أواسط هذا العام بدا مشهد التفاوض النووي مع إيران مشابهاً في توتره وغموضه لما كان عليه الحال قبيل عام 2015، العام الذي شهد توقيع الاتفاق الشهير. شهدنا الحالة ذاتها من انفتاح الاحتمالات وحديث المفاوضين عن مقترحات ومسودات، واللافت أنه، ومثلما كان الأمر في الاتفاق الأول، لم يتم طرح كل التفاصيل بشكل واضح للرأي العام. بين مزدوجين يمكن التذكير بأن الاتفاق الأصلي ما تزال بعض جوانبه غامضة، وهو ما أدى لأن يكون لكل طرف تفسيراته الخاصة له.
ليس هذا هو التشابه الوحيد، فمثلما كان الحال في أواسط العشرية الماضية، عملت إيران على تقوية موقفها، بتحريك المجموعات المؤيدة لها، أو المدعومة من قبلها ودفعها للقيام بعمليات أو هجمات لجعل المجتمع الدولي يشعر بأهمية أن يكون على وفاق معها.
يجعلنا هذا نذهب للقول إن إيران، وعلى الرغم من كل ما مرت به من مصاعب، إلا أنها لم تقتنع بعد بأن هذه السياسة المعتمدة على توتير المنطقة، لا تساعد كثيراً في تسريع الوفاق بقدر ما تعمل على زيادة الخشية والشكوك. مع وجود تباعد في المواقف ما بين واشنطن وطهران، إلا أن هذه المقارنة السياقية جعلت كثيراً من الخبراء والمتابعين يتفاءلون بقرب التوصل لاتفاق جديد، معتبرين أن منطق الرئيس باراك أوباما ومنهجه الذي سرّع الحصول على «الصفقة النووية» قبل سبعة أعوام ما يزال سائداً في حلبات التفاوض. كانت تلك «الصفقة» مبنية باختصار على مقاربة إدماج إيران في الخريطة السياسية والاقتصادية الدولية، مقابل قيامها بتنازلات مهمة في ما يتعلق بالبرنامج النووي. تحصل إيران وفقاً لهذا على مبالغ مالية كبيرة كانت محتجزة لسنوات، وعلى حرية أكثر في تصدير مواردها، خاصة النفطية منها، مقابل تعهدات بأن لا يكون الحصول على السلاح النووي مطروحاً خلال السنوات المقبلة.
عهد بايدن لم يكن امتداداً لسياسة أوباما، والدليل على هذا التعقيد الذي شهدته محاولات استعادة الصفقة النووية، وكانت رسالة إدارة بايدن أنها لن تسعى لاتفاق بأي ثمن
هذا المنطق الأوبامي لم يكن مقنعا للجميع، لا إبان ظهوره في التفاوض الأول ولا في الفترات اللاحقة، فمنذ البداية كانت هناك مجموعة من التساؤلات التي لم تكن تجد إجابة شافية، أهمها سؤال عما إذا كان مجرد «تأجيل» الحصول على السلاح النووي يمكن أن يكون مقابلاً كافياً لكل ما سوف يتم تقديمه لإيران. بالنسبة لدول الجوار الإيراني كانت هناك خشية من أن تستفيد إيران من المبالغ المالية الكبيرة التي سوف تحصل عليها في التوسع في زعزعة أمن المنطقة، واستهدافها من قبل أذرعها العسكرية، كما كانت هناك خشية من أن استيعاب إيران بشكل كامل في حركة التجارة العالمية، قد يعني استيعابها في تجارة السلاح بشكل مقنن أيضاً، وهي نقطة تثير مخاوف كثيرة، لأنه ليس هناك ما يضمن ألا تستفيد إيران من ذلك، في التوسع في صناعة الأسلحة الفتاكة، وفي بيعها لجهات مشبوهة أو إرهابية. في هذا السياق لا تساعد تصريحات مثل تصريح رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية محمد باقري، الذي قال إنه «إذا رفعت العقوبات الأمريكية فإن بلاده ستصبح أحد أكبر مصدري الأسلحة في العالم»، على تطمين المعترضين أو تخفيض الشكوك. كلام باقري الذي يؤكد التطور الذي أحرزته إيران في مجال الصواريخ الباليستية والطائرات من دون طيار والقوات البحرية، يدفع كثيرين للتساؤل، أنه إذا كان كل هذا تم والبلاد في حالة حصار، فما بالك بالوضع بعد فتح طرق التبادل التجاري ووقف تجميد المبالغ المالية؟ يزيد من هذه الشكوك أن عمليات إيران الخارجية لم تتوقف، بل هي في تمدد دائم واشتباك مع مناطق لم تكن في حالة توتر، أو أي نوع من الحروب معها. على سبيل المثال شهد شهر مارس/آذار من هذا العام استهداف الحرس الثوري الإيراني لمدينة أربيل، بحجة تطبيع كردستان العراق مع الكيان ووجود مراكز إسرائيلية فيها، وهو ما تكرر نهاية الشهر الماضي، عبر استهداف «الحرس الثوري» ما اعتبر أنه مجموعات كردية مسلحة معارضة لإيران وهو الهجوم الذي أسفر عن مقتل الكثير من الضحايا المدنيين العراقيين. لم تعد الهجمات الإيرانية تقتصر على استخدام الصواريخ والأسلحة، فقد تابع الجميع أخبار الهجوم السيبراني الموسع على مواقع حكومية وحساسة في ألبانيا، بذريعة استضافتها لمؤتمر لجماعة «خلق» الإيرانية المعارضة، تلك الحادثة الصادمة أدت إلى أن تعلن السلطات الألبانية الإغلاق الفوري للسفارة وطرد الدبلوماسيين الإيرانيين منهية حقبة من العلاقات الجيدة نسبياً. مثل هذه التصرفات كانت تزيد من حاجز عدم الثقة وتجعل أطرافا كثيرة غير متحمسة لاتمام الاتفاق مع إيران، التي لا يظهر أنها سوف تستفيد من مزاياه الاقتصادية فقط في تحسين الظروف الاجتماعية للناس، أو حل ما تعيشه من أزمة تضخم وعجز.
بعد نهاية حقبة أوباما ووزير خارجيته جون كيري، اللذين كانا متحمسين جدا للاتفاق لحد القيام بدعاية ضخمة لإقناع الأطراف الإقليمية والدولية بقبوله، دخلت الولايات المتحدة حقبة الرئيس الجمهوري دونالد ترامب، الذي كان وصف هذا الاتفاق بأنه «الأسوأ على الإطلاق». ترامب لم يلبث أن أعلن انسحاب الولايات المتحدة، ما كان يعني فعلياً انهيار الصفقة النووية. كان ترامب يشترك مع المشككين في وجهة نظرهم وهو يعتبر أنه ليس من المقبول أن يتجاوز الاتفاق مع إيران ما يتعلق بضمانات السلوك. اعتبر الرئيس الأمريكي السابق وفقاً لهذا أن من الضروري، إما إلغاء الاتفاق تماماً أو إنجاز اتفاق جديد يتضمن شروطًا أكثر صرامة متعلقة بإدماج طهران في المنظومة الدولية. خليفة ترامب الديمقراطي جو بايدن، وعلى الرغم من الاختلافات الكثيرة مع السياسات الجمهورية، إلا أنه كان أقرب للسياسة الترامبية المتشككة في ما يتعلق بإيران. على عكس ما ظنه كثيرون، فإن عهد بايدن لم يكن امتداداً لسياسة أوباما، وأوضح دليل على هذا هو التعقيد الذي شهدته محاولات استعادة الصفقة النووية، حيث كانت رسالة إدارة بايدن واضحة في ذلك بأنها لن تسعى لاتفاق بأي ثمن. في مقابل هذه الرؤية كان الداعمون للاتفاق في المعسكر الغربي يشرحون أنهم ليسوا داعمين لإيران بشكل مطلق، ولكنهم يرون أن من المهم اقناعها بالعودة لنسب التخصيب، التي حددت مسبقاً والتي تجاوزتها منذ أمد. يستند هؤلاء الداعمون في تعضيد رؤيتهم إلى تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، التي تحذر من قرب وصول إيران لهدفها النووي بالنظر لكمية اليورانيوم المخصب التي تملكها ولغير ذلك من المؤشرات. الحديث عن ذوبان نهائي للاتفاق النووي ولجهود التفاوض ربما يكون مبالغاً، فما يزال تحول إيران لدولة نووية مقلقاً، لكن يمكن القول إن الدول لم تعد جميعها تنظر لهذا الملف كأولوية، فبينما تنشغل تل أبيب وبعض العواصم العربية بالمسألة الإيرانية، وترى فيها خطراً وجودياً يجب احتواؤه أو تحييده، تنشغل معظم العواصم الغربية بالأزمة الأوكرانية وما ارتبط بها من أزمات طاقة وتضخم وكساد وتهديدات روسية. اليوم تنحصر التعليقات المتابعة للأحداث الإيرانية حول حالة حقوق الإنسان، على خلفية مقتل الشابة مهسا أميني، أو حول قضايا جزئية من قبيل انتهاك إيران لحظر السلاح ومتابعتها تقديم صواريخ ومسيرات لروسيا. بخلاف ذلك، فإنه بات من النادر التطرق للموضوع النووي، الذي بدا وكأنه دخل مرحلة سبات مؤقت.
القدس العربي