ألقى الرئيس بايدن خطاباً أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، قبل أسبوع، أدان خلاله الحرب الروسية وأوضح أن الولايات المتحدة ستواصل دعمها لأوكرانيا. وقال: «اخترنا الحرية، واخترنا السيادة». وأضاف: «وقفنا إلى جانب أوكرانيا». في أعقاب التهديد النووي الأخير لفلاديمير بوتين واستدعاء جنود الاحتياط، بدا من المطمئن أن زعيم العالم الحر ظلَّ على ثباته ولم يتزعزع.
وبغض النظر عن الخطاب، صدرت إشارات عن الإدارة عبر صور متنوعة بخصوص أن تهديدات بوتين قد حدَّت من الدعم الموجه لأوكرانيا. ويتحدث أفراد فريق السياسة الخارجية المعاون لبايدن عن وضع حواجز حماية في إطار الصراع، ويهنئون أنفسهم على زيادتهم البطيئة في المساعدات الموجهة لأوكرانيا على نحو لا يثير استفزاز بوتين.
ويخبر المسؤولون الحكوميون الصحافيين أنهم أرسلوا تحذيرات خاصة منذ شهور إلى الروس بشأن استخدام الأسلحة النووية. ومع ذلك، يبدو الرئيس نفسه قلقاً على الصعيد العلني، وأكد مراراً وتكراراً أنه: «نحن نحاول تجنب اشتعال حرب عالمية ثالثة». وبذلك يتضح أمامنا أننا تركنا التهديدات الروسية تحدد أفعالنا، الأمر الذي يشجع روسيا والآخرين على اختبار عزمنا.
في واقع الأمر، المشكلة أكبر حتى مما تبدو عليه، فبعد عشرين شهراً من تولي إدارة البلاد، لا تزال واشنطن تفتقر إلى استراتيجية عامة للأمن الوطني. ويخلق هذا الوضع صعوبة أمام الكونغرس فيما يخص مواءمة الإنفاق مع الاستراتيجية، ويصعب على الحلفاء مواءمة سياساتهم لدعم سياساتنا. وتقع جميع التوجيهات الاستراتيجية الصادرة من أسفل الهرم، بما في ذلك استراتيجية الدفاع الوطني والاستراتيجية العسكرية الوطنية، رهينة للتأخير في إقرار استراتيجية الأمن الوطني.
وبالنظر إلى مثال حديث، سنجد أنه حتى داخل الإدارة، لا يوجد توجيه ملزم يمنع رئيس هيئة الأركان المشتركة، الجنرال مارك ميلي، من معارضة مقترح الإدارة بإلغاء خطط تتعلق بصاروخ كروز نووي جديد (الذي أيده الكونغرس في مواجهة اعتراضات من البيت الأبيض).
قد يدعي البيت الأبيض أن مفاجآت مثل الاختراقات على صعيد الأسلحة النووية الصينية وغزو روسيا لأوكرانيا تتطلب مراجعات كبيرة لاستراتيجية الولايات المتحدة. بيد أنه في الحقيقة تتحسب الاستراتيجيات الجيدة ضد مثل هذه الأمور غير المؤكدة، لذا فإن اللوم يقع على قصور استراتيجية إدارة بايدن وافتقارها إلى بعد النظر ـ وليس الأحداث التي أدت إلى خروجها عن مسارها.
الحقيقة أن الفجوة بين ما تدعيه الإدارة كأهداف لسياستها الخارجية، وما هي مستعدة بالفعل لتنفيذه، تمثل مشكلة خطيرة للأمن الأميركي ولروسيا وما وراءها. في منتصف سبتمبر (أيلول)، قال الرئيس بايدن للمرة الرابعة، إنه إذا غزت الصين تايوان، فإن الولايات المتحدة سترسل قوات للدفاع عنها. وللمرة الرابعة، زعم مسؤولو الإدارة أن هذا التغيير الواضح في السياسة لا يمثل أي تغيير في السياسة.
الحقيقة أن الارتباك الذي تضفيه إدارة بايدن على رسالتها سيئ بما فيه الكفاية، لكن الأسوأ عن ذلك الثغرات الحقيقية في القدرات التي تدعو إلى التساؤل عما إذا كان بإمكان الولايات المتحدة حقاً الدفاع عن تايوان. يكشف الواقع أن السفن وأعداد القوات والطائرات والدفاعات الصاروخية الأميركية في المحيط الهادي لا ترقى لمستوى قدرة الصين.
من جانبه، يقدر مدير الاستخبارات الوطنية، أفريل هينز، أن التهديد الذي يواجه تايوان من الآن وحتى عام 2030 «حاد». ومع ذلك، فإن ميزانية الدفاع ليست موجهة لتوفير قدرات محسنة حتى منتصف عقد الثلاثينات من القرن الحالي. على نطاق أوسع، لا تمول إدارة بايدن جيشاً أميركياً قادراً على تنفيذ التزاماتنا الدفاعية بشكل مناسب، وهو وضع لا يخلو من خطورة فيما يتعلق بقوة عظمى. من جهته، أضاف الكونغرس الذي يقوده الديمقراطيون 29 مليار دولار العام الماضي، و45 مليار دولار هذا العام لطلب ميزانية وزارة الدفاع، في إشارة تكشف مدى عدم كفاية ميزانية بايدن.
علاوة على ذلك، على الرغم من أن وزارة الدفاع تعرف أن الصناعة تحتاج إلى عقود لسنوات لإبقاء خطوط الإنتاج مفتوحة، فإن ميزانية الدفاع التي طرحها بايدن تركز على جهود البحث والتطوير، بينما تبدو ضعيفة على صعيد مشتريات الأسلحة والذخيرة. وكشفت إمداداتنا لأوكرانيا عن نقص غير مقبول في الذخائر بالمخزونات الأميركية وعجز القدرة الصناعية عن إعادة الإمداد.
كما أن العيوب ليست عسكرية فقط، وإنما في الواقع، قد يمثل غياب سياسة اقتصادية دولية تساعد الولايات المتحدة ودولاً أخرى في تقليل اعتمادها على الصين مشكلة أكبر. ورغم أن استراتيجيتها تعتمد بشكل أساسي على دعم الحلفاء في مواجهة الصين، يبدو أن ما يسمى «السياسة الخارجية للطبقة الوسطى» لإدارة بايدن، مثلما جرى توضيحه خلال الحملة الانتخابية ومن جانب مستشار الأمن الوطني، من المتعذر تمييزها عن الحمائية التجارية لإدارة ترمب. ولن تعاود إدارة بايدن الانضمام إلى اتفاقية التجارة عبر المحيط الهادي، وأثارت غضب الحلفاء الآسيويين بسبب الحمائية التي ينطوي عليها قانون خفض التضخم، ولم تقدم سوى وعود غامضة بعقد مفاوضات مستقبلية ـ هذا بالتأكيد ليس وصفة تضمن النجاح.
كما أن هذه ليست الفجوات الوحيدة بين السياسة المعلنة من ناحية ومستويات الاستعداد والقدرة على تنفيذ السياسة من ناحية أخرى. وعلى ما يبدو، تفتقر الإدارة إلى استراتيجية فاعلة لمواجهة المخاطر التي تشكلها كوريا الشمالية المسلحة نووياً، بخلاف التصريحات الفارغة بأننا لن نسمح لكوريا الشمالية بامتلاك أسلحة نووية، على الرغم من أن الخبراء يعتقدون أن القيادة في بيونغ يانغ قد تمتلك العشرات منها بالفعل.
وانظر إلى إيران، حيث اتبعت الإدارة استراتيجية تُعرف باسم «المزيد مقابل المزيد» ـ أي المزيد من تخفيف العقوبات مقابل مزيد من القيود على البرنامج النووي الإيراني ـ ومع ذلك لا يمكنها حتى الفوز بموافقة إيران على العودة إلى شروط اتفاق 2015.
علاوة على ذلك، فإنَّ الحرب ضد إيران بالتأكيد لن تكون بداية لرئيس تخلى عن أفغانستان، وهو فعلياً غير مبالٍ بمصير العراق وسوريا.
عند التحدث مع الأوكرانيين بكييف في منتصف سبتمبر، كان من المذهل مدى قدرتهم على الاستراتيجية بشكل أفضل من إدارة بايدن. إنهم يفهمون – وينقلون بلا هوادة من كل قسم – أن نجاحهم يعتمد على الدعم الغربي، وأن الغرب لديه مصلحة أخلاقية وجيوسياسية في فوز أوكرانيا. اعترف الرئيس فولوديمير زيلينسكي بأنه كان يتعرض لضغوط من بعض الحكومات الغربية لتقديم تنازلات لجعل المفاوضات ممكنة، وقلب القضية: «نحن بدلاً من ذلك نضع الشروط لجعل المفاوضات ممكنة»، قال لي: إعادة توجيه حادة، ولكن دبلوماسية لحماية أوكرانيا ضد فشل الغرب في العزم. تعزز الخطوط العسكرية والاقتصادية والسياسة الخارجية لاستراتيجية أوكرانيا بعضها البعض، ما يمنح قوة أكبر لكل منها. هذا ما تبدو عليه استراتيجية الحكومة بأكملها عند التنفيذ.
من خلال تحليل الاستراتيجية الروسية في مجلة «فورين أفيرز»، خلص ليانا فيكس، المؤرخ وعالم السياسة، ومايكل كيميج من الجامعة الكاثوليكية مؤخراً، إلى أن فشل روسيا يأتي من «مطابقة الأهداف السياسية الباهظة في أوكرانيا بوسائل هزيلة وغير منظمة بشكل فعال». وعلى الرغم من أنه من المغري أن نتعجب من عدم الكفاءة الاستراتيجية لروسيا، يجب أن نشعر بالقلق من أن أوجه القصور الخطيرة التي تظهرها روسيا تطارد أيضاً استراتيجيتنا للأمن القومي. نحن نجازف بارتكاب الأخطاء نفسها التي ارتكبها فلاديمير بوتين، من خلال المبالغة في تقدير قوتنا العسكرية، وإعاقة التعاون الدولي الأساسي مع سياساتنا الاقتصادية، والتصديق على تصريحاتنا على الرغم من أفعالنا التي تقوضها.
الشرق الأوسط