن وحرس الثورة الإيراني من جهة، ومجموعات كردية تطالب بالانفصال من جهة اخرى.

الخاتمة:

على الرغم من تباين الموقف التركي عن الإيراني في التعاطي مع الحراك المسلح في العراق إلا إنهما اتفقا على الحفاظ على وحدته، – فكما اوضحنا آنفًا أن تفكيك العراق لا يصب في مصالح الدولتين الحيوية- ولكي لا يقع مشهد التفكيك، فعلى إيران أن تتبنى مضمون السياسة التركية للحفاظ على تماسك البلاد. وتتلخص هذه السياسة بأن تدار الدولة العراقية من خلال نظام سياسي عراقي جديد، مقطوع الصلة بالنظام الذي ابتدعه الاحتلال الأمريكي للعراق، ويؤمن بصيغة حكم تشاركي بين مكونات المجتمع العراقي، وذلك من خلال إدماج حقيقي للسنة فيه، وتقليص السيطرة الشيعية على النظام السياسي الجديد.

ولتحقيق هذه الغاية، يتطلب من إيران وحلفاؤها من الشيعة العراقيين التسليم بقناعة مفادها أن نهج الإقصاء قاد الى الفشل. وأن لا تظن إيران أيضَا، أن  إبعاد-  وإن حدث- نوري المالكي عن منصب رئيس الوزراء هو أكبر تنازل ممكن تقدمه لنجاح العملية السياسية فيه، فهذا يعد قصور في رؤيتها، لأن المأزق العراقي منذ احتلاله وإلى يومنا هذا، وإن كان مرتبط بأشخاص بعينهم، إلا أن سياساتهم المتبعة في تسيير شؤون الدولة تبق هي الأهم. فما هي الفائدة المرجوة للعراق والعراقيين من إبعاد نوري الماكي، والإبقاء على سياساته مع رئيس وزراء آخر حليف لإيران؟!