صندوق النقد يظهر مرونة مع مصر وتونس حفاظا على السلم الاجتماعي

صندوق النقد يظهر مرونة مع مصر وتونس حفاظا على السلم الاجتماعي

القاهرة/تونس- كشفت المناقشات التي جرت بين خبراء صندوق النقد الدولي ومسؤولين من كل من مصر وتونس أخيرا بشأن حصول كليهما على قرض أن سياسة الصندوق تعكس مرونة نسبية في التعامل مع الدول النامية، بما يشير إلى رغبته في منع تفاقم الأزمات الاقتصادية والحفاظ على السلم الاجتماعي في البلدين.

وتعوّل مصر وتونس كثيرا على نتائج القرض الجديد من الصندوق لتخفيف حدة الأزمات الداخلية بعد ارتفاع أسعار الكثير من السلع والخدمات وما نجم عن ذلك من تململ اجتماعي يمكن أن تتفاقم مخاطره في الفترة المقبلة، حيث باتت الحكومة في الدولتين مطالبة بالوفاء باستحقاقات عاجلة لمنع اتساع نطاق الغليان الاجتماعي.

وتخالف الطريقة المرنة في تعامل صندوق النقد مع مصر وتونس تقديرات سائدة حول عدم مراعاته كثيرا الأبعاد الاجتماعية في سياساته مع الدول المقترضة، وأنه يضع دوما وصفات اقتصادية قاسية تزيد الأعباء على كاهل المواطنين.

وقالت مديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا جورجيفا الأسبوع الماضي إن السياسات المالية لا يمكن أن تظل كما هي في ظل تشديد السياسة النقدية لأن أزمة ارتفاع تكلفة المعيشة تضرب طبقات من المجتمع بشكل عنيف، وهو ما يعكس إدراكا متزايدا من الصندوق لخطورة التشدد في فرض الشروط على الدول قبل منحها القروض.

وأعلن وزير المالية المصري محمد معيط الأحد الانتهاء من الاتفاق مع صندوق النقد الدولي على مستوى الخبراء على مكونات البرنامج الخاص بالبلاد، ما يعني قرب الإعلان عن الاتفاق النهائي بين الجانبين، وهو ما تنتظره القاهرة كي تتمكن من الوفاء بعدد من التزاماتها الاقتصادية المؤجلة.

وعقد وفد مصري مناقشات ثنائية مثمرة مع خبراء صندوق النقد الدولي على هامش الاجتماعات السنوية للصندوق والبنك الدوليين في واشنطن أخيرا.

وبدأت مصر محادثات مع صندوق النقد بشأن حزمة دعم مالي في مارس الماضي بعد فترة وجيزة من اندلاع الأزمة الأوكرانية التي أدت إلى انزلاق الأوضاع المالية المضطربة بالفعل إلى المزيد من الفوضى، ودفعت عددا من المستثمرين في مصر إلى سحب نحو 20 مليار دولار من سوق سندات الخزانة المصرية.

وتريد القاهرة الحصول على حزمة مساعدات جديدة من صندوق النقد كوسيلة تكبح بها أزمة شح العملة الأجنبية التي أفضت إلى تقييد حركة الاستيراد، وأثارت قلقا كبيرا في السوق المحلية بسبب عدم توافر بعض السلع المستوردة وقطع غيار السيارات وسلع كهربائية عديدة، فضلا عن تزايد فرص عجز الحكومة عن الوفاء بأعباء الديون.

وذكر بيان لصندوق النقد مساء السبت أن السياسات التي جرت مناقشتها مع الوفد المصري شملت السياسة النقدية وسعر الصرف، بما يمكن القاهرة من إعادة بناء احتياطياتها الأجنبية تدريجيا وعلى نحو مستدام، وتقليل الدين العام، وتوسيع شبكة الأمان الاجتماعي وزيادة التنافسية في الاقتصاد.

وتسعى مصر للتوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد للحصول على قرض لم تعلن قيمته رسميا، لكن بنوك استثمار أميركية قدرته بنحو 15 مليار دولار.

وعلى الصعيد التونسي، قالت وزيرة المالية سهام بوغديري إن التوصل إلى اتفاق مع خبراء صندوق النقد بشأن قرض جديد سيفتح المجال لتمويلات من مانحين دوليين، ويمكّن البلاد من استعادة الاستقرار الاقتصادي والمالي.

وأعلن صندوق النقد السبت عن اتفاق أولي على مستوى الخبراء لمنح تونس قرضا بقيمة 1.9 مليار دولار على مدى 48 شهرا، بهدف إنعاش المالية العمومية.

وقال الخبير الاقتصادي التونسي المتخصص في علوم المالية والمصرفية محمد صالح الجنّادي لـ”العرب” إن “صندوق النقد الدولي بادر بعملية استباقية من خلال الاتفاق لفتح الباب أمام الإصلاحات، وهذه الخطوة يمكن أن تدفع الحكومة للتفاوض مع النقابات، ووضعها أمام الأمر الواقع للقيام بالإصلاحات المطلوبة”.

ويرى المحلل السياسي التونسي منذر ثابت أن الاتفاق يحمل “رسالة ذات وجهين، مفادها أنه لا توجد قطيعة بين واشنطن وقرطاج وليس ثمّة رضا تام عمّا يفعله الرئيس قيس سعيد، والمرونة تكمن في أن الصندوق مكّن الحكومة من جرعة أكسجين لمواجهة الأزمات الداخلية، وبذلك فإن عملية التعديل بين الأجور والأسعار ستكون متاحة”.

ويتعين على تونس المضي قدما في إصلاحات مُلحة كانت محور مفاوضات مع مسؤولي الصندوق على مدى عدة أشهر، تشمل أساسا التحكم في كتلة الأجور ومراجعة نظام الدعم وإصلاح المؤسسات العمومية المتعثرة.

وحذر معارضون والاتحاد العام التونسي للشغل من حدوث انفجار اجتماعي محتمل إذا لم تتم تلبية احتياجات الناس.

وقال المحلل السياسي التونسي محمد ذويب “من المؤكد أن صندوق النقد الدّولي يأتمر بأوامر قوى فاعلة، وأكيد أن القوى الخارجية الكبرى وخاصة الولايات المتحدة لا تضع تونس أولوية لها الآن خاصة أمام أزمة روسيا وأوكرانيا. كما أن الوضع في ليبيا ومصالحها في الجزائر فرضا عليها دعم تونس ولو مرحليا للمزيد من ضمان استقرار الأوضاع”.

وأضاف لـ”العرب”، “هذه الظروف هي التي جعلتها تدعم تونس لضمان استقرار المنطقة خاصة وأنه لا توجد بدائل سياسية يمكن الاعتماد عليها كبديل لقيس سعيد الذي فشل في إدارة المرحلة”.

وأشار الصندوق إلى تحديات بنيوية كبرى تواجه تونس في ظل “اختلالات عميقة في الاقتصاد الكلّي، ونمو ضعيف للغاية رغم إمكاناتها القوية، ومعدّل بطالة مرتفع للغاية، واستثمار ضعيف للغاية، وتفاوتات اجتماعية”.

ويشمل البرنامج المتفق عليه بين الصندوق والحكومة التونسية تغييرات لتوسيع قاعدة الضرائب وتوسيع تغطية شبكة الأمان الاجتماعي لمساعدة الأشخاص الأكثر فقرا على مواجهة ارتفاع الأسعار، وسن قانون يحكم إصلاح الشركات المملوكة للدولة.

وأوضح أمين عام اتحاد المستثمرين العرب جمال بيومي أن الصندوق لا يتدخل بقوة في شؤون الدول كما يتردد أحيانا، لكنه يرغب في التأكد من مدى قدرة الحكومات على سداد القروض التي تحصل عليها.

وأضاف لـ”العرب” أن بعض الدول العربية مساهمة ومن ملاك الصندوق وإن كانت حصصها ضئيلة، وغالبيتها علاقاتها طيبة بالمسؤولين فيه، وهناك شخصيات عربية تقلدت مناصب منذ سنوات في الإدارة التنفيذية للصندوق.

وتقوم العلاقة بين الصندوق والدول على التفاوض، حيث تتقدم الحكومات بطلب إليه، والإدارة قد توافق أو لا، وتسهم مهارات التفاوض مع الصندوق في عدم تنفيذ بعض القرارات القاسية التي يتضرر منها الفقراء.

وقال مدير مركز العاصمة للدراسات الاقتصادية بالقاهرة خالد الشافعي إن دولا كبرى مثل الولايات المتحدة تملك حصة كبيرة في صندوق النقد تؤثر في سياساته بشكل غير مباشر.

وذكر لـ”العرب” أن هناك حكومات تصرح بأن الصندوق يهدف إلى الحفاظ على السلم الاجتماعي، لأنها تعاني من أزمة سيولة وبحاجة إلى كسب ثقة المستثمرين على مستوى العالم، لافتًا إلى ضرورة عدم خضوع المسؤولين في الدول العربية للسياسات القاسية للصندوق ، وأن تصبح مفاوضاتهم واضحة وفي صالح الطبقات المهمشة.

العرب