نشر مركز “سترافور” الأمريكي للدراسات الأمنية والاستخباراتية (الذي يوصف بالمقرب من المخابرات الأمريكية) تحليلا على موقعه أكد فيه أن القرار الروسي بوقف الغاز الطبيعي عبر خط أنابيب “نورد ستريم 1”سيؤدي إلى إجبار الحكومات الأوروبية على إعطاء الأولوية لجهود تخفيض الطلب قبل فصل الشتاء، بالإضافة إلى زيادة الدعم المالي للأسر والمرافق.
وفي 5 سبتمبر/أيلول، أعلن ديمتري بيسكوف المتحدث باسم الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”، أن إمدادات الغاز الطبيعي إلى أوروبا عبر خط أنابيب “نورد ستريم 1” لن تستأنف بالكامل حتى يرفع الغرب العقوبات ضد روسيا بسبب غزوها لأوكرانيا.
وقفزت أسعار العقود الآجلة للغاز في أوروبا، في أعقاب إعلان 5 سبتمبر/أيلول، قبل انخفاضها في وقت لاحق من ذلك اليوم مع اعتماد المتداولين على المخزونات الاحتياطية الأكبر للغاز في جميع أنحاء أوروبا، وتخطيط الاتحاد الأوروبي للتدخل للسيطرة على ارتفاع الأسعار.
وناقش وزراء الطاقة الأوروبيون في 9 سبتمبر/أيلول، مقترحات للحد من أسعار الطاقة وتنسيق تعاملهم مع التصعيد الروسي الأخير. وركز الاجتماع على وضع سقف لأسعار الغاز الروسي وأسعار الكهرباء التي يتم توليدها من مصادر غير الغاز الطبيعي، ودراسة خطط فرض ضرائب على إيرادات شركات الطاقة التي تبلغ تكاليف إنتاجها أقل من أسعار البيع في السوق.
ويعتبر “بيسكوف” أحدث مسؤول روسي رفيع المستوى يلمح علانية إلى أن تباطؤ تدفقات الغاز إلى أوروبا له دوافع سياسية، مما يتناقض بشكل مباشر مع تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وتأكيد شركة “غازبروم” أن مشاكل الإمداد ترجع إلى أسباب فنية خارجة عن سيطرتها.
ويشير التحليل إلى أنه قبل بيان “بيسكوف”، كانت “غازبروم” قد أعلنت بالفعل في 2 سبتمبر/أيلول أن “نورد ستريم 1” (الذي يربط روسيا بألمانيا عبر بحر البلطيق) سيبقى متوقفًا لأجل غير مسمى بسبب مشاكل في خط الأنابيب تم اكتشافها أثناء الصيانة، وتراجعت بذلك عن موعد لاستئناف التدفقات في 3 سبتمبر/أيلول.
لكن التحليل يؤكد أن بيان “بيسكوف” الأخير والذي حددت فيه موسكو طلبات واضحة لإعادة تشغيل الخط يتعارض بشكل مباشر مع تأكيدات “غازبروم” بأن انقطاع الإمدادات نتيجة مشاكل فنية (وليس تكتيكات ضغط سياسي)، مما قد يقوض بشدة ادعاءات شركة الغاز الروسية بوجود ظروف قهرية أخلت بالعقد في إجراءات التحكيم النهائية.
وفي أعقاب إعلان “بيسكوف” الأخير، قال نائب الرئيس التنفيذي لشركة “غازبروم” إن عمليات التسليم لن تستأنف حتى تقوم شركة “سايمنز إنيرجي” بإصلاح مشاكل خط الأنابيب؛ مما يبقي الباب مفتوحًا لتراجع استراتيجي محتمل عن قطع الغاز.
وبحسب التحليل يبدو أن روسيا تصعد استخدامها لإمدادات الطاقة كسلاح؛ استجابةً لانخفاض أسعار الطاقة في أوروبا والخطط الغربية لفرض قيود على أسعار النفط والغاز الطبيعي الروسي.
ومن المرجح أن الخطوة الروسية الأخيرة جاءت ردا على الاتفاقية التي توصلت إليها مجموعة الدول الصناعية السبع في 28 أغسطس/آب بشأن فرض سقف على أسعار النفط الروسي، استباقا لدراسة المفوضية الأوروبية أيضًا لتقييد أسعار غاز خطوط الأنابيب الروسية.
وربما تسببت أيضًا زيادة المرونة الأوروبية أمام تهديدات قطع الغاز الروسية في إقناع موسكو بالحاجة لمزيد من الضغط.
وقبل بيان “بيسكوف”، حافظت روسيا على الغموض بشأن سعة الـ 20% المتبقية من “نورد ستريم 1″، وتركت هذه الاستراتيجية الأسواق والحكومات الأوروبية تخمن المدة التي ستظل فيها الإمدادات متوقفة، وكذلك مدى التخفيض ومقداره بمجرد عودتها إلى العمل في كل مرة تعلن فيها “غازبروم” عن صيانة غير مجدولة لخط الأنابيب.
ولكن في 31 أغسطس/آب، عندما بدأت “غازبروم” في إيقاف تشغيل “نورد ستريم 1” لتنفيذ أحدث صيانة غير مخطط لها، انخفضت أسعار الطاقة فعليًا في أوروبا لأول مرة منذ شهور؛ مما يشير إلى أن جهود الاتحاد الأوروبي لتنويع الإمدادات وخفض الاستهلاك وملء مخازن الغاز قبل الشتاء، أحدثت أخيرًا تأثيرًا على السوق.
ويشير التحليل إلى أنه بالرغم من الانخفاض الأخير، إلا أن أسعار الطاقة الأوروبية لا تزال مرتفعة ومتقلبة بسبب استمرار عدم اليقين بشأن الإمدادات الروسية.
وبحسبه فمن المرجح أن تستأنف روسيا تزويد الغاز لأوروبا في مرحلة ما من الخريف، وتؤجل القطع الأوسع للغاز لفصل الشتاء عندما يصل الطلب إلى أقصاه لجعل التأثير أكبر ما يمكن.
ومن شأن مثل هذا الاستئناف أن يمنح موسكو المزيد من النفوذ لوقف شحنات الغاز الطبيعي مرة أخرى، ويدل التعليق الحالي على استعداد روسيا للقيام بذلك.
أما إذا لم تعد روسيا فتح خط أنابيب “نورد ستريم 1″، فقد تقترب الأسعار مرة أخرى من المستويات القياسية التي شوهدت في أغسطس/آب، عندما يزداد الطلب على التدفئة خلال الأشهر المقبلة.
وبالرغم من تنامي المخزونات، فإن الإمدادات إلى أوروبا ما تزال محدودة، مما يزيد من احتمال فرض تدابير إضافية في جميع أنحاء أوروبا هذا الشتاء. ويهدد ذلك بتسريع الإرهاق من الحرب بين سكان أوروبا.
وإذا استمر ذلك لفترات طويلة، فإن هذا الإرهاق قد يؤدي في النهاية إلى تآكل التضامن الأوروبي مع أوكرانيا.
وعن خطط الاتحاد الأوروبي ومخاطرها يرى المركز الاستخباراتي أنه استجابة لهذا التهديد الذي يلوح في الأفق، يدرس الاتحاد الأوروبي العديد من التدابير، بما في ذلك وضع سقف لأسعار الغاز على مستوى الاتحاد الأوروبي. لكن ذلك قد يؤدي إلى نتائج عكسية عبر تشجيع الطلب؛ مما يفاقم أزمة الطاقة التي تسببت فيها روسيا في أوروبا.
وتزايدت مؤخرًا مطالب وضع حل على مستوى الاتحاد الأوروبي، حيث إن التدخلات المنفردة للسيطرة على أسعار الطاقة في أوروبا أثبتت أنها غير فعالة وغير مستدامة. وتشمل الخطط الحالية وضع سقف لأسعار الغاز، وقد يأتي ذلك في شكل فرض سقف للتكاليف التي يدفعها مستهلكو الاتحاد الأوروبي أو وضع حد لما يمكن دفعه للغاز المستورد من روسيا.
ومع ذلك، فإن تنفيذ أي من هذه الخيارات قد يكون مخاطرة، حيث إن الخطة الأولى قد تنتهي في نهاية المطاف بتعزيز الطلب، في حين أن الخطة الأخرى قد تؤدي إلى تفاقم أزمة الطاقة في أوروبا عن طريق دفع موسكو إلى الانتقام.
وسيؤدي وضع سقف لأسعار الغاز على مستوى الاتحاد الأوروبي إلى تزايد الطلب عن طريق جعل الغاز أرخص بشكل مصطنع، وهو عكس ما يحاول الاتحاد الأوروبي تحقيقه. من ناحية أخرى، فإن فرض حد أقصى للأسعار على روسيا مباشرة يخاطر بخلق ظروف قهرية تهدد العقود مع “غازبروم”، مما يوفر أسبابًا قانونية لروسيا لمزيد من تعطيل الإمدادات.
وبالنظر إلى مخاطر فرض سقف لأسعار الغاز على مستوى الاتحاد الأوروبي، يظل من المرجح تقديم دعم مالي للأسر والمرافق لمواجهة ارتفاع تكاليف الطاقة.
ويدرس قادة الاتحاد الأوروبي أيضًا فرض ضرائب استثنائية على شركات الطاقة التي تكاليف إنتاجها أقل من أسعار بيع السوق. ويبدو أن هذا هو الخيار المفضل لكل من فرنسا وألمانيا مقارنة مع وضع سقف للأسعار على مستوى الاتحاد الأوروبي.
من المرجح أن يتم فرض مثل هذه الضرائب على شركات الطاقة التي لا تعتمد على الغاز لإنتاج الكهرباء، وستستخدم حكومات الاتحاد الأوروبي بعد ذلك عائدات هذه الضرائب لتمويل برامج دعم المرافق والمستهلكين من خلال المساعدات النقدية المباشرة بدلا من دعم أسعار الطاقة ذاتها.
ومع ذلك، يختتم التحليل، يبدو أن تمويل الكثير من هذا الدعم سيتم عبر الديون السيادية، والتي من المحتمل أن تؤخر خطط الاتحاد الأوروبي لتقليل نسبة الديون إلى الناتج المحلي الإجمالي بعد الارتفاع في الاقتراض العام أثناء الوباء.
القدس العربي