مع قرب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية، المقرر أن تجري في الثامن من نوفمبر 2016، تصدر ملف السياسة الخارجية أجندة مرشحي الحزبين الديمقراطي والجمهوري للانتخابات القادمة لتعدد الأزمات التي تواجهها الولايات المتحدة خارجيا، ولإخفاقات السياسة الخارجية لإدارة الرئيس باراك أوباما في مواجهتها. وفي سياق اختلاف رؤية المرشحين للاستراتيجية المثلي لاستعادة الولايات المتحدة دورها علي الساحة الدولية، نشر إيان بريمر -الذي يشغل منصب رئيس ومؤسس مجموعة الأوروآسيوي المتخصصة في أبحاث المخاطر السياسية والاستشارات- كتابه الذي يتناول التطورات التي طرأت علي السياسة الخارجية الأمريكية، والخيارات المتاحة أمام صانع القرار الأمريكي لاستعادة فاعليتها، في ضوء التحديات الجمة التي تواجهها علي المسرح الدولي، ولاحتفاظ الولايات المتحدة بمكانتها عالميا لتظل القوة الأكثر نفوذا وتأثيرا في مواجهة القوي الدولية الصاعدة.
أهم ملفات السياسة الخارجية أمام الرئيس القادم:
أشار بريمر إلي خلال السنوات الأخيرة، أثبتت القوي الصاعدة (الصين، وروسيا، والهند، والبرازيل) قدرتها علي رفض قيادة الولايات المتحدة الأمريكية للنظام الدولي، وازدادت رغبتها في فرض سيطرتها ونفوذها في مناطق وجودها الحيوي. ويري المؤلف أنه علي الرغم من أن النظام العالمي الذي تشكل بعد نهاية الحرب الباردة، والذي تهيمن عليه الولايات المتحدة، والذي يبدو أنه في طريقه للفناء، فإن القوي الدولية الصاعدة تواجه تحديات إقليمية معقدة تجعلها غير قادرة علي تقديم بديل حقيقي للقيادة الأمريكية، حيث لا توجد أي قوة منفردة أو تحالف قوي يستطيع أن يقدم نسقا للقيادة العالمية مغايرا للذي قدمته الولايات المتحدة بعد تربعها علي قمة النظام الدولي، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي السابق.
وعن أهم قضايا السياسة الخارجية التي ستواجه الرئيس الأمريكي القادم، يري بريمر أن التفوق الصيني سياسيا، وعسكريا، واقتصاديا يعد أهم تلك الملفات في ظل ما تملكه بكين من استقرار اجتماعي، وإمكانيات اقتصادية ستؤثر بشكل كبير في الاقتصاد العالمي. ولهذا، يتوقع بريمر أن يكون الموقف أكثر خطورة خلال الأعوام القادمة، خاصة مع سعي اليابان – تحت قيادة رئيس وزرائها شينزو أبه – لاستعادة دورها القيادي والريادي في القارة الآسيوية، وإعادة المكانة للجيش الياباني ليكون قوة موازنة للنفوذ الصيني في القارة الآسيوية، وهو الأمر الذي يشير إلي مواجهة وشيكة بين الصين واليابان. ويري بريمر أن الصراع الروسي – الغربي هو ثاني أهم القضايا علي أجندة السياسة الخارجية الأمريكية للرئيس القادم.
خيارات السياسة الخارجية الأمريكية:
أوضح بريمر أن الولايات المتحدة الأمريكية طبقت ثلاث استراتيجيات في سياساتها الخارجية خلال القرن الماضي، هي:
أولا- استراتيجية “الاستثناء الأمريكي” علي المستوي العالمي، أو بمعني آخر استراتيجية “الولايات المتحدة التي لا غني عنها”. ويعود تاريخها إلي أواخر الأربعينيات من القرن الماضي. وهي تقوم علي التحالفات والتدخلات العسكرية، وتوفير السلع الرئيسية. ويعتقد بريمر أن الولايات المتحدة لم تعد تمتلك التأثير اللازم للقيام بهذا الدور أكثر من ذلك، فالرأي العام الأمريكي غير راغب فيه، خاصة إذا تعلق الأمر بحرب مع الصين أو مع روسيا.
ثانيا- استراتيجية “إدارة الولايات المتحدة كشركة”. يري بريمر أن تلك الاستراتيجية تقوم علي حساب ما تنفقه الولايات المتحدة، وسبل تقليل التكلفة، وتعظيم المنافع، لأنها لا تستطيع أن تواجه كل التحديات الدولية، ومن ثم يجب أن تكون الأولوية للدفاع عن المصالح الأمريكية المهددة حول العالم، دون فرض قيمها. لذا، يتعين علي الولايات المتحدة أن تساعد حلفاءها بالسبل التي تهدف إلي تحقيق أمن وازدهار الشعب الأمريكي. إلا أن بريمر يعترف بأن هذه الاستراتيجية لن تنجح، فأمريكا ليست شركة، ولا يمكنها التصرف بهذا المنطق.
ثالثا- استراتيجية “الاستقلال الأمريكي”، التي تهدف إلي تقليل الولايات المتحدة من التزاماتها الدولية بشكل كبير، وأن تتمحور حول الداخل أولا، وأن تخفض من نفقاتها العسكرية علي حاملات الطائرات، والأمن الوطني، والاستخبارات، وحماية فضائها الإلكتروني، فضلا عن منح الولايات المتحدة للصين وروسيا فضاء استراتيجيا ومناطق نفوذ، وتتوقف عن كونها الضامن الأمني، والملاذ الأخير لمنطقة حلف الشمال الأطلسي واليابان، بالإضافة إلي انسحابها بشكل كامل من منطقة الشرق الأوسط.
وفي نهاية تناوله للاستراتيجيات الثلاث الحاكمة للسياسة الخارجية الأمريكي، رأي المؤلف أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تكن لديها استراتيجية واضحة لسياساتها الخارجية خلال الربع الأخير من القرن الماضي، مشيرا إلي أن دورها تلخص في كونه رد فعل ومتابعة لتنامي النفوذ الروسي والصيني علي الساحة الدولية.
بين الاستقلالية والدور القيادي:
يبدي بريمر اهتماما خاصا باستراتيجية “الاستقلال الأمريكي”، حيث يري أنه قد حان الوقت للتحلل من مسئولية حل مشاكل الآخرين، فالولايات المتحدة يتم استنزافها من خلال التزاماتها بالدفاع عن حلفائها. ويتساءل بريمر: “لماذا تقود الولايات المتحدة حربا للدفاع عن لاتفيا أو استونيا، إن لم تشارك ألمانيا -إحدي أغني دول العالم- بالنصيب الأكبر في التكلفة”. ويرتب علي ذلك أنه ينبغي أن تتورط الولايات المتحدة في حروب وأزمات مثل العراق، وأفغانستان، والصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، وأوكرانيا، في حين تهتم القوي الدولية الأخري بجني ثمار التورط الأمريكي في النزاعات الدولية. لذا، لزم عليها أن تستقيل من دورها كشرطي العالم، وتساعد شركاءها التقليديين للاعتماد علي أنفسهم.
يقدم بريمر طرحا حول ما إذا أعادت أمريكا توجيه الأموال التي تهدرها علي سياسة خارجية فاشلة – علي حد وصفه- تجاه بناء الولايات المتحدة داخليا كزيادة الإنفاق علي التعليم، والبنية التحتية، وفوائد للمحاربين القدامي، وتخفيض الضرائب، مما يسهم في تمكين أفراد الشعب الأمريكي لإدراك إمكانياتهم وقدراتهم البشرية. واستكمل الكاتب رأيه بأن التخندق يتم بطريقة حكيمة وفق جدول زمني لا يقل عن عشر سنوات، حتي لا تتخلي أمريكا عن حلفائها بين عشية وضحاها. كما ينبغي علي الرئيس الأمريكي القادم أن يعمق الدبلوماسية الأمريكية مع الصين وروسيا لإثنائهما عن القيام بأعمال من شأنها زعزعة الاستقرار في المناطق الاستراتيجية للولايات المتحدة، بالإضافة إلي ضرورة مضاعفة الجهود لزيادة التعاون، وتقاسم الأعباء لمواجهة التهديدات والتحديات المشتركة.
وقد خلص بريمر في مؤلفه إلي أنه علي الرغم من أن كافة المعطيات تدفع نحو خيار الاستقلال والتراجع، فإن صانعي القرار من الحزبين (الجمهوري والديمقراطي) يرفضون هذا الخيار.
إيان بريمر
عرض:أحمد محمود مصطفى