د. حسام الدين علي مجيد *
كلية القانون والعلوم السياسية بجامعة صلاح الدين
ينبغي في المستهل الإشارة الى كون المرحلة المنظورة من العمليات العسكرية الدائرة في أطراف مركز العراق، ستجعل الدولة بأسرها في مشهدٍ سياسي جديد وأطرافٍ سياسية جديدة. إذ أنَّ سقوط العاصمة بغداد سيجعل أبواب المشهد العراقي مفتوحةً أمام رياح التغيير ومن مختَلَف الاتجاهات. ومع ذلك، من المرجَّح أنْ تكون الغلبة لِقوى تعديل العملية السياسية القائمة (ثوّار السنّة) وليس لِقوى اجتثاث العملية السياسية (داعش وحلفائهِ)، ذلك لِكون قوى التعديل ستغدو في قابل الأيام هي الأكثر تنظيماً وتنسيقاً فيما بينها، وبخاصةً هي المَعنية باهتمام وعناية الحاضنة الشعبية.
ذلك لأنَّ البيئة السنية بخاصة حين حَضَنتْ تنظيمات الحراك السياسي والحركات المناهضة لحكومة المركز، إنَّما قصدتْ بذلك أصلاً الحركات والتنظيمات النابعة من صميم معاناة المناطق السنّية ومطالبها المشروعة. فالبيئة الشعبية هذه بالرغم من رفضها لسياسات المركز الإقصائية، الإ أنَّ فيها من السِعة والخير ما يُيسِّر التعايش المجتمعي بين المكوِّنات القومية والدينية الأخرى.
كذلك تتمتع قوى التعديل الدينية منها والقومية والعشائرية بكونها ذوات رؤى متناسقة الى حدٍّ ما حول مستقبل العراق، بحيث تدور في فَلك مشترك وهو ضرورة الحفاظ على وحدة الدولة العراقية عبر إنشاء دولةٍ فيدرالية موزّعة الى أربع أو خمس أقاليم ضمن إطار السيادة العراقية، وربّما سيُتيح ذلك مجالاً رَحباً في المستقبل المنظور لِبروز إمكانية تمتع العاصمة بغداد بوضعية قانونية خاصة بوصفها العاصمة الفيدرالية، أي جعلها رمزاً ومشتَرَكاً جغرافياً عاماً لِكافّة المكوِّنات الثقافية والمجتمعية دون استثناء.هذا المنظور لكي يحوَّل الى أرض الواقع، فإنَّهُ سيستلزم من قادة المسلحين توفيرَ عاملَين متلازمَين:
أولهما هو توحيد فصائل المسلحين السنّة وتنظيماتهم، التي تقارب 14 تنظيماً رئيسياً، لجهودها وتوجهاتها السياسية عبر حكومة محلية موحدة في المقام الأول، بحيث تعمل على إدارة وتلبية الاحتياجات المعاشية لِسكنة الإقليم السنّي، وذلك بُغية الهيمنة عليهِ أمنياً ومن ثمَّ جعلهِ متمتِّعاً بالهوية السياسية الجامعة بمرور الزمن ووفقاً لسياسات مدروسة. وفي أثناء ذلك ينبغي تكثيف الجهود العسكرية صوب التخلص من المتطرِّفين واستبعادهم تدريجياً أو عبر المواجهات المباشرة، سواءً في مرحلة ما بعد سقوط بغداد أو في أثناء ذلك. وقد يستكمل هذا العامل الحيوي تبلورهُ بالجهود الذاتية جنباً الى جنب المساعدة الدولية في حال توفر الأخيرة عملياً. وهنا وفي هذه اللحظة الزمنية تحديداً، ربَّما ستبدأ تحركات التحالف التركي-السعودي ومن خلال تأمين الغطاء الجوي للإقليم السني ودعمهِ لوجستياً بغية تأمين التوازن العسكري- السياسي لغير صالح التحالف الإيراني-الروسي-السوري.
ثانيهما عدم قدرة التنظيمات السنّية من الحسم التام لنتيجة معركة بغداد ربّما لأشهر أو حتى لِسنوات، وهو ما سيدفعها بالضرورة الى تركيز مساعيها نحو السيطرة على جانب الكرخ فحسب دون جانب الرصافة من مدينة بغداد. وربَّما كان هذا الموضوع من محاور النقاش في مؤتمر عمّان التمهيدي الذي عُقِدَ في (15-16 تموز 2014)، لهذا تمَّ تحديد مدة شهرٍ أو يزيد لحين عقد “المؤتمر الكبير” الذي سيضع نقاط الثورة على حروفها وسياساتها. أي بعبارةٍ أوضح، لحين ظهور بوادر التقدّم في معركة بغداد وأطرافها. ومن ثمَّ، هناك احتمال جدّ وارد في جعل مكان انعقاد المؤتمر في العاصمة بغداد نفسها، لما لذلك من آثارٍ سياسية وعسكرية واعتبارية على الصعيدَين الداخلي والخارجي. وهذا ما سيُساعد الحكومة المولودة والمجلس العسكري الخاص بهِ من إكتساب الصفة السياسية والشرعية اللازمة لإجراء الحوار مع حكومة إقليم كوردستان، وبقايا حكومة المركز، بهدف التشاور والتعاون حول رسم ملامح جديدة لِمستقبل الدولة العراقية.
ما يؤكد هذا الطرح، وجود إمكانية كبيرة لِسقوط جانب الكرخ بأكملهِ خلال الإيام و ربّما الأسابيع القادمة، وذلك في ضوء إقتراب طلائع المسلحين السنة من القُرى المحاذية لمطار بغداد الدولي عبر محور قضاء المحمودية جنوبي بغداد، وكذلك من محور الضلوعية غرباً، فضلاً على المحور الشمالي المتمثل في مناطق الطارمية والمشاهدة والتاجي. مما يكشف ذلك عن كوننا في الأيام القادمة سنشهدُ معارك ضارية للسيطرة على مطار بغداد الدولي، بالشكل الذي سيقطع اتصال الحكومة العراقية كلياً مع العالم الخارجي. وما يُعزِّز من تبلور هذه الصورة كون المركز وبهدف الحؤول دون قيام ذلك، يحشد المزيد من القوات النظامية والميليشيات ويدفعها صوب بغداد ومن مختلَف الإتجاهات، فمثلاً:
– تعمل حكومة المركز منذ (27 تموز 2014) على السحب التدريجي لقواتها النظامية (دون الميليشيات والصحوات) من مدينة سامراء وبعض مدن الأنبار صوب بغداد.
– يلاحظ أنَّ القوات النظامية وغرف العمليات العسكرية تكاد جميعها تكون تحت إمرة قادة الميليشيات الشيعية ولاسيما ميليشيا “عصائب أهل الحق” التي يقودها (الشيخ قيس الخزعلي).
وفي مثل هذا الوضع الاستراتيجي، من المرجّح أنَّ حكومة المركز ستعمل على نقل كوادرها ومؤسساتها السيادية الى مدينة النجف الأشرف (أو مدينة أخرى)، نظراً لِمكانتها الدينية لدى الطائفة الشيعية، فضلاً على حيازتها لمطارٍ دولي وعسكري يُسهِّل عملية حيازة الدعم اللوجستي من إيران وسوريا بخاصة. ذلك لأنَّهُ في حال تمكُّن المسلَّحين السنة من إسباغ السيطرة على كامل مناطق حزام بغداد، وهو هدفٌ بات في مرمى البصر، فإنَّهم سيكونون بالفعل أدنى من قاب قوسَين للولوج المباشر الى جانب الكرخ، ثم التغلغل في جانب الرصافة وبصورة تدريجية.
بيد أنَّ ما تقدّم ذكرهُ يرتبط بصورةٍ جوهرية بمسألة حيازة السيطرة على مدينة سامراء وبقية الثكنات العسكرية والمناطق في محافظتَي صلاح الدين والأنبار التي تُسيطر عليها القوات الحكومية، لأنَّ ذلك سيوفِّر الزخم والجهد البشري اللازم لإنجاز الهدف المركزي. ومن أجل ذلك، من المتوقَّع أنَّ عملية إكمال السيطرة على مدينة سامراء وربَّما كامل محافظة الأنبار أيضاً ستتم خلال الأيام القليلة القادمة، وهو ما سيساعد المسلحين السنَّة على الدفع بحشودهم العسكرية نحو بغداد، ولاسيما في ظلِّ التراجع العملي للميليشيات الشيعية ناهيك عن قطعات الجيش في صلاح الدين والأنبار.
وهذا كلهُ ربما سيقود خلال الأسابيع القادمة الى إمكانية بروز مجازر طائفية ما بين المتطرفين من كلا الطائفتين، ولاسيما داخل بغداد وتحديداً في: مدينة الصدر ومدينة الشُعلة، نظراً لكونها شيعية صرف، وتُعَّد أبرز روافد الميليشيات الشيعية التي أوجدها نوري المالكي بعد سيطرة داعش على مدينة الموصل في (9 حزيران 2014).
هذه الوضع التاريخي (سقوط بغداد) وضعٌ استراتيجي داخلي ذو إمتداد دولي، إذ أنّه يتمثل في ضعف العراق وإيران وسوريا معاً وفي آن واحد: فمن جانب ستعاني هذه الدول مشكلةً جوهرية وهي عدم المقدرة على تأمين الذخيرة العسكرية ومن ثم التعويض المتواصل للخسائر المادية سواءً من حيث الكميات اللازمة أو السرعة المطلوبة، بغية مواصلة دوران الآلة العسكرية في الساحتَين العراقية والسورية. ثم إن دول الهلال الشيعي هذه جنباً الى جنب المسلحين السنة يكادون جميعاً يستهلكون من عين الذخائر العسكرية ومن عين الخزين الاستراتيجي العراقي-الإيراني، والذي تنفق منه الحكومة السورية نفسها منذ عام 2011 ناهيك عن الخسائر الجسيمة للحكومة العراقية في هذا الخصوص، بالشكل الذي ربّما سيدفع الأخيرة الى الاستسلام السريع خلافاً للتوقعات.
ومن جانب ثانٍي يعد سقوط بغداد بيد المسلّحين السنة بمثابة لحظة انكسار الهلال الشيعي الذي تعمل إيران وسوريا على تشييدهِ منذ نهاية الثمانينيات المنصرمة، إنها بإيجاز لحظة الارتباك والضعف. ففيها مثلاً سيخرج إقليم كوردستان وبصورة مؤقتة من دائرة الحسابات السياسية للعراق وإيران وسوريا نظراً لانشغالها جميعاً بمعالجة مصيبتها الأكبر والمتجسدة في بروز إمكانية نشوء دولة سنية راديكالية تتوسط سوريا وإيران.
مما يعني ذلك، أنَّ إيران وبوصفها الدولة الأكثر معاندةً لفكرة استقلال كوردستان، من المرجح انها وفي ضوء المعطيات السابقة سترضخ لهذه الفكرة خلال الشهور القادمة بخاصة، لِكون إيران ستكون أمام شرّين كبيرَين ستختار الأهونَ منهما: أولهما نشوء دولة سنية راديكالية في كامل العراق ربّما (عدا كوردستان)، بالشكل الذي سيُعيد الإستراتيجية الإيرانية في المنطقة الى عام 1980. أما الشر الثاني فهو تفكك العراق وإستقلال إقليم كوردستان، وبالتالي تقلص طول حدودها السياسية مع الدولة الكوردية الجديدة الى قرابة الثلث من طول حدودها الحالية، ومن ثمَّ التعامل مع هذه الدولةٍ الوليدة على النحو الذي تتعامل به مع: طاجيكستان والبوسنة وألبانيا..الخ. ولعلَّهُ في حال تحقق حيثيات هذا المشهد السياسي من المتوقع أن تعمد إيران الى قبول الإختيار الثاني على مضض لكونه أهون الشرَين بالنسبة اليها.