عالم أكثر خطورة ودمارا.. كيف تغير حربان باردتان وجه السياسة الدولية؟

عالم أكثر خطورة ودمارا.. كيف تغير حربان باردتان وجه السياسة الدولية؟

يشهد العالم حربا باردة جديدة بين الولايات المتحدة وروسيا، منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية قبل ثماني سنوات، فيما قد تتشابك معها حرب باردة أخرى مع الصين في عالم لم يعد أحادي القطب، بحسب تحليل لمجلة “ذا ناشيونال إنترست“، يحث القيادات في واشنطن وموسكو وبكين على تقييم مساراتها بعناية واختبار الاستعداد للتحرك في اتجاه آخر.

فعلى غرار فترة الحرب الباردة المبكرة، اختفت القدرة على تحمّل كل طرف لتصرفات الطرف الآخر، وحمل كل جانب الآخر المسؤولية الكاملة عن انهيار العلاقات، وفقا للتخليل.

لكن الحرب الباردة الجديدة بين الولايات المتحدة وروسيا، تختلف عن الأولى، إذ تشير المجلة إلى أنها ليست مدفوعة بعداء أيديولوجي، بل أنها نشأت بسبب “انغلاق العقول في موسكو وواشنطن بطرق ساعدت بشكل كبير في الانزلاق إلى الكارثة الأوكرانية الحالية”.

وتقول المجلة: “لم يعد أي من الجانبين يحاول جاهدا فهم المخاوف التي تحرك سلوك الطرف الآخر، ولم يعد أي منهما يعتقد أنه من المجدي، كما فعلوا بعد حرب العراق عام 2003، استكشاف أين يمكنهم التوفيق بين مصالحهم الأساسية في حالة حرجة، مثل الأزمة الأوكرانية” من عدمه.

وعلى مدار السنوات الماضية، تم التعامل مع الاتفاقات مثل إزالة الأسلحة الكيماوية السورية أو منع الحوادث الخطيرة خلال العمليات الجوية للبلدين في سوريا، على أنها لمرة واحدة ومجرد معاملات، ولم يتبع أي منهما خطوات صغيرة نحو تحول تراكمي محتمل في مسارهما الحالي، وفقا للتحليل.

فشل في تحديد العلاقة

وتعتبر المجلة أن صانعي السياسات على الجانبين الروسي والأميركي، فشلوا في إدراك هذا التغيير النوعي في العلاقة من العقد السابق، عندما لم يكن أي منهما متأكدا تماما مما إذا كان الآخر صديقا أم عدوا، نظرا لتقلبات الصعود والهبوط بعد توسع الناتو، كما فشلوا في ممارسة القيادة في إنشاء نظام لتحقيق الاستقرار في عالم نووي جديد متعدد الأقطاب، “ما أوصلنا الآن إلى فقدان الإرادة والقدرة على إدارة علاقتهم النووية المعقدة بشكل متزايد”.

ولم يتم استكشاف الاستراتيجيات الخاصة بكيفية عمل اثنتين من أكبر أربع دول مسببة لانبعاثات غازات الاحتباس الحراري معا للتخفيف من التهديدات الناجمة عن تغير المناخ، لا سيما في القطب الشمالي. علاوة على ذلك، تلاشى أي أمل في أن تجد موسكو وواشنطن أنه من الأفضل التعاون في التعامل مع التوترات المتصاعدة بين الولايات المتحدة والصين، بدلا من استغلالها ضد بعضهما البعض.

وأصبح كلا البلدين يفترضان أن الوضع يمكن أن يتغير فقط مع تحول جذري في طبيعة قيادة الطرف الآخر أو على الأقل، إعادة توجيه أساسية لسياسته الخارجية.

تشدد المجلة على أن مغامرة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بغزو أوكرانيا، دفعت بالحرب الباردة الجديدة بين الولايات المتحدة وروسيا إلى مستوى أعمق من الناحية النوعية.

وبعد أن كانت الولايات المتحدة، تسير على نهج “الردع” المقترن بالانفراج، بمعنى محاسبة روسيا عندما تهدد أفعالها مصالح الولايات المتحدة أو حلفائها، ولكن في الوقت نفسه هناك سعي للتعاون في المجالات ذات الاهتمام المشترك، مثل الحد من الأسلحة النووية والمناخ، وفقا للتحليل الذي ذكر أن الإدارة الأميركية غيرت من نهجها بعد بداية الغزو الروسي لأوكرانيا.

ومع استمرار الحرب الروسية على أوكرانيا، انشغلت الإدارة الأميركية أكثر وأكثر في حملة متعددة الأطراف بهدف إضعاف وعزل روسيا دوليا.

وأدت الحرب في أوكرانيا إلى تقليص الخلافات بين الحربين الباردتين، القديمة والجديدة، حيث أدى حديث بوتين الخطير حول الخيارات النووية لروسيا، إلى إحياء المخاوف من حقبة سابقة.

“حرب باردة بين الولايات المتحدة والصين”

أما الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والصين، والتي يحذر التحليل منها، ستعيد تشكيل النظام الدولي بأكمله، بما يحوي من مؤسسات وتحالفات وتدفقات اقتصادية ومناطق صراع أكثر تحيزا، حيث لا يكون فيه تدخل أي من البلدين حينها بهدف السلام وإنما لإضعاف الطرف الآخر، وفقا للمجلة.

ولم تصل الدولتان بعد إلى نقطة المواجهة هذه، “ولكن، ما لم يتم إعادة توجيه الاتجاهات بوعي، فهذا هو المكان الذي تتجه إليه”، بحسب تعبير “ذا ناشيونال إنترست”.

ويشير التحليل إلى تصريحات لقادة في وزارة الدفاع الأميركية، اعتبروا الصين الآن أكبر منافس استراتيجي، بما يتضمن ذلك سرعتها في التسليح التقليدي أو النووي ما يغير من ميزان القوى العالمي.

وتشير تقارير إلى أن الصين تبني 230 صومعة جديدة من الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، ما أثار تحذيرات من أن بكين تسير بخطى ثابتة لمواكبة القوات الأميركية بحلول عام 2030.

وتشير الصين، من جانبها، إلى أن صعودها العسكري لا يجسد فقط عودة البلاد كقوة عظمى ولكن أيضا بمثابة رد على ما تعتبره سياسة خارجية أميركية عدوانية بشكل متزايد.

ويرى البعض أن تركيز الولايات المتحدة على تطوير أسلحة نووية قابلة للاستخدام من أجل “خيارات نووية محدودة”، لا يترك للصين خيارا سوى أن تحذو حذوها.

وبجانب التسابق في التسليح من الجانبين، فإن الاتجاه الرئيسي الثاني في الانزلاق نحو حرب باردة بين الولايات المتحدة والصين هو تسريع تسييس العلاقات الاقتصادية، رغم أن اقتصاد البلدين متشابكان إلى حد كبير ولا يمكن بسهولة تحويل الفوائد المكتسبة من هذه العلاقات إلى أسلحة سياسية.

فحوالي 20 في المئة من البضائع المستوردة التي يستهلكها الأميركيون تأتي من الصين، وتولد التجارة مع الصين ما يقرب من 1.2 مليون وظيفة أميركية، كما وتمول بكين ما يقرب من أربعة في المئة من الدين القومي للولايات المتحدة، ولديها أكثر من تريليون دولار في سندات الخزانة الأميركية.

ومن الجانب الآخر، تظل الولايات المتحدة أكبر سوق تصدير للصين، حيث تستحوذ على ما يقرب من 19 في المئة من إجمالي صادراتها، وهو ما يمثل ثلاثة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للصين.

ومع ذلك، تحذر المجلة من أنه “لم يعد ينظر إلى هذا الاعتماد المتبادل من قبل أي من البلدين على أنه مفيد إلى حد كبير، لكليهما وأصبحت العلاقات الاقتصادية لا يشوبها سوى الخلافات حول ممارسات تجارية محددة، بل وصل الأمر إلى أن كلتا الحكومتين تنظر إليه الآن على أنه تهديد محتمل للأمن القومي”.

وتشير المجلة إلى أنه “في حين أن حرب الرسوم الجمركية التي أطلقتها إدارة (الرئيس السابق دونالد) ترامب كانت مطرقة تهدف إلى إجبار الصين على تصحيح الخلل في تجارتها مع الولايات المتحدة، إلا أنها كانت مصحوبة أيضا بخطوات لقطع العلاقات في مجالات التعليم والبحث، وقائمة الشركات السوداء المرتبطة بالدفاع الصيني ووكالات الاستخبارات، ومعاقبة المسؤولين الصينيين الذين أشير إلى تورطهم في أعمال قمعية في شينغيانغ وهونغ كونغ بفرض عقوبات”. بل أن ترامب قال في عام 2019 خلال حملته الانتخابية لإعادة انتخابه “لسنا بحاجة إلى الصين، وبصراحة، سنكون أفضل بكثير بدونها”.

ومع قدوم إدارة الرئيس الأميركي الحالي، جو بايدن، أرادت الولايات المتحدة تخفيف جوانب الحرب التجارية مع الصين، وفقا للمجلة، لكنها أبقت على عناصر أخرى من سياسة إدارة ترامب المتشددة، حيث أضيفت عقوبات جديدة وأدرجت المزيد من الشركات الصينية على القائمة السوداء لأسباب تتعلق بالأمن القومي أو بسبب انتهاكات حقوق الإنسان.

وحتى أن خطة إدارة بايدن، التي تم الإعلان عنها في يونيو 2021، “لبناء سلاسل إمداد مرنة وتنشيط التصنيع الأميركي”، رغم أهميتها ومحاولتها علاج نقاط الضعف في الاقتصاد الأميركي المعولم، فإن الهدف الأساسي الواضح منها هي مجابهة الصين اقتصاديا.

من جانبها، ترد الصين على كل إجراء أميركي جديد بإجراءات مضادة خاصة بها، مثل قانون مكافحة العقوبات الشامل الذي تم إقراره الصيف الماضي، والذي يستهدف المشرعين الأميركيين المسؤولين عن العقوبات المفروضة على الصين، كما وضع الرئيس الصيني، استراتيجية لوضع بلاده على طريق الاكتفاء الذاتي وتوطين التقنيات الحيوية، بهدف جعل السوق المحلية محرك النمو الاقتصادي للبلاد.

كما تقوم بكين بالانتشار الأمامي في بحر الصين الجنوبي لمنح الصين الهيمنة العسكرية في أول “سلاسل جزر المحيط الهادئ”، فضلا عن التواجد التنافسي في منطقة المحيط الهندي، ومواصلة تنظيم تدريبات عسكرية مشتركة أكثر طموحا مع روسيا في شمال شرق آسيا، ما يؤدي إلى صراع عسكري محتمل مع الولايات المتحدة.

تحذر المجلة من أن التنافس على التفوق التكنولوجي والعسكري والاستفزازات المتوالية، إذا تعمقت، فإن الخطوط المتغيرة للتنافس الجيواستراتيجي المزدهر ستوفر الشكل النهائي للحرب الباردة الجديدة.

ويرى التحليل أن “الطريق مفتوح الآن من الناحية النظرية والعملية لهذه الحرب الباردة الجديدة لتصبح رسمية”.

وإن تحول شكل الحرب الباردة بين البلدين بصورة رسمية، سيتعرض الاقتصاد الدولي للاضطراب الشديد بسبب الحرب الاقتصادية بين البلدين اللذين يمثلان أكثر من 40 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، والمخاطرة بتقسيم الاقتصاد العالمي بأكمله، وستصبح منظمات حكومية دولية رئيسية، مثل الأمم المتحدة، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، وآليات مثل مجموعة العشرين ساحة صراع، وسيسعى كل جانب إلى تقويض تلك التي يفضلها أو ينشئها الجانب الآخر، فضلا عن تأجيج الصراعات الإقليمية وجعلها أقل قابلية للإدارة في أجزاء ذات أهمية استراتيجية من العالم.

الخطر الأكبر

الخطر الأكبر، إذا اندمجت حرب باردة جديدة بين الولايات المتحدة والصين مع حرب باردة ملتهبة بين الولايات المتحدة وروسيا، بحسب المجلة، مشيرة إلى أن “العالم في هذه الحالة سيصبح أكثر دمارا وخطورة مما كان عليه في الفترة الممتدة من أزمة برلين عام 1948 وحتى أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، بسبب العولمة والاقتصاديات المتشابكة في العالم وسلاسل التوريد المعولمة”.

ونظرا لارتفاع تكاليف الفرصة البديلة في الحرب الباردة العميقة بين الولايات المتحدة وروسيا، “فإن تطور العلاقات بين الولايات المتحدة والصين سيكون العامل الوحيد الذي ينتج أو يمنع قيام عالم ثنائي القطب بائس مدفوع بحربين باردتين مدمرتين”، بحسب المجلة.

ورغم اعتقاد الرئيس الصيني بأن الولايات المتحدة والغرب في حالة تدهور لا رجوع فيه، وإيمان الرئيس الأميركي بأن الصراع بين الاستبداد الصيني والديمقراطية الأميركية وجودي يجعل إيجاد أرضية مشتركة أكثر صعوبة، فإن كلا المنظورين يخلقان أيضا حتمية بأن يظل التحدي الذي يراه كل منهما أقل من أن يشعل النار الرماد، وفقا للمجلة.

ويشدد التحليل على ضرورة إطلاق حوار استراتيجي نشط ومستمر، بين الولايات المتحدة والصين، لاستكشاف كيف يتخيل كل طرف المسارات التي من شأنها أن تؤدي إلى حرب نووية، وأنظمة واستراتيجيات الأسلحة التي قد تخاطر بذلك، والتدابير المحتملة التي من شأنها أن تقلل منه.

ويضيف “على كلا البلدين أيضًا إعادة ضبط الطريقة التي يغيران بها سياق الحرب التقليدية في شرق آسيا، حيث يجب على الصين أن تخفف من تحركاتها نحو المطالبة بمضيق تايوان كمياه إقليمية، ويجب على الولايات المتحدة ممارسة ضبط النفس وتقلل من عملياتها العسكرية في ردها على الأعمال العسكرية الصينية”.

الحرة