العمالة الوافدة في دول الخليج، هي أحد أهم مظاهر الازدهار الاقتصادي والتنمية الاقتصادية المتسارعة.
هذه الدول، محدودةُ السكان، ما كان بوسعها أن تحقق في غضون أقل من نصف قرن نهضة عمرانية تؤهلها لتكون مراكز مالية وتجارية وخدمية وسياحية عالمية من دون تلك العمالة. وهي تجاوزت في أعدادها أعداد المواطنين، حتى أثارت مشكلات جديدة من قبيل اختلال التوازن الديموغرافي، وارتفاع معدلات توظيف الأجانب، وتفشّي أنماط من الجريمة لم تكن مألوفة في المجتمعات الخليجية. ومن ثم، جاءت الانتهاكات التي يتعرض لها العمال الأجانب، لتكون واحدة من بين أبرز هذه المشكلات. فعلى الرغم من أنها ظلت محدودة، قياسا بالمشكلات الأخرى، إلا أن التغطية الإعلامية، والاهتمامات، المقصودة في إفراطها، من جانب المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان، جعلت من هذه الانتهاكات قضية أولى، وصنعت صورة أبعد من أن تكون صورة متكاملة.
وبالنظر إلى أعدادها الضخمة، وسعة انتشارها، ومجالات الأعمال التي تنخرط بها، فنحن هنا إنما نتحدث عن “مجتمعات” تتوازى فعليا، من حيث أهميتها الاقتصادية ومكانتها الديموغرافية، مع “المجتمعات الأصلية”.
والمعنى من ذلك، هو أن الانتهاكات والجرائم التي يمكن أن تحدث في أيّ مجتمع، فمن الطبيعي توقع حدوثها في “المجتمع الآخر”. وبالنظر إلى أن العمالة الوافدة تظل “هامشية” من حيث النظرة الاجتماعية لها، فإن تعرضها لأعمال التمييز والانتهاكات يظل أسهل. كما أن دورها “الوظيفي” الذي يجعلها بمنزلة “الخدم” يزيد من تلك السهولة.
كل هذا إنما يعني أن هناك حاجة إلى وضع ضوابط وقوانين تكفل حقوق العمالة الأجنبية وتبعدها عن التعرض للتمييز أو عدم المساواة، أو الانتهاكات الأخرى.
خادمات المنازل، هن الفئة الأكثر ضعفا، والأكثر عرضة للاستغلال والانتهاكات، بما فيها الاعتداءات الجسدية والجنسية. وهن الفئة الأكثر لفتا للانتباه، ليس لأنهن الأضعف فحسب، بل لأن الانتهاكات التي يتعرضن لها صارخة في معظم الأحوال. وفي الحقيقة، فإن العديد من قضاياها يلفت الانتباه لأنها صارخة بالفعل، وقد تبلغ حد القتل أو التعذيب، فضلا عن احتجاز جواز السفر، وحجب الأجور. وتقتضي الشجاعة القول إن الكثير مما لا يطفو على سطح الانتباه والعلن، ليس أقل ضررا على الإطلاق.
نحن نستدعي العمالة لأننا بحاجة إليها كما أننا نوظفها لأجل أن نحقق من خلالها نموا اقتصاديا ونوفر لأنفسنا فرصا أفضل وأوسع لبناء الثروة وهذا وحده يكفي لتبديد فكرة أنهم بمنزلة “الخدم”
تُقرّ بذلك، ولكن لتُقر أيضا، بأن الصورة الكاملة ليست مشوهة إلى هذا الحد. الملايين، يؤدون أعمالهم، وتُوفّى لهم حقوقهم على نحو مقبول، ولو بوجه عام.
الكثيرون منهم يختارون معيشة الحرمان، لأنهم إنما يعملون، ليس من أجل رفاهيتهم الخاصة، وإنما من أجل تحويل عائدات عملهم إلى أسرهم في أوطانهم الأصلية، ولكي يعودوا إليها ويبنوا حياة جديدة مما جمعوه من تلك العائدات.
الصورة، إذن، مختلطة تماما. ليست كلها سوءا. وليست كلها خيرا عميما. واختلاطها نفسه هو ما يستوجب الانشغال، بالأطر القانونية التي يعمل ويعيش في كنفها الوافدون الأجانب.
الحاجة إليهم سبقت التشريعات التي تكفل لهم أوضاعا تحول دون ظهور انتهاكات. ومواجهتها هي نفسها، وليس فقط أعمال تشويه الصورة التي تتعمدها بعض المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان، تستحق الآن أن تؤخذ في نطاق القوانين التي تكفل كبح الانتهاكات، بل وتجريمها، فتتوقف عن أن تكون ظاهرة، تطغى على العلاقة مع العمالة الوافدة، وتتوقف عن أن تكون أداة من أدوات الاستغلال السياسي والدعائي من الخارج.
نحن نستدعي هذه العمالة لأننا في حاجة إليها. كما أننا نوظفها لأجل أن نحقق من خلالها نموا اقتصاديا، ونوفر لأنفسنا فرصا أفضل وأوسع لبناء الثروة.
هذا وحده يكفي لتبديد فكرة أنهم بمنزلة “الخدم”. الخدم أنفسهم يستحقون منزلة، في المنظور الاجتماعي والحماية القانونية، أرقى ممّا هي عليه الآن. نحن نحتاجهم أيضا. ويتعين أن تكون هناك ضوابط صارمة، تكفل حسن التعامل معهم وحسن تشغيلهم، وأن تنتظم خدماتهم في إطار تعاقدي واضح الحقوق والالتزامات.
الخادمة، ليست “من ملك اليمين” لأنك لم تشترها لتكون أَمَة من إماء الخليفة الأموي الذي قد تعتقد أنك على سويته. إنها موظفة، تعمل في المنزل، على غرار الموظفة التي تعمل في الشركة أو المكتب. وعامل النظافة، ليس في منزلة وضيعة. الذي يحتاجه، ولا يعرف كيف يزيل بنفسه ما يراكمه من أوساخ، يجعل من نفسه هو في وضع مؤسف.
جئتُ إلى بريطانيا قبل ثلاثة عقود ونيف. لفت انتباهي حينها، أن عمال النظافة الذين يرفعون القمامة، إنجليز حصرا، أو في الغالب. هم من الطبقة العاملة طبعا، أو ممن تعارف البعض على تسميتهم “كوكني”.
وبالنظر إلى أن فكرتي عن عمال النظافة، كانت فكرة خليجية، سألت جارتي وكانت شرطية متقاعدة: كيف؟ فجاءني تفسيرها على وجهين: الأول مادي. والثاني فلسفي.
المساواة في الحقوق بين العمالة الوطنية والعمالة الوافدة، تحتاج هي الأخرى، إلى تشريعات، ولكن بما لا يقل أهمية عنها، تحتاج إلى إعادة حساب أيضا
من الناحية المادية أجور عمال رفع القمامة أعلى من سواها. ومن الناحية الفلسفية، فهي أن المجتمع يجب أن يتعلم كيف يرفع قمامته بنفسه، فلا يترفّع عن أيّ عمل يخدم به وجوده. وهي الفكرة ذاتها التي تراها أينما شئت في لندن، حيث ترى في كل حي راق من أحيائها، يقطنه “ذوو الياقات البيض”، مجمعا سكنيا أو سلسلة منازل تابعة للبلدية يقطنها “ذوو الياقات الزرق”. فلسفيا، إنما يعني الأمر صنع نسيج اجتماعي متكامل، يعرف بعضه بعضا ويتعايش معه، وليس على غرار الأحياء الغنية المعزولة والمغلقة في الولايات المتحدة، التي توازيها أحياء مستقلة للفقراء والمشردين حيث تتفشى الجريمة.
الجانب الأهم من هذه المفارقة، إنما يتعلق بالموقف الاجتماعي الخليجي من العمل. مجتمعات الثراء الخليجية، لا تتعفف عن أن ترفع قمامتها بنفسها فحسب، ولكنها تهين الذي يرفعها لها أيضا. وهذا كثيرٌ حقا. ومبالغٌ في غطرسته.
إصلاح الموقف الاجتماعي من العمل يتطلب وقتا، وموقفا فلسفيا مختلفا، وجهدا منظما من وسائل الإعلام والمؤسسات الاجتماعية. ولكن إصلاح الوضع القانوني، لتنظيم حقوق ورعاية ومساواة العمالة الوافدة، يمكن القيام به الآن. ولا شيء يبرر الإبطاء فيه.
في الواقع، فإن القوانين، لا تكفل ردع الانتهاكات فحسب، ولكنها تؤدي دورا مركزيا في إعادة صياغة الموقف الاجتماعي من العمل أيضا. وهذا مفيد اقتصاديا.العامل الوافد الذي يعود إلى موطنه، وترك خلفه موقفا اجتماعيا حديثا من العمل، سوف يحلّ محله مواطن، يحميه القانون ويحميه الموقف.
المساواة في الحقوق بين العمالة الوطنية والعمالة الوافدة، تحتاج هي الأخرى، إلى تشريعات، ولكن بما لا يقل أهمية عنها، تحتاج إلى إعادة حساب أيضا. أعني، قسمة وضربا وطرحا وجمعا فعليا. أحد أبرز الفوائد، يظهر في المنافسة على الأفضل، وفي تطوير الكفاءات الوطنية. العائد الاقتصادي منها عالٍ للغاية. فبدلا من أن تبني مجتمعا كسولا يراهن على خبرات وكفاءات الآخرين، فإنك تبني مجتمعا يرعى ويطور خبراته وكفاءاته بنفسه، ويشجع على إحلال العمالة الوطنية، محل العمالة الوافدة، كلما سنحت الفرصة. المساواة تكفل تحقيق هذه الغاية. أعط مهندسا وافدا نفس الراتب ونفس الدور والمكانة الذي تعطيه للمواطن، وسترى ماذا سيحل بكلية الهندسة في المنقلب التالي.
أعدادنا قليلة واحتياجاتنا التنموية كثيرة. الله غالب. ولكننا يمكن أن ننافس. وهناك أجيال أخرى ستأتي، وهي في حاجة إلى قاعدة قانونية تضمن لها الوقوف على أرض صلبة، لا تمييز فيها ولا انتهاكات، ولا نكون بسببها عرضة لأعمال الابتزاز والتشنيع، من جانب جهات، نعرف جميعا أنها لا تريد لنا الخير. تريد التشنيع فقط.
بعض الشجاعة سوف يقتضي القول: إننا لا نريد الخير لأنفسنا عندما نتبنى فلسفة تهين العمل وتهين من يقوم به.
العرب