تعتقد الولايات المتحدة ومعها إسرائيل أنهما وعبر الضربات العسكرية التي يوجهانها إلى قطعات عسكرية تتمركز فيها ميليشيات إيران في سوريا، إنما يخففان من درجة التمدّد الإيراني في هذا البلد، والواقع أن الحلول العسكرية لم تجد نفعا حتى الآن في إيقاف إستراتيجية في التغلغل على مدى الخارطة السورية شرقا وجنوبا وغربا كواحدة من أدوات القوة الناعمة للمشروع الإيراني.
دمشق – كثرت التساؤلات في الآونة الأخيرة عن السبب وراء ارتفاع معدل الغارات الجوية الأميركية والإسرائيلية التي تستهدف الميليشيات الإيرانية وأذرعها في سوريا، حتى بدأت تظهر تحليلات تتحدث عن اقتراب اصطدام مباشر ما بين الإيرانيين والإسرائيليين في المنطقة ذاتها، والغرض المعلن لتلك الضربات هو حرص الطرفين على تقليص العمليات الإيرانية في جميع أنحاء البلاد، إلا أن الواقع يقول غير ذلك.
وفي تقرير له نشر مؤخرا، ركّز ”معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى” على رد الولايات المتحدة على الضربات التي تعرضت لها قاعدة التنف في البادية السوري، بطائرات مسيرة تابعة للميليشيات المدعومة من إيران وهي أول غارة جوية أميركية في سوريا منذ أكثر من عام.
بينما وسّعت إسرائيل من غاراتها الجوية المتكررة، واستهدفت مطار حلب في الحادي والثلاثين من أغسطس، وهاجمت مطارات دمشق، وكانت تعلن أن غاراتها شنّت لعرقلة عمليات نقل الأسلحة الإيرانية وتخزينها في هذه المطارات.
المؤشر اللافت الذي يفسّر التصعيد العسكري هو تعاظم وتيرة الأعمال العسكرية الإيرانية في سوريا خلال الأشهر الماضية، حسب تقرير معهد واشنطن، إضافة إلى مناورتها هذه باستمرارها بنقل الأسلحة إلى “حزب الله” اللبناني.
غير أن تلك الضربات العسكرية الإسرائيلية والتي أرادت لها إسرائيل أن تكون كعمليات جراحية لاستئصال إيران من سوريا يبدو أنها لا تحقق أهدافها، فإيران جهودها متواصلة لإعادة تشكيل المنطقة العربية، انطلاقا من سوريا، وهو ما يؤكده السوريون في غرب البلاد، ما يعني فوز إيران باللعبة في نهاية المطاف عبر قوتها الناعمة.
دور إيران في سوريا استطاع التكيّف مع حدثين رئيسيين وقعا في الآونة الأخيرة. يتعلق التحول الأول بالتداعيات الممتدة للحرب الروسية – الأوكرانية، التي غيّرت شكل العلاقات الروسية – التركية، وكذلك الأولويات الروسية في سوريا نفسها. أما الحدث الرئيسي الآخر فهو زيارة بايدن إلى الشرق الأوسط والمحاولات الجارية لبناء تحالفات إقليمية قوية في مواجهة إيران.
على المستوى الأول، استطاعت الحرب الأوكرانية تضييق الخناق الدولي الذي تقوده الدول الغربية على روسيا، منافسة إيران في سوريا، بحيث ردّت الدول الأوروبية والولايات المتحدة بشكل مختلف تماما عن ردودها السابقة على المناورات الروسية. فأدى هذا كله إلى تغيّر الاستراتيجيات الروسية التي نحت باتجاه الاستعداد للتنسيق مع المصالح التركية والإيرانية داخل سوريا.
كما أن عجز روسيا عن الوصول إلى مصادر أسلحة بديلة، دفعها إلى اللجوء إلى إيران للحصول على طائرات مسيرة تستخدمها في الحرب في أوكرانيا، وما الانحسار الروسي في سوريا عن مناطق نفوذها إلا إخلاء للمجال أمام الإيرانيين بمقابل دعمهم.
أما زيارة بايدن الأخيرة إلى المنطقة، والتي ركزت على إسرائيل والمملكة العربية السعودية، فقد أثّرت على تعزيز التقارب بين روسيا وإيران في سوريا، وبعد حديث طويل وصاخب عن التصدي لمشروع إيران في المنطقة العربية، وجدت روسيا فرصة مواتية لمنح طهران سلطة أكبر في سوريا لتوسيع نفوذها وعملياتها.
إيران تستهدف الأطفال والشباب في محاولة لتشكيل ما تسميه نظرة الجيل الجديد إلى “الجمهورية الإسلامية”
فسح المجال أمام إيران إثر التطورات آنفة الذكر، لتتمدد أكثر في غرب سوريا، لتحاول تطوير الصواريخ التي يملكها “حزب الله” من نسخ عادية إلى صواريخ دقيقة. وبالطبع، يسبب هذا الاحتمال قلقا كبيرا لإسرائيل. فضلا عن ذلك، إيران مصممة على تكثيف جهودها ودعم حلفائها اللبنانيين والسوريين، وعلى اختبار قدراتها الصاروخية، التي تمتلك ترسانة كبيرة منها، على الأراضي السورية وأحيانا في العراق، كما حدث عندما قصفت أربيل هذا العام.
المحاولات الإيرانية لتغيير قواعد اللعبة من خلال إطلاق نظام دفاع جوي لحماية مصالح طهران العسكرية في سوريا سبق وأن دفعت الإسرائيليين إلى استهداف موقع بالقرب من طرطوس في سوريا في يوليو الماضي.
لا يقلق إيران ذلك الاستهداف، فهي تحتفظ بأكثر من 20 ألف عنصر من الميليشيات المسلحة في المنطقة، مع تمركز الكثير من هذه القوات في مناطق رئيسية في سوريا، وتحديدا دمشق وحلب ودير الزور.
تستعمل إيران سلاحها الفتاك الأكثر خطورة من الصواريخ، حسب اعتقاد منظريها، وهو الذي تأسست عليه “تصدير الثورة“، وقد نجح الأمر كما يعتقد الإيرانيون في بلدان عديدة من قبل، مثل العراق واليمن ولبنان. أما سوريا، ذات الأغلبية المسلمة السنية، فتشعر إيران أنها ضرورية لاستكمال مشروعها الشيعي في الشرق الأوسط، وإن لم تفعل فإن وضعا معاكسا لن يكتب النجاح لبسط نفوذها بالكامل.
اجتماعيا وأيديولوجيا، تعمل إيران على المجتمع السوري، من خلال تعزيز نفوذها في الأضرحة الموجودة وبناء أضرحة جديدة مثل ضريح السيدة زينب في دمشق. وفي مناطق مثل دير الزور ذات الغالبية السنية المطلقة، فقد عملت على تغيير تركيبة المنطقة من خلال جذب الشباب إلى ميليشياتها ومحاولة تغيير مذهبهم بواسطة المخصصات الاجتماعية أو الأنشطة الثقافية. وتشمل هذه الأخيرة “كشافة المهدي” ودورات تحفيظ القرآن ودروس اللغة الفارسية والرحلات إلى الأضرحة التي بنيت مؤخرا مثل ضريح عين علي، علاوة على استقدامها لعناصر الميليشيات الأفغان والعراقيين وغيرهم من خارج سوريا وإسكانهم في تلك المناطق الحساسة التي تستهدفها.
وسجّلت إيران لنفسها بعض النجاح الجزئي، بإغلاق سوق العمل وفتح الباب للتطوع في ميليشياتها لشباب المنطقة المحاذية للعراق، والتي يتقاطع مواطنوها عشائريا وقبليا مع سكان غرب العراق العرب السنة، غير أن غالبية الأهالي يجزمون بأن إيران غير قادرة على تشييع المنطقة رغم صبرها الطويل وجهودها الحثيثة، في الوقت الذي يتحدثون فيه عن ”أنشطة تبشيرية“ إيرانية في القرى والأرياف، مع تطوير إيران لطريقة خاصة للحفاظ على أجور مقاتليها، إذ تبنّت نهج نظام الأسد في تمويل نفسه من خلال تجارة الكبتاغون عبر أكثر من 50 موقعا لتصنيع المخدرات ينتج الكبتاغون والميثامفيتامين والحشيش.
لا توجد استراتيجية واضحة لمواجهة إيران في سوريا لدى الولايات المتحدة وإسرائيل، فالضربات لم تعد تجني تكاليفها، والغارات الجوية الأخيرة التي شنّتها الولايات المتحدة والتحالف يومَي الثالث والعشرين والرابع والعشرين من أغسطس الماضي قصفت الطائرات الحربية الأميركية عبرها عدة أهداف في دير الزور، من بينها أهداف إيرانية في جزيرة ”حويجة صقر“ وسط نهر الفرات الذي يمر عبر مدينة دير الزور.
وتم استهداف موقع آخر للميليشيات الإيرانية في صحراء الميادين في ريف دير الزور الشرقي، بينما استهدفت غارة للتحالف الدولي عدة نقاط على ضفة الفرات في ريف دير الزور الشرقي. وجاءت هذه الغارات الجوية في أعقاب غارة أميركية على مستودعات ”عياش“ في ريف دير الزور الغربي، وشكلت ردا أميركيا على الاستفزازات الإيرانية من خلال هجوم صاروخي على قواتها شرق الفرات.
عجز روسيا عن الوصول إلى مصادر أسلحة بديلة، دفعها إلى اللجوء إلى إيران للحصول على طائرات مسيرة تستخدمها في الحرب في أوكرانيا
بدت تلك الغارات عقابية والقصد بها كان توجيه رسالة إلى إيران تحذّرها من توسيع مناطق نفوذها في شرق الفرات، والحؤول دون نقل الصواريخ إلى “حزب الله”، خصوصا عبر المستودعات. في المقابل، لم يتخذ أي طرف أي تدابير جدية للحد من نفوذ إيران في غرب الفرات.
وفي ظل غياب أي ردع للموجة الإيرانية بدأت نتائج المخطط الإيراني تتبلور، إذ أصبح من الممكن الآن رؤية معالم إيرانية في مدينة الميادين الغربية على سبيل المثال، والمراكز الثقافية الإيرانية والحسينيات وبناء الأضرحة يؤشر إلى الرؤية التي تتبناها إيران إلى ما هو أبعد من توسعها العسكري، والكثير من السكان يخشون اختراقا أيديولوجيا إيرانيا حقيقيا ومتناميا ومتعمدا، ويناشدون الولايات المتحدة مساعدتهم على الحفاظ على تراثهم الثقافي وهويتهم العربية، بينما تسد الأخيرة آذانها عن نداءاتهم، لذلك قرروا اللجوء إلى العمل المدني سبيلا أوحد لمواجهة إيران.
الجهود المجتمعية لصد الهجوم الإيراني تتمثل الآن في عمل الناشطين والإعلاميين في دير الزور الذين يسعون لفضح أنشطة الميليشيات الإيرانية وأساليب القوة الناعمة التي تستخدمها إيران عبر وسائل الإعلام المحلية. وقد لعبت هذه التغطية الإعلامية دورا بارزا في الحؤول دون انجرار السوريين عبر تجنيد رجال القبائل في الميليشيات الإيرانية لخدمة الأجندات السياسية والعسكرية للنظام، وفي الوقت نفسه محاولة تغيير مذهبهم لخدمة أجندة إيران الطائفية.
ولكن يخشى هؤلاء أن كل تلك الجهود المحلية لمواجهة النفوذ الإيراني ستذهب سدى إذا لم تحظ بدعم خارجي، فهم بلا إمدادات، في الوقت الذي تعمل فيه إيران بسياسة النفس الطويل، وتستهدف الأطفال والشباب في محاولة لتشكيل نظرة الجيل الجديد إلى ”الجمهورية الإسلامية“.
العرب